شرح ستة مواضع من السيرة
لأبي محمود
عماد الدين فراج
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين، وصلى الله وسلم
وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،، أما بعد:
فنبدأ بمشيئة الله
تعالى في شرح (ستة مواضع من السيرة) للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله؛ سائلين
الله السداد والتوفيق.
يقول الشيخ رحمه
الله: (تأمل - رحمك الله تعالى - ستة مواضع من السيرة كما ينبغي، وافهمها فهماً
حسناً، لعل الله أن يفهمك دين الأنبياء لتتبعه، ودين المشركين لتتركه، فإن كثيراً
ممن يدعي الدين ويعد من الموحدين لا يفهم هذه الستة كما ينبغي).
لأن المقصود الفهم
والتدبر وليس مجرد القراءة، فإذا عقل الإنسان ما يقرؤه وفهمه؛ انتفع به، ومن تأمل
هذه المواضع الستة من سيرته صلى الله عليه وسلم، وفهمها فهماً جيداً، عرف حينئذ
الفرق بين دين الأنبياء، ودين المشركين، ولا يُعرف الخير إلا إذا عُرف الشر كما
قيل:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه
فإذا عرف الإنسان
طريق الخير التزمه واتبعه، ونأى بنفسه عن طريق الشر واجتنبه.
وكثير من الناس يقع
في المحظورات من الشرك والبدع والمعاصي؛ لقلة تدبره لما يقرؤه ويسمعه، مع كونه
يدعي الدين، ويعد في الجملة من الموحدين، ولكن الدعاوى إذا لم تُقم عليها بينات
أصحابها أدعياء، فليس الشأن في الدعوى فإن هذا يحسنه كل أحد، إنما الشأن في
التطبيق والالتزام، وإلا فكما قال الشيخ رحمه الله: "فإن كثيراً ممن يدعي الدين
ويعد من الموحدين لا يفهم هذه الستة كما ينبغي".
وهذا - للأسف - حال
كثير من الناس اليوم، تجد الرجل يدعي الإسلام وهو عند الناس من جملة الموحدين لأنه
يقول: لا إله إلا الله - وهذه في نظرهم تكفي - ثم هو يطوف حول المقبور ويناديه،
ويستغيث به، ويذبح له، وينذر له، وغير ذلك من أنواع العبادت التي يصرفها له، فهل
مثل هذا يكون مسلماً؛ فضلاً عن أن يقال عنه: موحد! كيف وهو لا يفهم دين الله، ولا
يفرق بين التوحيد والشرك، ولا يعرف الفرق بين دين النبيين، ودين المشركين.
فالإنسان كما يعرف
التوحيد؛ لا بد له أن يعرف الشرك، فإذا عرف خطورة الشرك عرف حقيقة التوحيد وحمى
جنابه، فالتوحيد ليس كلمة تقال؛ كل من قالها يصبح موحداً، لا؛ لذلك يقول الله
تعالى: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله" فقدم الكفر بالطاغوت على
الإيمان بالله، فلن يؤمن العبد بربه حقاً، ويوحده صدقاً؛ إلا إذا أتى بهذين
الركنين العظيمين: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله.
وأغلب هؤلاء إنما
وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب جهلهم، وإعراضهم عن تعلم دينهم، والفقه في الدين عصمة
من الفتن، لذلك مهد الشيخ رحمه الله بهذه التوطئة التي دعا فيها إلى تعلم الدين
والتبصر فيه، قبل الدخول إلى هذه الست، وهذا من فقهه رحمه الله.
