منهج السلف - 6 - الحسين بن علي الكرابيسي

منهج السلف الصالح في التعامل مع أخطاء العلماء - 6 -
الحسين بن علي الكرابيسي
أبو علي الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي ([1]) الفقيه؛ الشافعي؛ العلامة؛ صاحب التصانيف.
روى عن: الشافعي، وإسحاق بن يوسف الأزرق، ومعن بن عيسى، وشبابة بن سوار، وأبي قطن عمرو ابن الهيثم، ويزيد بن هارون، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، ويعلى، ومحمد ابني عبيد الطنافسي، وغيرهم.
روى عنه: عبيد بن محمد البزار، ومحمد بن علي فستقة، والحسن بن سفيان، وغيرهم. وذكر ابن قاضي شهبة: أن البخاري رحمه الله أخذ عن الكرابيسي مسائل عن الشافعي.
قال الخطيب: "حديثه يعز جداً، لأن أحمد بن حنبل كان يتكلم فيه بسبب مسألة اللفظ، وكان هو أيضاً كان يتكلم في أحمد؛ فتجنب الناس الأخذ عنه لهذا السبب".
قال الذهبي رحمه الله: "مقت الناس حسيناً لكونه تكلم في أحمد".
وقال: "ولما بلغ يحيى بن معين أنه يتكلم في أحمد؛ قال: ما أحوجه إلى أن يضرب؛ ثم لعنه".
قال جعفر بن أبي عثمان الطيالسي: "سمعت يحيى بن معين، وقيل له: إن حسيناً الكرابيسي يتكلم في أحمد بن حنبل؛ فقال: ومن حسين الكرابيسي لعنه الله؛ إنما يتكلم في الناس أشكالهم؛ ينطل حسين، ويرتفع أحمد. قال جعفر: ينطل: يعني ينزل، وهو الدردي الذي في أسفل الدن".
أول من أظهر اللفظ ([2]) وذلك سنة أربع وثلاثين ومئتين.
من أقوال أهل العلم فيه:
1-            قال ابن عبدالبر:"كان عالماً مصنفاً متقناً، وكانت فتوى السلطان تدور عليه، وكان نظاراً جدلياً، وكان فيه كبر عظيم، وكان يذهب مذهب أهل العراق إلى أن قدم الشافعي؛ فجالسه وسمع كتبه؛ فانتقل إلى مذهبه، وعظمت حرمته، وله أوضاع ومصنفات كثيرة نحو مئتي جزء، وكانت بينه وبين أحمد صداقة وكيدة؛ فلما خالفه في القرآن عادت تلك الصداقة عداوة، وكان كل منهما يطعن على صاحبه، وهجر الحنابلة حسيناً الكرابيسي، وبدعوه، وطعنوا عليه، وعلى كل من قال بقوله".
2-            وقال ابن حبان: "أبو علي الكرابيسي؛ ممن جمع وصنف، وممن يحسن الفقه والحديث، ولكنه أفسده قلة عقله؛ فسبحان من رفع من شاء بالعلم اليسير، حتى صار علماً يقتدى به، ووضع من شاء مع العلم الكثير، حتى صار لا يلتفت إليه".
3-            وقال الشيرازي: "كان متكلماً عارفاً بالحديث؛ له تصانيف كثيرة في أصول الفقه، وفروعه".
4-            وقال ابن عدي رحمه الله: "للحسين الكرابيسي كتب مصنفة ذكر فيها اختلاف الناس من المسائل، وكان حافظاً، وذكر في كتبه أخباراً كثيرة، ولم أجد منكراً غير ما ذكرت من الحديث ([3]) والذي حمل أحمد عليه؛ من أجل اللفظ في القرآن؛ فأما في الحديث؛ فلم أر به بأساً".
5-            وقال الخطيب: "كان فهماً عالماً، وله تصانيف كثيرة في الفقه، وفي الأصول؛ تدل على حسن فهمه، وغزارة علمه".
6-            وقال النووي: "الحسين بن على بن يزيد الكرابيسي البغدادي؛ صاحب الإمام الشافعي رضى الله عنه، وأشهرهم بإثبات مجلسه، وأحفظهم لمذهبه، وهو أحد رواة مذهبه القديم ([4]) وكنيته أبو على، وله تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه، وكان متكلماً عارفاً بالحديث، وصنف أيضاً في الجرح والتعديل وغيره، وأخذ عنه الفقه خلق كثير".
7-            وقال الذهبي: "الإمام الفقيه المتكلم؛ كان متضلعاً في الفقه والأصول، والحديث، ومعرفة الرجال".
