هل يكون مرجئا ًمن قال : إنَّ
الإيمان أصل، والعمل فرع
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،،، أما بعد:
فقبل الإجابة على هذا
السؤال، نورد أولاً، أقوال الأئمة الذين ذكروا في كتبهم - في موضع أو أكثر - أن
الإيمان أصل والعمل فرع، ثم نبين مرادهم - رحمهم الله - من هذا القول؛ مذكراً نفسي
وإخواني بترك المتشابه من كلام أهل العلم، والتمسك بالمحكم من أقوالهم، وإن كان
ثمة إجمال في موضع؛ رُد إلى المفصل في المواضع الأخرى من كلامهم.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "القاعدة
الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به -سواء عرفنا معناه أو لم
نعرف - لأنه الصادق المصدوق؛ فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به
وإن لم يفهم معناه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته
منصوصاً في الكتاب والسنة متفق عليه بين سلف الأمة، وما تنازع فيه المتأخرون نفياً
وإثباتاً فليس على أحد - بل ولا له - أن يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف
مراده، فإن أراد حقاً قُبل، وإن أراد باطلاً رُد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم
يقبل مطلقاً ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى"اهـ (مجموع الفتاوى 3/41)
وقال -رحمه الله-: "وأخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة
لما فسروا به كلامهم، وما تقتضيه أصولهم، يجر إلى مذاهب قبيحة"اهـ (الصارم
المسلول 2/512)
وقال: "وهؤلاء قد يجدون من كلام بعض
المشايخ كلمات مشتبهة مجملة، فيحملونها على المعاني الفاسدة، كما فعلت النصارى فيما
نقل لهم عن الأنبياء، فيدعون المحكم ويتبعون المتشابه"اهـ (مجموع الفتاوى 2/374)
وقال -رحمه الله-: "فإنه يجب أن يُفسر
كلام المتكلم بعضه ببعض، ويؤخذ كلامه ههنا وههنا، وتعرف ما عادته
يعنيه ويريده بذلك
اللفظ إذا تكلم به، وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع
آخر، فإذا عرف عرفه
وعادته في معانيه وألفاظه كان هذا مما يستعان به على
معرفة مراده.
وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر
عادته باستعماله فيه،
وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحمل
كلامه على خلاف المعنى
الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضاً، وترك
حمله على ما يناسب سائر
كلامه كان ذلك تحريفاً لكلامه عن موضعه وتبديلاً لمقاصده وكذباً عليه"اهـ) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/176)
كما ينبغي أن يَعلم طالب العلم السلفي، أن قول
عالم -أو أكثر- في مسألة ما، لا يجوز أن يُبنى عليه اعتقاد، ما لم يشهد لقوله كتاب
أو سنة أو إجماع، أو يتابعه الأئمة على قوله هذا.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "أما الألفاظ التي لا توجد في
الكتاب والسنة، بل ولا في كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين،
لا إثباتها ولا نفيها -وقد تنازع فيها الناس- فهذه الألفاظ لا تُثبت ولا تُنفى إلا
بعد الاستفسار عن معانيها، فإن وُجدت معانيها مما أثبته الرب لنفسه أثبتت، وإن وُجدت
مما نفاه الرب عن نفسه نفيت، وإن وجدنا اللفظ أُثبت به حق وباطل أو نُفي به حق وباطل،
أو كان مجملاً يُراد به حق وباطل، وصاحبه أراد به بعضها لكنه عند الإطلاق يوهم الناس
أو يفهمهم ما أراد، وغير ما أراد، فهذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها"اهـ
(مجموع الفتاوى 17/304)
وإذا كان ذلك كذلك،
فلا يجوز أن يُنسب هذا القول لمذهب السلف، لا سيما إذا كان مخالفاً لما استقر
عندهم، وانتشر بينهم، وصار مذهباً لهم.