(الموضع الأول: قصة
نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها: أن أول آية أرسله الله بها: "يَا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ" إلى قوله: "وَلِرَبِّكَ
فَاصْبِرْ". فإذا فهمت أنهم يفعلون أشياء كثيرة يعرفون أنها من الظلم
والعدوان، مثل: الزنا وغيره، وعرفت أيضاً أنهم يفعلون أشياء كثيرة من العبادات
يتقربون بها إلى الله، مثل: الحج والعمرة والصدقة على المساكين والإحسان إليهم
وغير ذلك، وأعظمها عندهم الشرك، فهو أعظم ما يتقربون به إلى الله عندهم، كما ذكر
الله عنهم أنهم قالوا: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"،
ويقولون: "هؤلاء شفعاؤنا عند الله"، وقال تعالى: "فَرِيقاً هَدَى
وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ". فأول
ما أمر الله بالإنذار عنه، قبل الإنذار عن الزنا والسرقة وغير ذلك هو هذه
العبادات، وعرفت أن منهم من تعلق على الصالحين
والملائكة والأولياء والأصنام،ويقولون: ما نريد إلا شفاعتهم، ومع هذا بدأ
بالإنذار عنه في أول آية أرسله الله بها. فإذا أحكمت هذه المسألة الأولى فيا بشراك؛
خصوصاً إن عرفت أن ما في الإسلام بعدها أعظم من الصلوات الخمس، ولم تفرض إلا ليلة
المعراج - سنة عشر، بعد حصار الشعب، وبعد موت أبي طالب، وبعد هجرة الحبشة بسنتين -
فإذا عرفت أن تلك الأمور الكثيرة الكبيرة والعداوة البالغة؛ كل ذلك عند هذه
المسألة قبل فرض الصلاة، رجوت أن تعرف المسألة بحول الله)
يقول الشيخ رحمه
الله: إن أول آية أرسل الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم، هي: "يا أيها
المدثر قم فأنذر" فالنبي صلى الله عليه وسلم نُبيء بـ (اقرأ)، وأُرسل بـ
(المدثر)، فأُمر بالبلاغ؛ بتبليغ ما أوحي إليه. يا أيها المدثر قم فأنذر بما
أبلغتك به، وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر. وهذا هو موطن الشاهد (الرجز) أي
الأصنام. أنذر يا محمد قومك عن الشرك، عن عبادة الأصنام، عن عبادة الملائكة، عن
عبادة الأنبياء، عن عبادة الصالحين، عن عبادة الأشجار والأحجار والكواكب، عن كل ما
يُشرك به من دون الله، علماً بأنهم لم يكونوا يعبدونهم على الحقيقة، بل كانوا
يقولون: ما نعبدهم إنما نريد شفاعتهم. "فإذا فهمت" أيها الموحد
"أنهم يفعلون أشياء كثيرة يعرفون أنها من الظلم والعدوان" أي: كفار قريش
يفعلون أشياء كثيرة وهم يعلمون أنها من الظلم والعدوان؛ مثل الزنا وغيره،
"وعرفت أيضاً أنهم يفعلون أشياء كثيرة من العبادات"، فكما أن عندهم ظلم
وعدوان؛ عندهم كذلك عبادات وطاعات، وعندهم معاصي، فمن المعاصي: الظلم والزنا
والسرقة، ومن العبادات: الحج والعمرة والصدقة على المساكين والإحسان إليهم وغير
ذلك، لكن تنبه إلى أن أعظم العبادات عندهم هي: الشرك، فهو أعظم ما يتقربون به إلى
الله، فقد كانوا يقولون: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) ويقولون: (هؤلاء
شفعاؤنا عند الله).
فأول ما أمر الله
نبيه بالإنذار عنه - قبل الإنذار عن الزنا والسرقة وغير ذلك - هو الشرك الذي هو -
في ظنهم - أعظم عباداتهم.
فنستفيد مما قاله
الشيخ رحمه الله؛ أشياء:
أولاً: أن النبي
صلى الله عليه وسلم أُرسل لدعاء العباد إلى توحيد الله، أي أن النبي أرسل ليقرر
توحيد الألوهية؛ لا ليقرر توحيد الربوبية، هذا أول أصل من الأصول التي ينبغي أن
يعرفها طالب العلم، أن النبي أرسل لتقرير توحيد الألوهية؛ لا الربوبية؛ لأن الكفار
كانوا يعلمون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، هو الذي ينزل المطر، ويخرج
النبات؛ إلى آخر ذلك، فتوحيد الربوبية معروف عند الكفار، وإنما الإشكال في توحيد
الألوهية، حتى في توحيد الألوهية هم يعرفون أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة لأنها
ليست أرباباً؛ لكنهم يعبدونها لأنها تقربهم عند الله زلفى - بزعمهم - لذلك كانوا
يقولون: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم
بالرسالة، وأنذرهم عن الشرك، وقال: لا تعبدوا إلا الله؛ لأنكم طالما أقررتم
واعتقدتم أن الله هو الخالق الرزاق المحيي المميت؛ فهو سبحانه الرب الذي لا رب
غيره؛ فكيف إذاً تصرفون العبادة لغيره؟ تقرون وتعتقدون أن الله هو الرب ثم تصرفون
العبادة لغير الله؟ كيف يكون ذلك؟
ثانياً: المشركون
مع شركهم، والشرك هو أعظم المعاصي، كانوا يفعلون أنواعاً من القربات والطاعات -
كما قلنا - كالحج والعمرة والإحسان إلى الفقير وإطعام المسكين وغير ذلك، فهل
نفعتهم هذه القربات؟ لا لأنهم كانوا مع فعلهم لها يشركون بالله، وهذه قاعدة: أن
جميع أنواع القربات والطاعات لا تنفع صاحبها إذا كان مشركاً، الرجل يأتي بالطاعات
العظيمة وبالقربات الكبيرة لكنه مشرك لا يُرفع شيء منها، (إليه يصعد الكلم الطيب).
أي: كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) (والعمل الصالح يرفعه) يعني: لا يُرفع العمل
الصالح الذي تتقرب به إلى الله إلا بالتوحيد.