8-            وقال: "العلامة فقيه بغداد صاحب التصانيف؛ تفقه بالشافعي، وكان من بحور العلم؛ ذكياً فطناً فصيحاً لسناً؛ تصانيفه في الفروع والأصول تدل على تبحره".
9-            وقال: "وقفت على كتاب القضاء للكرابيسي في مجلد ضخم؛ فيه أحاديث كثيرة وآثار ومباحث مع المخالفين وفوائد جمة؛ تدل على سعة علمه وتبحره، ويقال: إنه من جملة مشايخ البخاري صاحب الصحيح ([5])".
10-      وقال العبادي: "لم يتخرج على يدي الشافعي بالعراق مثل الحسين".
11-      وقال السبكي: "أستاذ في الحديث، والفقه".
12-      وقال: "كان إماماً جليلاً جامعاً بين الفقه والحديث؛ تفقه أولاً على مذهب أهل الرأي؛ ثم تفقه للشافعي".
13-      وقال الصفدي: "كان الكرابيسي من كبار الفقهاء".
14-      وقال ابن خلكان: "أبو علي الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي البغدادي؛ صاحب الإمام الشافعي، رضي الله عنهما، وأشهرهم بانتياب مجلسه وأحفظهم لمذهبه، وله تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه، وكان متكلماً عارفاً بالحديث، وصنف أيضاً في الجرح والتعديل، وغيره، وأخذ عنه الفقه خلق كثير".
15-      وقال ابن حجر: "تفقه ببغداد؛ سمع الحديث الكثير، وصحب الشافعي، وحمل عنه العلم، وهو معدود في كبار أصحابه".
مات سنة ثمان وأربعين ومئتين.
ما نقمه أهل العلم على الكرابيسي:
أولاً: قوله: (لفظي بالقرآن مخلوق):
قال أبو الطيب الماوردي:"جاء رجل إلى أبي علي الحسين بن علي الكرابيسي؛ فقال: ما تقول في القرآن؟ فقال حسين الكرابيسي: كلام الله غير مخلوق؛ فقال له الرجل: فما تقول في لفظي بالقرآن؟ فقال له حسين: لفظك بالقرآن مخلوق؛ فمضى الرجل إلى أبي عبدالله أحمد بن حنبل؛ فعرفه أن حسيناً قال له: إن لفظه بالقرآن مخلوق ([6]) فأنكر ذلك، وقال: هي بدعة؛ فرجع الرجل إلى حسين الكرابيسي؛ فعرفه إنكار أبي عبدالله أحمد بن حنبل لذلك، وقوله: هذا بدعة. فقال له حسين: تلفظك بالقرآن غير مخلوق؛ فرجع إلى أحمد بن حنبل؛ فعرفه رجوع حسين، وأنه قال: تلفظك بالقرآن غير مخلوق؛ فأنكر أحمد بن حنبل ذلك أيضاً، وقال: هذا أيضاً بدعة. فرجع الرجل إلى أبي علي حسين الكرابيسي؛ فعرفه إنكار أبي عبدالله أحمد بن حنبل، وقوله: هذا أيضاً بدعة؛ فقال حسين: أيش نعمل بهذا الصبي؟ إن قلنا: مخلوق؛ قال: بدعة، وإن قلنا: غير مخلوق؛ قال بدعة. فبلغ ذلك أبا عبدالله؛ فغضب له أصحابه؛ فتكلموا في حسين، وكان ذلك سبب الكلام في حسين، والغمز عليه بذلك".
موقف الإمام أحمد وأهل العلم مما أحدثه الكرابيسي:
قال أبو داود: "سمعت أبا عبدالله يتكلم في اللفظية، وينكر عليهم كلامهم، وسمعت إسحاق بن راهويه ذكر اللفظية، وبدعهم".
وقال عبدالله بن أحمد: "سئل أبي - وأنا أسمع - عن اللفظية والواقفة؛ فقال: من كان منهم يحسن الكلام؛ فهو جهمي".
وقال: "سألت أبي عنمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق؟ فقال: هذا كلام الجهمية؛ قلت لأبي: إن الكرابيسي يفعل هذا؛ فقال: كذب هتكه الله؛ قال: وسألته عن حسين الكرابيسي؛ هل رأيته يطلب الحديث؟ فقال: لا؛ فقلت: هل رأيته عند الشافعي ببغداد؟ قال: لا؛ قال: وسألت أبا ثور عن الكرابيسي؛ فتكلم فيه بكلام سوء، وسألته: هل كان يحضر معكم عند الشافعي؟ قال: هو يقول ذلك، وأما أنا؛ فلا أعرف ذلك؛ قال: وسألت الزعفراني عن الكرابيسي؛ فقال نحو مقالة أبي ثور".