فمنهج السلف لا
يُستدل له بوقائع فردية، أو كلمات موهمة - تحتمل أكثر من معنى - صدرت من غير
معصوم، فإن العالم مهما بلغ قدره في العلم، يجوز عليه الخطأ في التعبير، والسهو
والغفلة.
وقد يكون قول العالم
سديداً موافقاً للأصول، متفقاً مع المعقول والمنقول -كما هو الواقع في مسألتنا
هذه، وغيرها من المسائل التي حصل فيها النزاع - والعيب في من لم يفهم مراده، لأنه
لم يجمع كلامه كله في المسألة، حتى يتبين له وجه الحق فيها.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا
يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا
يتوهم متوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم, بل ما زال الناس يتوهمون
من أقوال الناس خلاف مرادهم ولا يقدح ذلك في المتكلمين بالحق"اهـ (الرد على
البكري 2/705)
لذا فلسنا في حاجة
للاعتذار عن هؤلاء الأئمة، لما سيظهر للقارئ المنصف - إن شاء الله تعالى - من أن
أقوالهم - والحمد لله - مؤتلفة مع أقوال السلف من حيث المعنى، وإن كانوا قد
خالفوهم في اللفظ.
فإن أبى صاحب الهوى
إلا التشبث بمثل هذه العبارات، قلنا له:
أولاً: ألفاظ العلماء
لا تُقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يُستدل بها على كلامهم، فإذا ظهر مرادهم عُمل
بمقتضاه، وإلا فإن ألفاظهم - رحمهم الله - ليست تعبدية.
ثانياً: يسعنا ويسعك
كلام من سبقهم، من سادة الأنام وأئمة الإسلام، فهل تجد فيها إلا قولهم المجمع
عليه، والذي صار شعاراً لأهل السنة: إن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد منها
إلا بالآخر.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-:
"فالأمر الذي عليه أهل السنة عندنا، ما نص عليه علماؤنا مما اقتصصنا في
كتابنا هذا؛ أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعًا"اهـ (كتاب الإيمان ص 19)
وقال الشافعي -رحمه الله-: "وكان الإجماع
من الصحابة والتابعين ممن أدركناهم أن: الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزئ واحد من
الثلاثة إلا بالآخر"اهـ (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 5/139)
وقال ابن بطة -رحمه الله-: "فقد تلوت
عليكم من كتاب الله عز وجل، ما يدل العقلاء من المؤمنين، أن الإيمان قول وعمل، وأن
من صدق بالقول وترك العمل كان مكذبًا وخارجًا من الإيمان. وأن الله لا يقبل قولًا
إلا بعمل، ولا عملًا إلا بقول"اهـ (الإبانة 2/795)
ثالثاً:كيف نوجه قول
من قال بأن العمل فرع (كمال)، مع إجماع السلف الذي مر ذكره؟
فإما أن نرد كلامهم
لمخالفته الإجماع، أو نوجهه بما يتفق مع ما تقرر لديهم، من أنه لا عمل إلا بإيمان
ولا إيمان إلا بعمل، والأخير هو المتعين وهو صنيع المحققين الذين يحسنون الظن
بالعلماء، ويوجهون كلامهم حتى يستقيم مع الأصول، ويحملونه على أحسن المحامل، ما
استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
رابعاً: المتأمل
لأقوال (ابن مندة – ابن نصر – ابن تيمية) يجدها متسقة مع شعار السلف، من أن
الإيمان: قول وعمل.
قال ابن القيم -رحمه
الله-: "قيل: أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق
وباطل، فيطلقها من يريد حقها، فينكرها من يريد باطلها، فيرد عليه من يريد
حقها"اهـ (شفاء العليل 1/324)
ذلك لأنهم -رحمهم
الله- لم يريدوا من قولهم (الإيمان أصل، والعمل فرع) أن ترك العمل لا يضر ما دام
مع صاحبه أصل الإيمان، إنما عنوا، أن وجود قول القلب وعمله، يلزم منه بالضرورة أثر
في الظاهر من القول والعمل، فالقلب (الأصل) -وما فيه من تصديق وخضوع ومحبة وخوف،
وغير ذلك من الأعمال القلبية- وراء العمل (الفرع)، وهو ما يظهر على الجوارح.