إذا قلت لا إله إلا
الله عالماً بمعناها عاملاً بمقتضاها، وابتعدت عن الشرك؛ ثم تقربت إلى الله بأي
قربة؛ فهذه القرب تصعد إليه سبحانه لأنك الآن صرت موحداً، إذن فليس التوحيد في قول
الإنسان مجرداً (لا إله إلا الله)؛ إنما التوحيد أن يقول لا إله إلا الله مقراً
بها عالماً بمعناها عاملاً بمقتضاها، فالكلمة هكذا مجردة يكررها على لسانه لا
تنفع، وقد فهم الكفار هذا، فهموا أنها ليست مجرد كلمة تقال، ولو كانت كذلك
لقالوها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: "قولوا كلمة تدين لكم
بها العرب وتعطي لكم بها العجم الجزية" فقالوا له: لا وأبيك عشرة. فلما عرفوا
أنه يريد منهم أن يقولوا: لا اله الا الله، (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا). فهموا
المراد منها، وقالوا: (أجعل الآلهة واحدًا إن هذا لشيء عجاب)، قال تعالى: (إنهم
كانوا إذا قيل لهم لا اله الا الله يستكبرون ويقولون أءنا لتاركوا آلهتنا لشاعر
مجنون). فعرفوا معنى: لا اله الا الله، وأنها تقتضي ترك ما يُعبد من دون الله،
لذلك أبوا أن يقولوها، لأنهم إذا قالوها التزموا معناها؛ فهذه الأعمال الصالحة
التي كانت لهم؛ لم تنفعهم لأنهم كانوا
يشركون بالله.
ثالثاً: الذنوب
والمعاصي التي كانوا يفعلونها هل نزل النبي صلى الله عليه وسلم ليحذرهم منها، لا
تزنوا لا تسرقوا؟ لا؛ بل أول ما أنذرهم؛ أنذرهم عن الشرك لأنه أعظم ما يُعصى الله
به، أعظم الذنوب: الشرك؛ وما عداه من الذنوب هين بالنسبة له؛ قال تعالى: (إن الله
لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فإذا عرفت يا طالب الحق ويا طالب
النجاة أنهم مع هذه الطاعات التي كانوا يفعلونها، وهذه المعاصي التي كانوا يتلبسون
بها؛ فإن أول ما بدأهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أنذرهم بالشرك؛ فلم
يتعرض إلى ما يفعلونه من طاعات أو ما يفعلونه من معاصي؛ لأن القضية الرئيسة الآن
هي قضية التوحيد؛ فإذا عرفت ذلك ظهر لك حق الله على عباده، وهو أن يعبدوه ولا
يشركوا به شيئاً، وظهر لك عظيم العناية بمسألة التوحيد، وأن الرسل من أولهم إلى
آخرهم ما أرسلوا إلا لأجلها؛ بل ما خلق الله الخلق إلا لأجل هذه المسألة العظيمة،
قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم
ثلاث عشرة سنة ليقرر هذه المسألة العظيمة، فما دعاهم للصلاة مع عظم شأنها في
الإسلام إلا بعد أن تقرر التوحيد عندهم، واتضحت معالمه، لذلك فإن أول اهتمامات
الداعي إلى الله على بصيرة أن يدعو الناس إلى أوجب ما أوجبه الله على عبيده؛ إلى
التوحيد ونبذ الشرك؛ لأنه إن أمرهم بالصلاة وهم على شركهم ما نفعت صلاتهم، وما
قُبلت منهم؛ لذلك كان دور النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة الزمنية؛ هو
تقرير التوحيد في قلوب أصحابه، ومعرفة خطر الشرك؛ فلما تقرر عندهم قبح الشرك، وعظم
التوحيد، واستقر في نفوسهم هذا الأمر؛ أمرهم حينئذ بالصلاة ثم ببقية شرائع
الإسلام.
إذن ينبغي على
الداعية والمصلح أن يدعو الناس إلى التوحيد أولاً حتى تُقبل أعمالهم وتُرفع، وليس
في هذا تهوين لأمر الصلاة والزكاة وبقية الأركان والعبادات؛ لا؛ بل المقصود معرفة
فقه الأولويات؛ فلن تفيدهم هذه الأمور شيئاً ما داموا على شركهم؛ لذلك لما سئل بعض
أهل العلم عن جماعة التبليغ، وقالوا له يا شيخ: جماعة التبليغ فيهم خير كثير، فقد
توبوا كثيراً من العصاة، واهتدوا على أيديهم. فقال: توبوهم عن أي شيء؟ عن المعاصي
والذنوب؛ فهل توبوهم عن الشرك؟
(الموضع الثاني:
أنه صلى الله عليه وسلم لما قام ينذرهم عن الشرك، ويأمرهم بضده وهو التوحيد لم
يكرهوا ذلك واستحسنوه، وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه، إلى أن صرح لهم بسب دينهم
وتجهيل علمائهم، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة،، وقالوا: سفه أحلامنا،
وعاب ديننا، وشتم آلهتنا، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم، لم يشتم عيسى وأمه، ولا
الملائكة، ولا الصالحين، لكن لما ذكر لهم أنهم لا يدعون ولا ينفعون ولا يضرون،
جعلوا ذلك شتماً. فإذا عرفت هذه المسألة، عرفت أن الإنسان لا يستقيم لـه دين ولا
إسلام - ولو وحد الله وترك الشرك - إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء،
كما قال تعالى: "لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ...