وقال الدورقي: "قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول في هؤلاء الذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق؟ فرأيته استوى واجتمع، وقال: هذا شر من قول الجهمية؛ من زعم هذا؛ فقد زعم أن جبريل تكلم بمخلوق، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمخلوق".
وقال الفضل بن زياد: "سألت أبا عبدالله عن الكرابيسي وما أظهره؛ فكلح وجهه ثم أطرق؛ ثم قال: هذا قد أظهر رأي جهم؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}؛ فممن يسمع؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فله الأمان حتى يسمع كلام الله)؛ إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها؛ تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأقبلوا على هذه الكتب".
وقال محمد بن الحسن الموصلي: "سألت أبا عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل، وقلت: يا أبا عبدالله أنا رجل من أهل الموصل، والغالب على أهل بلدنا الجهمية، وفيهم أهل سنة نفر يسير يحبونك، وقد وقعت مسألة الكرابيسي: نطقي بالقرآن مخلوق؛ فقال لي أبو عبدالله: إياك إياك وهذا الكرابيسي؛ لا تكلمه، ولا تكلم من يكلمه؛ أربع مرات، أو خمس مرات؛ قلت يا أبا عبدالله: فهذا القول عندك، وما تشعب منه يرجع إلى قول جهم؟ قال: هذا كله من قول جهم".
وقال أبو طالب:"سمعت أبا عبدالله؛ يقول: مات بشر المريسي، وخلفه حسين الكرابيسي".
وقال حسين الصايغ:"قلت لأبي عبدالله: إن الكرابيسي قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقال أيضاً: أقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق من كل الجهات، إلا أن لفظي بالقرآن مخلوق، ومن لم يقل: إن لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو كافر.فقال أبو عبدالله: بل هو الكافر، قاتله الله، وأي شيء قالت الجهمية إلا هذا؟ قالوا كلام الله، ثم قالوا: مخلوق، وما ينفعه، وقد نقض كلامه الأخير كلامه الأول؛ حين قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ مات بشر المريسي، وخلفه حسين الكرابيسي؛ ثم قال: أيش خبر أبي ثور؛ وافقه على هذا؟ قلت: قد هجره؛ قال: قد أحسن ([7]) قلت: إني سألت أبا ثور عمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: مبتدع؛ فغضب أبو عبدالله، وقال: أيش مبتدع؟! هذا كلام جهم بعينه؛ ليس يفلح أصحاب الكلام".
وقال محمد بن موسى الخولاني: "ناظرت الكرابيسي؛ فقال: أقول: القرآن بلفظي غير مخلوق، ولفظي بالقرآن مخلوق؛ فذكرت ذلك لأحمد؛ فقال: هو جهمي".
وقال يحيى بن خاقان: "سألت أحمد بن حنبل عن الكرابيسي؛ فقال: مبتدع".
قال ابن جرير الطبري: "وأما القول في (ألفاظ العباد بالقرآن) فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا عن تابعي قفا؛ إلا عمن في قوله الشفاء والعفاء، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى؛ أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل؛ فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني؛ قال: سمعت أبا عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل؛ يقول: اللفظية جهمية؛ يقول الله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}؛ ممن يسمع؟ قال ابن جرير: وسمعت جماعة من أصحابنا - لا أحفظ أسماءهم - يحكون عنه أنه كان يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي ([8]) ومن قال: غير مخلوق؛ فهو مبتدع؛ قال ابن جرير: ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله؛ إذ لم يكن لنا إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع، وهو الإمام المتبع".
تحرير المسألة:
الواجب على المسلم اعتقاد: أن الله تعالى متكلم؛ مادح نفسه بالتكلم؛ متكلم بما شاء؛ كيف شاء؛ متى شاء؛ تكلم بكلام لا مانع له ولا مكره، والقرآن كلامه؛ تكلم به على الحقيقة؛ فمن قال: إنه مخلوق؛ فهو كافر، وأول من قال بذلك؛ هم الجهمية، وقد أكفرهم السلف من أجل هذه المقولة - وغيرها - ثم إن الجهمية افترقت على ثلاث فرق: فرقة يقولون: القرآن مخلوق، وهم (المخلوقية). وفرقة تقف، ولا تقول: مخلوق، ولا غير مخلوق، وهم (الواقفة). وفرقة تقول: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة. وهم (اللفظية)، وهؤلاء انقسموا إلى فريقين: (اللفظية الخلقية)، وهم الذين يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، والتلاوة غير المتلو، والقراءة غير المقروء. و(اللفظية المثبتة)، وهم الذين يقولون: ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة، والتلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء.