وهذا ما عناه ابن
تيمية -رحمه الله- بقوله: "أعمال القلب لا بد أن تؤثر في عمل الجسد"اهـ
(جامع المسائل 4/379)
وقال: "ما يقوم
بالقلب من تصديق وحب الله ورسوله وتعظيم، لا بد أن يظهر على الجوارح، وكذلك
بالعكس"اهـ (الجواب الصحيح 6/471)
خامساً: لو حُمل
كلامهم -رحمهم الله على ظاهره- لآل إلى قول المرجئة الذين يقولون: العمل ثمرة
الإيمان وكماله، وليس من لوازمه وموجباته، وهذا ما لا يمكن نسبته لواحد
من هؤلاء الأئمة، لذا تعين توجيه كلامهم بما يتفق ومذهب السلف ([1])
لا سيما وأقوالهم الأخرى تفيد أن العمل من لوازم إيمان القلب، وأن انتفاء اللازم
يدل على انتفاء الملزوم، فوجود الملزوم بدون
اللازم محال، ومن هذا الباب
كفروا تارك الصلاة.
قال ابن تيمية: "فالعمل يصدق أن في
القلب إيماناً، وإذا لم يكن عمل، كذب أن في قلبه إيماناً، لأن ما في القلب مستلزم للعمل
الظاهر"اهـ (مجموع الفتاوى 7/294)
وقال -رحمه الله-: "وقيل لمن قال:
دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز، نزاعك لفظي؛ فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم
الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته، كان عدم اللازم موجباً لعدم الملزوم، فيلزم
من عدم هذا الظاهر عدم الباطن"اهـ (مجموع الفتاوى 7/579)
وفيما يلي سرد
لأقوالهم مع بيان المراد منها:
أولاً: كلام محمد بن إسحاق بن مندة.
قال -رحمه الله-: "وقال أهل الجماعة: الإيمان هو الطاعات كلها
بالقلب واللسان وسائر الجوارح غير أن له أصلاً وفرعاً.
فأصله المعرفة بالله والتصديق له وبه وبما جاء من عنده بالقلب واللسان،
مع الخضوع له والحب له والخوف منه والتعظيم له, مع ترك التكبر والاستنكاف والمعاندة,
فإذا أتى بهذا الأصل فقد دخل في الإيمان ولزمه اسمه وأحكامه, ولا يكون مستكملاً له
حتى يأتي بفرعه، وفرعه المفترض عليه الفرائض واجتناب المحارم, وقد جاء الخبر عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: الإيمان بضع وسبعون أو ستون شعبة أفضلها شهادة أن لا إله
إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان. فجعل الإيمان شعباً
بعضها باللسان والشفتين, وبعضها بالقلب, وبعضها بسائر الجوارح"اهـ
(الإيمان 1/331-332)
أقول:
أولاً: قوله: "فإذا أتى بهذا الأصل فقد دخل في الإيمان
ولزمه اسمه وأحكامه". لا إشكال فيه، فإن ابن مندة -رحمه
الله- ممن يقول بأن الإيمان هو الإسلام. وعليه، فمن جاء بالقول والاعتقاد (الأصل)
فقد دخل بهذا في الإسلام، بل لو جاء بالقول فقط، دخل أيضاً في الإسلام ولزمه اسمه
وأحكامه.
ولو قُدر أن الإيمان غير الإسلام
-عند ابن مندة- لأمكن توجيه قوله أيضاً، بأن الدخول في الإيمان غير حقيقة الإيمان،
بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم- لمعاوية بن الحكم السلمي:"أعتقها فإنها
مؤمنة".