الآية". فإذا فهمت هذه فهماً حسنا جيداً، عرفت أن الكثير من الذين يّدعون
الدين لا يعرفونها، وإلا فمــا الذي حمل المسلمين على الصّبر على ذلك العذاب
والأسر والضرب والهجرة إلى الحبشة؟ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أرحم الناس،
ولم يجد لهم رخصة، ولو وجد رخصة لأرخص لهم، كيف وقد أنزل الله تعالى: "وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ"، فإذا كانت هذه الآية فيمن وافقهم
بلسانه إذا أوذوا في الله إذاً، فكيف بغير ذلك).
هذه المسألة من
أخطر المسائل، يقول الشيخ رحمه الله: (لما
قام النبي صلى الله عليه وسلم ينذرهم عن الشرك، ويأمرهم بضده وهو التوحيد) ماذا
فعلوا؟ لم يكرهوا ذلك واستحسنوه؛ لكن لما صرح بسب دينهم وتسفيه آلهتهم جاهروه
بالعداوة. لذلك فإن المتميعين الذين يريدون كسب الجميع في صفوفهم، إذا دعوا
للتوحيد دعوا إليه على وجه العموم، لأن العمومات لا تغضب أحداً، فلا يتعرضون لا من
قريب ولا من بعيد لما يحدث عند القبور من شركيات، لأنهم إن فعلوا ذلك غضب منهم
القبوريون؛ فهم لا يصرحون ببغضهم والتبرء منهم، لا يصرحون بقبح ما عليه أرباب
القبور والمشاهد، فهم بهذا الاعتبار لهم قبول عند هذه الطوائف؛ كجماعة التبليغ
مثلاً، وكذا الإخوان، فإنهم يتكلمون بكلام عام، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه
وسلم؛ فإنه كان يجهر بعداوتهم ويسفه ما هم عليه، فلم يكتف صلى الله عليه وسلم
ببيان التوحيد ونبذ الشرك، بل أظهر العداوة والبغضاء لهم، مع أنه في حاجة لهدنة
معهم حتى يتسنى له أن يتفرغ لدعوته، فإذا آمن الناس ودخلوا في دين الله، صرح حينئذ
ببغض ما هم عليه وتسفيه آلهتهم، ومع الحاجة لذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم
يتوان في هذا الأمر، ولم يرخص فيه لأصحابه الذين ذاقوا الويلات من عنت قريش
وتعذيبها، بل صرح بسب دينهم وتسفيه آلهتهم؛ وهذا أيضاً فيه رد على أصحاب المصالح
والمفاسد؛ تلك القاعدة الشرعية المعتبرة التي ظلمها هؤلاء من سوء استشهادهم بها،
وتطبيقهم لها؛ فهذه القاعدة لا مجال لها هنا لأنها تصادم أصلاً، ألا وهو: المجاهرة
بالبراءة من الشرك وأهله، وإعلان الكفر بالطاغوت وهو كل ما يعبد من دون الله؛
واستمع لقول الشيخ رحمه الله، وهو يقول: (فإذا عرفت هذه المسألة عرفت أن الإنسان
لا يستقيم له دين ولا إسلام ولا وحد الله ولا ترك الشرك إلا بعداوة المشركين
والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود
والنصارى أولياء" "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من
حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم" "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن
بالله).
إذن فالتصريح لازم؛
وهذا هو الفارق بين الطرح السلفي وغيره، تجد أن الشيخ كلامه مقبول في الجملة؛ لكن
أين طرحه السلفي؟ أين نشره للتوحيد وتأكيده عليه؟ أين تحذيره من الشرك وتصريحه
ببغض المشركين؟ أين ذمه للطوائف المخالفة، وتعيينها وتحذير الناس منها؟ فهذا
وأمثاله لم يستفد الناس منهم؛ فهل تقلصت أعداد المتصوفة؟ لا بل ربما زادت، هل تقلص
من يحلفون بغير الله؟ تقلص من يقولون: بالله وبك، وأنا معتمد على الله وعليك؟ بل
هذا هين بالنسبة لمن يزورون القبور ويذبحون لها؛ فهل تقلصت أعداد هؤلاء؟ لا؛ لأن
دعوتهم عامة.
ثم قال الشيخ رحمه
الله: (فإذا فهمت هذا فهماً حسناً جيداً عرفت أن الكثير من الذين يدعون الدين لا
يعرفونها وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر على ذلك العذاب).