أما الخلقية: فحقيقة قولهم: إن القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ مخلوق لم يتكلم الله به. وشبهتهم في ذلك؛ أن أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة، ونحن إنما نقرؤه بحركاتنا، وأصواتنا.
وأما المثبتة؛ فقد أرادوا تقويم السنة؛ فردوا باطلاً بباطل؛ فوقعوا في البدعة.
قال ابن تيمية: وقد بين الإمام أحمد بدعة هؤلاء - أي: اللفظية المثبتة - كما جهم الأولين وبدعهم - أي: اللفظية الخلقية - ([9]) قال: والمنصوص الصريح عن الإمام أحمد، وأعيان أصحابه، وسائر أئمة السنة والحديث؛ أنهم لا يقولون: ألفاظنا مخلوقة، ولا غير مخلوقة .. وذلك لأن التلاوة والقراءة؛ كاللفظ؛ قد يراد به مصدر: تلا يتلو تلاوة، وقرأ يقرأ قراءة، ولفظ يلفظ لفظاً، ومسمى المصدر هو فعل العبد وحركاته. وهذا المراد باسم التلاوة والقراءة واللفظ؛ مخلوق، وليس ذلك هو القول المسموع الذي هو المتلو. وقد يراد باللفظ: الملفوظ، وبالتلاوة: المتلو، وبالقراءة: المقروء، وهو القول المسموع، وذلك هو المتلو، ومعلوم أن القرآن المتلو الذي يتلوه العبد، ويلفظ به؛ غير مخلوق، وقد يراد بذلك مجموع الأمرين. وعليه؛ فلا يجوز إطلاق الخلق على الجميع، ولا نفي الخلق عن الجميع".
قلت: لا شك أن الملفوظ كلام الله، وهو غير مخلوق، والتلفظ الذي هو الحركة والصوت وإخراج الحروف؛ مخلوق؛ فالقارئ لم يحدث حروف القرآن، ولا معانيه، وإنما أحدث نطقه به. ولما كان اللفظ؛ قدراً مشتركاً بين هذا وهذا؛ لم يجوز الإمام أحمد؛ قول القائل: لفظي بالقرآن مخلوق، ولا: غير مخلوق؛ إذ أن كل واحد من الإطلاقين موهم؛ لذا كانت مقولة الكرابيسي (لفظي بالقرآن مخلوق) موهمة؛ تحتمل حقاً، وباطلاً؛ فمن ثم ردها الإمام أحمد، وشنع على قائلها.
قال ابن تيمية: "طريقة السلف والأئمة؛ أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية؛ فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً؛ نسبوه إلى البدعة أيضاً، وقالوا: إنما قابل بدعة ببدعة، ورداً باطلاً بباطل".
ثانياً: كتابه (المدلسين):
قال المروذي: "مضيت إلى الكرابيسي، وهو إذ ذاك مستور؛ يذب عن السنة، ويظهر نصرة أبي عبدالله؛ فقلت له: إن كتاب (المدلسين) يريدون أن يعرضوه على أبي عبدالله؛ فأظهر أنك ندمت حتى أخبر أبا عبدالله؛ فقال لي: إن أبا عبدالله رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق، وقد رضيت أن يعرض كتابي عليه، وقد سألني أبو ثور، وابن عقيل، وحبيش؛ أن أضرب على هذا الكتاب؛ فأبيت عليهم، وقلت: بل أزيد فيه، ولج في ذلك، وأبى أن يرجع عنه، فجيء بالكتاب إلى أبي عبدالله، وهو لا يدري من وضع الكتاب، وكان في الكتاب: الطعن على الأعمش، والنصرة للحسن بن صالح، وكان في الكتاب: (إن قلتم: إن الحسن بن صالح كان يرى رأي الخوارج؛ فهذا ابن الزبير قد خرج) ([10]) فلما قرئ على أبي عبدالله، قال: هذا قد جمع للمخالفين ما لم يحسنوا أن يحتجوا به؛ حذروا عن هذا، ونهى عنه".