قال ابن تيمية: "وأما احتجاجهم بقوله للأمة "أعتقها
فإنها مؤمنة" فهو من حججهم المشهورة، وبه احتج ابن كلاب وكان يقول: الإيمان هو
التصديق والقول جميعاً، فكان قوله أقرب من قول جهم وأتباعه، وهذا لا حجة فيه؛ لأن الإيمان
الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا، لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه
من أهل السعادة في الآخرة"اهـ (مجموع الفتاوى 7/209-210)
وقال -رحمه الله-: "ولهذا لما ذكر الأثرم لأحمد احتجاج
المرجئة بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أعتقها فإنها مؤمنة". أجابه بأن
المراد: حكمها في الدنيا حكم المؤمنة؛ لم يرد أنها مؤمنة عند الله تستحق دخول الجنة
بلا نار، إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار"اهـ (مجموع الفتاوى 7/416)
ثانياً: قوله: "ولا يكون مستكملاً له حتى يأتي
بفرعه، وفرعه المفترض عليه الفرائض واجتناب المحارم". يريد به
زيادة الإيمان، فإن الإيمان عند أهل السنة يزيد وينقص، وزيادته بأداء الفرائض
واجتناب المحارم، فليس معنى كلامه -رحمه الله- أن ذهاب الفرع لا يُذهب الأصل، كيف
وهو يُكفر تارك الصلاة.
ثالثاً: قوله: "وقد جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الإيمان بضع وسبعون أو ستون شعبة
أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.
فجعل الإيمان شعباً بعضها باللسان والشفتين, وبعضها بالقلب, وبعضها بسائر الجوارح".
يفيد أن الإيمان ينقسم إلى مراتب، وكل مرتبة تختص ببعض الشعب، وأهله يتفاضلون فيه
بحسب تحقيقهم لشعبه، وهذا هو معنى كلام ابن تيمية -رحمه الله- من أن الإيمان مركب من
أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصاً
يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة، فالناس فيه ظالم لنفسه، ومقتصد،
وسابق.
قال تعالى: "ثم أورثنا الكتاب
الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات".
فالإيمان أقوال وأعمال، على القلب
واللسان وجميع الجوارح، يزيد وينقص، وشعبه لها أعلى وأدنى، منها ما يكون من أصل
الإيمان، ومنها ما يكون من كماله الواجب، ومنها ما يكون من كماله المستحب، وهذا
التقسيم استقرائي دل عليه الكتاب والسنة، وهو معروف عند السلف -رحمهم الله- لكنهم
عبروا عنه بألفاظ مختلفة، فمنهم من يقول: مؤمن حقاً، ومؤمن مستكمل الإيمان، أي أدى
المفروضات، واجتنب المحرمات.
قال تعالى: "إنما المؤمنون الذين
إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون
الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند
بهم ومغفرة ورزق كريم".
وقال صلى الله عليه وسلم: "أكمل
المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً". فالإيمان له مراتب: أصل: لا يتم ولا يصح
الإسلام إلا به، وهذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار، بإجماع المسلمين.
وهذا هو معنى كلام من قال من أهل العلم: إن للإيمان أصلاً وفروعاً. وكماله الواجب:
وهو ما زاد على أصل الإيمان من فعل الواجبات وترك المحرمات. وكماله المستحب: وهو
ما زاد على الإيمان الواجب بفعل المندوبات وترك المكروهات.