نعم فقد كان
بمقدروهم أن يدعو إلى التوحيد ونبذ
الشرك دون التصريح بالعداوة والبغضاء لآلهة المشركين حتى لا يصيبهم شيء من العذاب
لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بهم وأشفق الناس عليهم، ولو كان ثمة
مندوحة عن ذلك لرخص لهم؛ فلما لم يفعل
عُلم أن هذا الأمر لا رخصة فيه، وأنه كما قال الشيخ: (لا يستقيم له دين، ولا
إسلام، ولا وحد الله، ولا ترك الشرك، إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة
والبغضاء)
فلما فعل ذلك النبي
صلى الله عليه وسلم شمر الكفار عن ساق العداوة له ولأصحابه؛ لما بين لهم أن هذه
المعبودات التي يعبدونها من دون الله لا تضر ولا تنفع؛ جعلوا ذلك شتماً وسباً؛ ومن
ثم آذوه وعادوه، وهذه عادة أهل الباطل من قديم؛ إذا عحزوا عن مقارعة الحجة بالحجة
اتهموك: بأنك تتنقصهم وتتهكم عليهم وتطعن فيهم.. وهكذا.
بعض الجماعات
الموجودة الآن على الساحة تقول: إياك أن تتكلم في التوحيد لأنه يفرق، فهذا هو
الفارق بين أهل الحق وأهل الضلال الذين كل همهم جمع الناس حولهم، ولو على حساب
التوحيد؛ فأي دعوة هذه التي لا يكون أساسها التوحيد، وبيان قبح الشرك، والتنديد به
والتحذير منه، ويقولون لك: التوحيد معروف؛ سبحان الله! التوحيد معروف وعند من؟ عند
هؤلاء؟ إذا كان إبراهيم الحنيف صلى الله عليه وسلم قال: (واجنبني وبني أن نعبد
الأصنام). فكبف بغيره؛ لذلك قال إبراهيم التيمي رحمه الله: (ومن يأمن البلاء بعد
إبراهيم). ألا فليعلم هؤلاء أن التوحيد يجمع ولا يفرق؛ وهل قامت للإسلام دولة،
وصار للمسلمين كيان، وسادوا البلاد والعباد إلا بالتوحيد.
وليس معنى أننا
ندرس التوحيد ونهتم ونجعله شغلنا الشاغل؛ أن نهمل باقي العلوم الدينية، لا، لكن
التوحيد هو الأصل؛ ثم بعد ذلك تأتي بقية العلوم، ولا يقال: درسنا التوحيد، ودندنا
حوله كثيراً، ودعونا إليه، وحذرنا من الشرك؛ فيكفي هذا؛ ولننتبه إلى الأمور
الأخرى؛ كما يقول ذلك الحزبيون، فهذا ضلال، فها هو صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث
وعشرين سنة من الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك، يخشى على أصحابه فيقول في
مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا)
لم يقل: إن التوحيد استقر. لذلك من فائدة دراسة التوحيد المستمرة في جميع مراحل
التعليم في البلاد السعودية أنك نادراً ما تجد واحداً يشرك بلفظة؛ فتخيلوا لو
اكتفوا هناك بما أصله وقرره علماؤهم في هذا الباب؛ لا شك أن الأجيال التي تعلمت
ستنقرض، وستأتي بعدها أجيال تجهل هذا الشيء لا سيما مع كثرة الوافدين إليها
بثقافاتهم المختلفة، وعقائدهم المغايرة؛ فكيف سيكون الحال والواقع هكذا.
وانظروا إلى حالنا
في مصر أول ما يبدأ طالب العلم يبدأ بالفقه وأصوله، وآخر شيء يفكر في دراسته هو
العقيدة؛ وإن درسه فالعقيدة الطحاوية؛ وهذا حدث معنا فنحن لم نكن نعرف قيمة أن تتضلع
من العقيدة وتكثر من دراستها؛ قيمة أن تعرف التوحيد، قيمة أن تحذر من الشرك؛ فغاية
ما درسناه العقيدة الطحاوية وفيها ما فيها، واكتفينا بذلك؛ لكن مسائل التوحيد؛
مسائل الشرك دراسة هذه الأشياء؛ هذا كله جاءنا في الأخير بعد أن من الله علينا
بذلك، وهذا من توفيق الله لنا؛ فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
حتى في الطرح أول
ما ارتقينا المنابر تكلمنا عن الأحكام والرقائق؛ ما تكلمنا عن التوحيد، فتخيلوا معي لو أن الدعاة والمصلحين والناس
الذين من الله عليهم بالعلم النافع والعمل الصالح؛ حذروا الناس من الشرك، ودعوا إلى
التوحيد من أول الأمر؛ كيف سيكون حال الناس في مصر اليوم؟ فقدر الله وما شاء فعل.
ثم قال الشيخ رحمه الله: وقد أنزل الله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا
بالله فإذا أوذي فى الله جعل فتنة الناس كعذاب الله).