وقال: "عزم حسن بن البزاز، وأبو نصر بن عبدالمجيد، وغيرهما؛ على أن يجيئوا بكتاب المدلسين الذي وضعه الكرابيسي يطعن فيه على الأعمش، وسليمان التيمي؛ فمضيت إليه في سنة أربع وثلاثين؛ فقلت: إن كتابك يريد قوم أن يعرضوه على أبي عبدالله، فأظهر أنك قد ندمت عليه. فقال: إن أبا عبدالله رجل صالح؛ مثله يوفق لإصابة الحق؛ قد رضيت أن يعرض عليه؛ لقد سألني أبو ثور أن أمحوه فأبيت.فجيء بالكتاب إلى أبي عبدالله، وهو لا يعلم لمن هو؛ فعلموا على مستبشعات من الكتاب، وموضع فيه وضع على الأعمش ([11]) وفيه: (إن زعمتم أن الحسن بن صالح كان يرى السيف؛ فهذا ابن الزبير قد خرج). فقال أبو عبدالله: هذا أراد نصرة الحسن بن صالح؛ فوضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد جمع للروافض أحاديث في هذا الكتاب ([12]) فقال أبو نصر: إن فتياننا يختلفون إلى صاحب هذا الكتاب؛ فقال: حذروا عنه".
التعليق:
على الرغم من أن اللفظية الخلقية لا ينكرون أن القرآن كلام الله كله حروفه ومعانيه، وأنه سبحانه يتكلم بصوت؛ إنما ينكرون أن يكون القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم؛ هو نفس كلام الله الذي ليس بمخلوق. ومن أن كلام الكرابيسي محتمل؛ فليس هو خطأ من كل وجه؛ بل قال الذهبي: إن ما ابتدعه الكرابيسي، وحرره في مسألة التلفظ وأنه مخلوق؛ حق. ونقل ابن تيمية عن ابن قتيبة كلاماً معناه: أن النزاع بين أهل الحديث في (مسألة اللفظ) في كثير من مواضعه؛ نزاع لفظي.
أقول: على الرغم من ذلك؛ مع ما عرف عن الكرابيسي من النشأة على السنة، وحبها وحب أهلها، والتبحر في العلوم، والمصنفات المفيدة، والرد على أهل البدع، والتلمذة على الشافعي، وعلاقته الوثيقة بالإمام أحمد، وغير ذلك ([13]) إلا أن هذا لم يثن الإمام أحمد عن تبديعه، والتحذير منه؛ حماية لجناب السنة، وصيانتها من البدع والمحدثات.ولم يقل: إن المسألة مشكلة؛ أو إن النزاع أغلبه لفظي؛ أو إن له من العلم والدين ما يشفع له؛ أو أن هذه الزلة مغمورة في حسناته، وغير هذا مما يقوله أدعياء السلفية.
قال ابن الجوزي: "الحسين بن علي بن يزيد أبو علي الكرابيسي؛ سمع من الشافعي ويزيد بن هارون وجماعة، وصنف في الفروع والأصول، إلا أنه تكلم في اللفظ، وقال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فتكلم فيه أحمد، ونهى عن كلامه، وقال: هذا مبتدع، وحذر منه. وأخذ هو يتكلم في أحمد؛ فقوي إعراض الناس عنه".
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين



[1]- بفتح الكاف والراء، وبعد الألف باء موحدة مكسورة؛ ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة، وبعدها سين مهملة؛ نسبة إلى الكرابيس، وهي الثياب الغليظة، واحدها كرباس - بكسر الكاف - وهو لفظ فارسي عُرب، وكان أبو علي المذكور يبيعها؛ فنسب إليها.
[2]- أي: قوله: لفظي بالقرآن مخلوق.
[3]- وهو ما رواه الكرابيسي؛ قال: حدثنا إسحاق الأزرق؛ حدثنا عبدالملك؛ عن عطاء؛ عن الزهري؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات". أخرجه ابن عدي من طريق عمر بن شبة عن إسحاق الأزرق بإسناده موقوفاً، وقال: ولا أدري ذكر فيه الإهراق والغسل ثلاث مرات أم لا، وهذا لا يرويه غير الكرابيسي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ما ذكر في متنه من الإهراق والغسل ثلاث مرات.
[4] - قال: "والثاني: الزعفراني، والثالث: أبو ثور، والرابع: أحمد بن حنبل. ورواة الأقوال الجديدة ستة: المزني، والربيعان: الربيع بن سليمان الجيزي، والربيع بن سليمان المرادي، والبويطي، وحرملة، ويونس بن عبدالأعلى".