ثانياً: كلام محمد بن نصر المروزي:
قال -رحمه الله-: "فلما أقرت
المرجئة بأن الإقرار باللسان هو إيمان يكمل به تصديق القلب ولا يتم إلا به, ثم
بيَّن الله تعالى لنا, والرسول صلى الله عليه وسلم: أنه أول الإسلام, ثبت أن جميع الإسلام
من الإيمان, فإن يكن شيء من الإسلام ليس من الإيمان, فالإقرار الذي هو أول الإسلام
ليس من الإيمان، فبإيجابهم أن أول الإسلام بجارحة اللسان هو من الإيمان بالله,
يلزمهم أن يجعلوا كلما بقي من الإسلام من الإيمان، بعد ما سمى الله عز وجل والرسول
الإقرارَ باللسان: إيماناً, ثم شهدت المرجئة أن الإقرار الذي سماه النبي صلى الله
عليه وسلم إسلاماً، هو إيمان, فما بال سائر الإسلام لا يكون من الإيمان, فهو في
الأخبار: من الإيمان, وفي اللغة والمعقول: كذلك, إذ هو خضوع بالإخلاص, إلا أن له
أصلاً وفرعاً, فأصله الإقرار بالقلب عن المعرفة, وهو الخضوع لله بالعبودية,
والخضوع له بالربوبية, وكذلك خضوع اللسان بالإقرار بالإلهية بالإخلاص له من القلب,
واللسان, أنه واحد لا شريك له ثم فروع هذين الخضوع له بأداء الفرائض كلها, ألم
تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة. وما عدا من الفرائض, فلم جعلت المرجئة
الشهادة إيماناً, ولم تجعل جميع ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم من الإسلام
إيماناً؟ وكيف جعلت بعض ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم إسلاماً إيماناً, ولم
تجعل جميعه إيماناً وتبدأ بأصله, وتتبعه بفروعه, وتجعله كله إيماناً"اهـ
(تعظيم قدر الصلاة 2/701-702)
أقول:
أولاً: تسميته الإقرار أصلاً،
والفرائض فرعاً، لا إشكال فيه، على مذهبه -رحمه الله- من أن الإيمان هو الإسلام.
ثانياً: من كان هذا رأيه، امتنع
عنده تحقيق أصل الإيمان بدون عمل الجوارح.
ثالثاً: فإن قيل: بل الأعمال عنده
من الفروع؟ قلنا: كيف يكون ذلك، وهو يقول بكفر تارك الصلاة.
قال -رحمه الله-: "أفلا ترى
أن تارك الصلاة ليس من أهل ملة الإسلام الذين يُرجى لهم الخروج من النار، ودخول
الجنة بشفاعة الشافعين"اهـ
ثالثا: كلام ابن تيمية:
قال -رحمه الله-: "فالإيمان دخول في الأمن، والإقرار
دخول في الإقرار، وعلى هذا، فالكلمة إقرار، والعمل بها إقرار أيضاً. ثم هو في الكتاب
بمعنيين: أصل وفرع واجب، فالأصل الذي في القلب وراء العمل فلهذا يفرق بينهما بقوله:
"آمنوا وعملوا الصالحات"، والذي يجمعهما كما في قوله: "إنما المؤمنون"،
"لا يستأذنك الذين يؤمنون"، وحديث "الحياء"، و"وفد عبد القيس"،
وهو مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص
بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة، فالناس فيه ظالم لنفسه،
ومقتصد، وسابق، كالحج وكالبدن والمسجد وغيرهما من الأعيان والأعمال والصفات، فمن سواء
أجزائه ما إذا ذهب نقص عن الأكمل، ومنه ما نقص عن الكمال وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات،
ومنه ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد والقول الذي يزعم المرجئة والجهمية أنه مسمى فقط،
وبهذا تزول شبهات الفرق. وأصله القلب وكماله العمل الظاهر بخلاف الإسلام فإن أصله الظاهر
وكماله القلب"اهـ (مجموع الفتاوى 7/637)
أقول:
أولاً: قوله: "فالأصل الذي في القلب
وراء العمل". معناه أن ما في القلب يحفز على العمل، فالاستسلام لله والانقياد
له يقضي بحصول حركة في الظاهر ولا بد.