ومراد الشيخ بالاستدلال بهذه الآية؛ أن التصريح بالعداوة والبغضاء للمشركين
والكفار فيه - ولا شك - أذى، لكن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
فلا بد من التصريح؛ أن تصرح بهذه العداوة، وتتبرأ من الشرك وأهله؛ هذا أصل
من أصول اهل السنة والجماعة الولاء والبراء الذى انعدم عند الناس اليوم أو كاد،
صاروا لا يعرفونه حتى نحن؛ ما عرفنا هذا الأصل إلا متأخراً؛ أصل الولاء والبراء؛
كيف توالي المؤمنين وكيف تتبرأ من المشركين، أصل عظيم جداً؛ لكن للأسف ظل الناس -
ولا زال منهم بقية حتى اليوم - في عماية عنه؛ فصرت ترى الرجل المسلم يقول لابنه: صافح
عمك بطرس، هل الكافر عم للمسلم؟ لا إله إلا الله، فلما ظهر بعض المنذرين الذين
يريدون إصلاح هذه الديار وبدأوا في تعليم الناس الحق من الباطل وبينوا لهم الدين
الصحيح الذى اندرس أو كاد بفعل علماء السوء، ودعاة السوء المغرضين، وكان مما بُين
أنه لا يجوز بالاتفاق تهنئة النصارى بأعيادهم؛ تهنئة الكافر بعيده؛ قامت الدنيا
ولم تقعد.
وتوالت الأسئلة؛ كيف يكون ذلك وأنا أتعامل معهم وهم معي في العمل، وفي
السكن، ونتبادل الزيارات؟ شيء عجيب لأن أصل الولاء والبراء انعدم، وذهب كلام هذا
الرجل المصلح أدراج الرياح لأنه مغمور إعلامياً، فالناس الآن يحكمون على العلم من
خلال الشهرة، فأنت مشهور إذن أنت عالم، فإن لم تكن مشهوراً فلست بعالم؛ ولا شك
أنهم معذورون؛ لأنهم رأوا أحد أعلام المشهورين وهو القرضاوى – الزنديق - يفتي
بجواز ذلك؛ بل ويقول: هم إخواننا فنحن مؤمنون من وجه وهم مؤمنون من وجه. فإذا قال
المصلح بعدم الجواز وقال القرضاوى بخلافه، فالناس ولا شك ستأخذ بقوله لأن الموازين
انقلبت؛ فالله المستعان. لا يجوز أن تبدأ اليهودي والنصراني بالسلام وإذا لقيته فى
الطريق فضيق عليه (فاضطروهم إلى أضيقه) هذا في صحيح فى مسلم.
هل جربت هذا مرة؟ جرب أنت ثم انظر ماذا سترى؛ ستجد النصرانى هو الذي يبدؤك
بالسلام لماذا؟ لأنه يعلم أن هذا من عقيدة المسلمين، وقد صرح بعضهم بهذا؛ وكثير
منهم اليوم تعود على هذا - وهو مجرب - فيبدؤك بقوله: السلام عليكم، فترد أنت
وتقول: وعليكم. وليس معنى كلامنا هذا أننا نظلمه؛ لا، لا يجوز أن تظلمه أو تعتدى
على عرضه أو تعتدى عليه بأي نوع من أنواع الاعتداء، لا يجوز؛ فإن هذا حرام وظلم،
إنما المقصود أن تظهر شعائر الدين تظهر عزة الإسلام وعظمته، تظهر ذل الكافر، وأن
الكفر ذل ومهانة وأن الاسلام عزة، فانتقل أيها النصراني من الذلة إلى العزة.
(الموضع الثالث: قصة
قراءته صلى الله عليه وسلم سورة النجم، بحضرتهم، فلما بلغ: "أفرءيتم اللات
والعزى" ألقى الشيطان في تلاوته: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فظنوا
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وقالوا كلاماً
معناه: هذا الذي نريد، ونحن نعرف أن الله سبحانه هو النافع الضار النافع وحده لا
شريك لـه، ولكن هؤلاء يشفعون لنا عنده، فلما بلغ السجدة، سجد وسجدوا معه، فشاع
الخبر أنهم صافوه، وسمع بذلك من في الحبشة فرجعوا، فلما أنكر ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم، عادوا إلى أشر ما كانوا عليه، ولما قالوا لـه: إنك قلت ذلك، خاف
من الله خوفاً شديدا عظيماً، حتى أنزل الله عليه: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ". فمن فهم
هذه القصة، ثم شك في دين النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفرق بينه وبين دين
المشركين؛ فأبعده الله خصوصاً إن عرف أن قولهم: تلك الغرانيق العلى أنها الملائكة).
في هذا الموضع يذكر الشيخ
رحمه الله؛ قصة
الغرانيق التي أوردها بعض المفسرين وأصحاب المغازي والسير، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة، فقرأ سورة
النجم حتى انتهى إلى قولـه تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى)،
فجرى على لسانه: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، فسر مشركوا مكة لما
سمعوا ذلك، فاشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى قوله: (وما
أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله
ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم).
وهذا باطل، القصة باطلة؛
قال ابن خزيمة رحمه الله: هذه القصة من وضع الزنادقة؛ فمحال أن يقول النبى صلى
الله عليه وسلم ذلك.