[5] - ذكر ابن مندة؛ أن البخاري كان يصحب الكرابيسي، وأنه أخذ مسألة اللفظ منه.
[6] - قال ابن تيمية: "وقد نسب إلى هذا القول؛ غير واحد من المعروفين بالسنة والحديث؛ كالحسين الكرابيسي، ونعيم بن حماد الخزاعي، والبويطي، والحارث المحاسبي، ومن الناس من نسب إليه البخاري".
[7] - قال ابن عدي: "سمعت محمد بن عبدالله الشافعي، وهو الفقيه الصيرفي صاحب الأصول؛ يخاطب المتعلمين لمذهب الشافعي، ويقول لهم: "اعتبروا بهذين: حسين الكرابيسي، وأبو ثور، والحسين في علمه وحفظه، وأبو ثور لا يعشره في علمه؛ فتكلم فيه أحمد بن حنبل في باب اللفظ؛ فسقط، وأثنى على أبي ثور؛ فارتفع للزومه السنة".
[8] - قال ابن تيمية: "عامة كلام أحمد إنما هو يجهم اللفظية؛ لا يكاد يطلق القول بتكفيرهم كما يطلقه بتكفير المخلوقية".
[9] - قال أبو بكر ابن زنجويه: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق؛ فهو مبتدع لا يكلم".
[10] - ابن الزبير لم يخرج؛ بل بويع له بالخلافة في سائر الأمصار؛ فخرج عليه مروان ثم ابنه من بعده؛ قال ابن تيمية: "ابن الزبير ادعى الخلافة بعد مقتل الحسين، وبايعه أكثر الناس، وحاربه يزيد حتى مات،وجيشه محاربون له بعد وقعة الحرة؛ ثم لما تولى عبدالملك غلبه على العراق مع الشام؛ ثم بعث إليه الحجاج بن يوسف؛ فحاصره الحصار المعروف حتى قتل"، وقال: "ثم إن ابن الزبير لما جرى بينه وبين يزيد ما جرى من الفتنة، واتبعه من اتبعه من أهل مكة والحجاز وغيرهما، وكان إظهاره طلب الأمر لنفسه بعدموت يزيد، فإنه حينئذ تسمى بأمير المؤمنين، وبايعه عامة أهل الأمصار إلا أهل الشام. ولهذا إنما تعد ولايته من بعد موت يزيد، وأما في حياة يزيد فإنه امتنع عن مبايعته أولاً؛ ثم بذل المبايعة له؛ فلم يرض يزيد إلا بأن يأتيه أسيراً؛ فجرت بينهما فتنة، وأرسل إليه يزيد من حاصره بمكة؛ فمات يزيد وهو محصور؛ فلما مات يزيد؛ بايع ابن الزبير طائفة من أهل الشام والعراق وغيرهم، وتولى بعد يزيد ابنه معاوية بن يزيد، ولم تطل أيامه؛ بل أقام أربعين يوماً أو نحوها، وكان فيه صلاح وزهد، ولم يستخلف أحداً؛ فتأمر بعده مروان بن الحكم على الشام، ولم تطل أيامه؛ ثم تأمر بعده ابنه عبدالملك، وسار إلى مصعب بن الزبير نائب أخيه على العراق فقتله حتى ملك العراق، وأرسل الحجاج إلى ابن الزبيرفحاصره وقاتله؛ حتى قتل ابن الزبير، واستوثق الأمر لعبدالملك، ثم لأولاده من بعده".
[11] - قال الإمام أحمد: "ما كان الله ليدعه، وهو يقصد إلى التابعين مثل سليمان الأعمش، وغيره، يتكلم فيهم".
[12]- قال ابن رجب رحمه الله: "وقد تسلط بهذا الكتاب؛ طوائف من أهل البدع من المعتزلة وغيرهم؛ في الطعن على أهل الحديث؛ كابن عباد الصاحب، ونحوه، وكذلك بعض أهل الحديث؛ ينقل منه دسائس؛ إما أنه يخفى عليه أمرها، أو لا يخفى عليه؛ في الطعن في الأعمش، ونحوه؛ كيعقوب الفسوي، وغيره".
[13] - قال سفيان الثوري رحمه الله: "إذا أحببت الرجل في الله؛ ثم أحدث حدثاً في الإسلام؛ فلم تبغضه عليه؛ فلم تحبه في الله".

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

كافة الحقوق محفوظة 2012 © site.com مدونة إسم المدونة