قال ابن تيمية: "فإنه من الممتنع
أن يحب الإنسان غيره حباً جازماً وهو قادر على مواصلته، ولا يحصل منه حركة ظاهرة
إلى ذلك"اهـ (مجموع الفتاوى 7/553)
ثانياً: قوله: "فلهذا يفرق بينهما بقوله:"آمنوا
وعملوا الصالحات"اهـ يُفهم منه خروج
المعطوف من المعطوف عليه، وهذا مما احتجت به المرجئة على أهل السنة، فهل يقول بذلك
من يتتبع كلام ابن تيمية، ويحتج به؟
كيف وقد قال -رحمه الله- في معرض رده
على المرجئة: "وحيث عطفت عليه الأعمال فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب بل
لا بد معه من الأعمال الصالحة"اهـ (مجموع الفتاوى 7/198)
وهذا من أوضح الأمثلة على ما ذكره ابن القيم -رحمه الله- من أن
"الكلمة الواحدة يقولها اثنان: يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر
محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل، وسيرته، ومذهبه، وما يدعو إليه، ويناظر
عليه"اهـ (مدارج السالكين 3/520-521)
ثالثاً: ابن تيمية -رحمه
الله- ما ألف كتابه في
"الإيمان" إلا للرد على المرجئة
الذين أخرجوا العمل من الإيمان، وتقرير عقيدة السلف الصالح، والرد على بقية
الطوائف التي خالفت هذا المعتقد، وقد نص في غير ما موضع على ركنية العمل، وأن
الإيمان لا يصح إلا به، حتى صار ذلك شعاراً لأهل السنة.
قال -رحمه الله-: "الإيمان والعمل قرينان، ولا ينفع أحدهما بدون
صاحبه"اهـ (مجموع الفتاوى 7/335)
وقال: "من كان عقده الإيمان ولا يعمل
بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفرًا لا يثبت معه
توحيد"اهـ (مجموع
الفتاوى 7/333)
وقال: "يمتنع أن يكون الرجل مؤمنًا بالله
ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبًا ظاهرًا"اهـ (مجموع الفتاوى
7/621)
وقال: "ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان
عمن لم يأت بالعمل مواضع كثيرة. كما نُفِي فيها الإيمان عن المنافق"اهـ (مجموع
الفتاوى 7/142)
وغير ذلك من أقواله المتكاثرة، فهل يقول عاقل
يدري ما يخرج من رأسه: إن ابن تيمية يرى أن العمل الظاهر كمال الإيمان؛ كيف وهو
يكفر تارك جنسه؟
فمعنى كلامه -رحمه الله- أن العمل لا بد من
ظهوره على الجوارح في حق من تمكن من العمل، أما من لم يتمكن، ومات قبل وجوب شيء من
الأعمال، فقد مات وهو كامل الإيمان الذي وجب عليه
رابعاً: قوله: "وأصله القلب (أي: الإيمان)، وكماله العمل الظاهر،
بخلاف الإسلام، فإن أصله الظاهر وكماله القلب".
لا يُفهم منه أن يريد بذلك الكمال الواجب أو
المستحب، لأن سياق الكلام يدل على أن أصل الإيمان الذي في القلب، لا يتم -أي: لا
يصح- إلا بالعمل الظاهر، حيث قال: "بخلاف الإسلام فإن أصله الظاهر وكماله
القلب". وإلا قيل: يكفي في الإسلام الحقيقي أصله الظاهر، دون كماله الذي في
القلب؟
خامساً: ابن تيمية -رحمه الله- ممن يقول
بالعلاقة التلازمية بين الظاهر والباطن، بل هو من أكثر العلماء تقريراً لهذا
الأصل، وأن تخلف العمل الظاهر مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من
الإيمان، لهذا "يُستدل بانتفاء اللزوم الظاهر على انتفاء الملزوم
الباطن".
فمن قال من أهل السنة: الإيمان أصل (الاعتقاد
والقول) وفرع (العمل الظاهر) مراده أن للأصل لوازم من الأعمال الظاهرة لا بد من
ظهورها، إذ انتفاء الظاهر دليل على انتفاء الباطن، لأن الظاهر تابع للباطن لازم
له، فمتى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد.