فما معنى الآية إذاً؟ معنى الآية؛ أن: تمنى. بمعنى قرأ
وتلا؛ فيكون المعنى: ما من نبي ولا رسول إلا إذا قرأ وتلا ألقى الشيطان عند قراءته
من الشبه والوساوس ليصد الناس عن اتباع ما يقرؤه الرسول أو النبي، وذلك بإلقاء الشكوك
والمعاني الباطلة عليهم.
وقال بعضهم:
بل التمني هنا؛ هو التمني المعروف الذي أداته ليت، وعلى هذا القول يكون المعنى: ما من نبي ولا رسول إلا
إذا تمنى هداية قومه ألقى الشيطان في سبيل أمنيته العقبات للصد عن دين الله؛ حتى
لا يتم للنبي أو الرسول ما يتمناه.
فينسخ الله تلك الشبه والوساوس والشكوك التي ألقاها
الشيطان؛ يعني: يبطلها ويذهبها؛ ثم يحكم آياته فلا يبقى إلا الحق الذي أراده
سبحانه.
فهذا هو تفسير الآية، ويشهد لذلك قوله تعالى: (ليجعل
ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم) ثم قال: (وليعلم الذين
أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم).
فقوله: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق) ظاهر في
أن الشيطان يلقي عليهم أن الذي يقرأه النبي ليس حقاً، فيصدقه من أريد به الفتنة
وكان من أهل الشقاء، ويكذبه الذين أوتوا العلم والإيمان.
فالشيطان وسائله كثيرة وحبائله طويلة؛ قال تعالى: (وكذلك
جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً)،
وقال: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون).
وقد صحح
بعض أهل العلم هذه القصة، وذكروا أن لها أصلاً وأنها ليست موضوعة، ولزمهم من هذا
الحديث أن يفسروا الآية؛ فأتوا بما لا طائل من ورائه، وأحسن ما قيل فيها أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يرتل القرآن فانتهز الشيطان سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات
محاكياً نغمة النبي عليه الصلاة والسلام؛ فظن الناس أنها من قوله. وهذا ضعيف ولا
شك. فالقصة موضوعة وباطلة، وإن صححها من صححها من أهل العلم.
وعلى كل حال فما يهمنا منها هو الشاهد الذي استشهد به الشيخ رحمه الله؛ حيث
ظن الكفار أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم وذكر آلهتهم بخير؛ فأنكر صلى الله
عليه وسلم ذلك؛ فما كان منهم إلا أن رجعوا إلى ما كانوا عليه من العداوة والبغضاء؛
بل أشد.
والذي يستفاد من هذه القصة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر أصلاً عظيماً
من أصول الدين، وهو البراءة من الشرك وأهله - كما قد بينا قبل ذلك - فلم يداهن فيه
كما يفعل بعضهم اليوم متشدقاً بالنظر إلى المصالح، وفقه الأولويات - زعموا – بل
صرح بالعداء لهم والبراءة منهم، وكذلك معرفة خطورة الشرك،
وما يلزم كل مسلم من حفظ جناب التوحيد ومن الغيرة عليه، وعلي أهل أهله، لأنه ما
أصابنا في زماننا هذا من نكبات وويلات وصغار وذلة؛ فبسبب البعد عن التوحيد،
فالطريق صعب لأنه طريق الأنبياء وطريق الأنبياء محفوف بالأشواك والمخاطر، والناس
عادة تستسهل وتقدم رغد العيش والراحة علي الضيق، لكن الأمر ليس كذلك، الأمر يحتاج
إلي قوة وإلى فتوة للدعوة إلي التوحيد، ويحتاج إلي صبر علي الأذي والصبر علي ما
ينالك من هذه الدعوة العظيمة دعوة الناس إلى التوحيد؛ لذلك فإننا ندعو كل من مَنَّ الله
عليهم بالطريق الصحيح والمنهج القويم أن يدعو إلى التوحيد دون توان؛ فإنهم إن
فعلوا ذلك استقام بنا الحال.
الموضع الرابع: قصة
أبي طالب، فمن فهمها فهماً حسناً، وتأمل إقراره بالتوحيد وحث الناس عليه وتسفيهه
عقول المشركين ومحبته لمن أسلم وخلع الشرك، ثم بذل عمره وماله وعشيرته في نصرة
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، ثم صبره على المشاقّ العظيمة والعداوة
البالغة، لكن لأنه لم يدخل فيه ولم يتبرأ من دينه الأول، لم يصر مسلماً، مع أنه
يعتذر عن ذلك أن فيه مسبة أبيه عبد المطلب وآل هاشم وغيرهما من مشايخه. ثم مع
قرابته ونصرته، استغفر لـه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه:
"مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) ( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ".والـذي يبين هذا: أنه إذا عرف رجل من
أهل البصرة أو الإحساء بحب الدين وبحب المسلمين، ظن أكثر الناس أنه من المسلمين،
مع أنه لم ينصر الإسلام بيده ولا ماله، ولا لـه من الأعذار ما لأبي طالب، فمن فهم
قصة أبي طالب، وفهم الواقع من أكثر من يدّعي الدين، تبين لـه الهدى من الضلال،
وعرف سوء الإفهام، والله المستعان).