سادساً: قال ابن تيمية -رحمه الله- "وقيل: بل
الأعمال في الأصل ليست من الإيمان؛ فإن أصل الإيمان هو ما في القلب، ولكن هي لازمة
له فمن لم يفعلها كان إيمانه منتفياً؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، لكن
صارت بعرف الشارع داخلة في اسم الإيمان إذا أطلق، كما تقدم في كلام النبي صلى الله
عليه وسلم، فإذا عطفت عليه ذكرت، لئلا يظن الظان أن مجرد إيمانه بدون الأعمال الصالحة
اللازمة للإيمان يوجب الوعد؛ فكان ذكرها تخصيصاً وتنصيصاً، ليعلم أن الثواب الموعود
به في الآخرة وهو الجنة بلا عذاب لا يكون إلا لمن آمن وعمل صالحاً؛ لا يكون لمن ادعى
الإيمان ولم يعمل، وقد بين سبحانه في غير موضع أن الصادق في قوله: "آمنت"
لا بد أن يقوم بالواجب، وحصر الإيمان في هؤلاء يدل على انتفائه عمن سواهم. وللجهمية
هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب "الموجز" وهو أن القرآن نفى الإيمان عن
غير هؤلاء، كقوله: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) ولم يقل: إن هذه
الأعمال من الإيمان قالوا: فنحن نقول: من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمناً، لأن انتفاءها
دليل على انتفاء العلم من قلبه.
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب، فإذا
انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب؛ وبعد هذا؛ فكونها لازمة أو جزءاً؛ نزاع
لفظي.
الثاني: أن نصوصاً صرحت بأنها جزء كقوله:"الإيمان بضع
وستون أو بضع وسبعون شعبة، ..."اهـ (مجموع الفتاوى 7/202-203)
فها هو -رحمه الله- يرد على من قال بأن الأعمال في الأصل
ليست من الإيمان؛ ويرد على من قال بأن العمل فرع، لكنه من لازم الإيمان، بأن
الأعمال إذا كانت لازمة، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، فعاد النزاع في
أكثره لفظي، وعليه فلا داعي إذاً للنزاع في هذه المسألة، ما دام قد تقرر أن العمل
جزء من أجزاء الإيمان الثلاثة، لا يصح إلا به. فهل بعد هذا، يأتي أحدهم ويفهم من
كلامه أن ترك العمل الظاهر لا يضر مادام أصل الإيمان باقياً، محتجاً بتلك العبارات
له، ولغيره، والتي ما فهم معناها، ولا المراد منها.
قال -رحمه الله-: "أصل الإيمان هو
ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم
جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب؛
فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم، وإن كان أصله ما في القلب"اهـ
وبعد أن تبين مراد من
قال من أئمة أهل السنة أن: الإيمان أصل وفرع.
نقول:
لا بأس على من قال
بذلك، إذا كان على مراد السلف وفهمهم، من أن الإيمان الذي في القلب يدعو البدن
للعمل الظاهر الذي هو جزء من الإيمان لا يصح إلا به، لذلك: فَهم يكفرون تارك الصلاة، مع قولهم: العمل فرع
(كمال)، وقد مر قول ابن تيمية أن: "الأعمال لازمة لإيمان القلب، فإذا
انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب؛ وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءاً نزاع
لفظي".
وأحسن من هذا كله،
الابتعاد عن مثل الألفاظ، حتى لا تُتخذ ذريعة لتخطئة هؤلاء الأئمة، أو نسبتهم إلى
المذاهب المردية.
أما من قال بهذا
القول ومراده، أن ترك العمل الظاهر لا يضر، فهذا قد أبعد النجعة، وأساء الفهم، وقل
حظه من العلم، وقال بقول المرجئة شاء أم أبى.
(هذا؛
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين)
[1]- قال ابن تيمية -رحمه
الله-: "وقول القائل: الطاعات ثمرات التصديق الباطن، يراد به شيئان: يراد به
أنها لوازم له فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت، وهذا مذهب السلف وأهل السنة. ويراد
به أن الإيمان الباطن قد يكون سبباً، وقد يكون الإيمان الباطن تاماً كاملاً وهي لم
توجد، وهذا قول المرجئة من الجهمية وغيرهم"اهـ (مجموع الفتاوى 7/363)