أبو طالب هو عم
النبي صلي الله عليه وسلم الذي كفله بعد وفاة جده
عبد المطلب سيد قريش وقام بهذه المهمة أحسن قيام، وأبو طالب كان سيد قريش أيضاً
وله مكانة عظيمة؛ فكان يذود عن النبي صلي الله عليه وسلم، ويدافع عنه وينصره بما
أوتي من مال وجاه، وكان يذم دين المشركين وما هم عليه؛ وكان يوقن أن محمداً علي
الحق وأن دينه خير أديان البرية ديناً، وله في ذلك قصيدة اسمها اللامية أوردها ابن
كثير في البداية والنهاية فيها من مدح النبي ومدح دينه وتقبيح للشرك والمشركين وما
هم عليه؛ فرجل بهذه الصفات يحب الدين، ويحب النبي صلي الله عليه وسلم؛ إضافة إلى
دفاعه عنه بالمال وبالجاه؛ بل وتحمل الأذي في سبيل ذلك؛ لأنه حوصر في الشعب مع بني
هاشم؛ ومع ذلك لم ينفعه كل هذا؛ لماذا؟
لأنه لم يتبع النبي صلي الله عليه وسلم؛ لهذا في مرض موته كان أبو جهل ورجل
من بني مخزوم يجلسان إلى جنبه، والنبي صلى الله عليه وسلم يكلمه ويقول له: يا عم
كلمة أحاج لك بها عند الله. يعني: قل: لا إله إلا الله. فقال: أخشى مسبة أشياخ
قريش؛ فلولا خشية هذه المسبة لأقررت بها عينك. فمات على الكفر، ولم ينفعه ما عمله
من أعمال؛ فما نفعته نصرته للنبي ولا تحمله الأذى في سبيله؛ لأنه لم ينطق
بالشهادتين ولم يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم.
وهذا ما عناه الشيخ
محمد بقوله: إذا عرف رجل من أهل البصرة أو الأحساء بحب الدين وبحب المسلمين؛ علماء
البصرة والأحساء كانوا يرون ما يراه الشيخ محمد من الشرك؛ لكنهم كانوا يلتزمون
الصمت؛ لم ينكروا الشرك ويحذروا منه؛ أما الذي تكلم وأنكر وواجه هذه الانحرافات؛
فهو الشيخ محمد رحمه الله الذي يقول: (ظن أكثر الناس أنه من المسلمين، مع أنه لم
ينصر الإسلام بيده ولا ماله)
فإذا كان أبو طالب
الذي فعل وفعل من نصرة وتأييد للنبي، وزيادة علي ذلك تحمل الأذي والمشقة وحوصر في
الشعب حتي قطعت عنهم الصلات والمؤن والأطعمة؛ ومع ذلك هو ليس من المسلمين وهو في
النار ولم تنفعه شفاعة النبي صلي الله عليه وسلم إلا أنه خفف عنه العذاب فهو في
ضحضاح من نار، فما بالك بمن يرى ويشاهد بعينه ما يفعله أهل الشرك وأهل القبور
ويسكت ولا ينكر بحجة أنهم يقولون: لا إله إلا الله؛ فالإسلام ليس دعوى، ليس كلمة
تقال؛ بل لا بد من التبرء من الشرك وأهله، ونصرة الدين، ولما كان أكثر الناس في
عماية عن هذا؛ ظنوا أن الشيخ رحمه الله يكفر الناس؛ مع أنهم يقولون: لا إله إلا
الله؛ فظنوا أن الذي يقول: لا إله الا الله لا يجوز تكفيره، فنقول لهم: لا اله الا
الله لها شروط وضوابط أين مقتضاها؟ أين العمل بها؟ فقد يقول الرجل لا إله إلا الله
ويدعو غير الله، ويذبح لغير الله؛ فهل تنفعه حينئذ لا إله إلا الله؛ لا شك أنها لا
تفيده لأنه جاء بالشرك المحبط لها؛ فليس كل من قال لا إله إلا الله يكون مسلماً
على الحقيقة.
الموضع
الخامس: قصة الهجرة، وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها، ولكن
مرادنا الآن مسألة واحدة من مسائلها، وهي: أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم من لم يهاجر - من غير شك في الدين، ولكن محبة للأهل والمال والوطن - فلما
خرجوا إلى بدر، خرجوا معهم وهم كارهون، فقتل بعضهم بالرمي -والرامي لا يعرفهم-
فلما سمع الصحابة: من القتلى: قتل فلان وفلان، شق عليهم، وقالوا: قتلنا إخواننا
فأنزل الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي
الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا
فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا
يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ
اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً... الآيات". فمن تأمل قصتهم، وتأمل قول
الصحابة: قتلنا إخواننا. علم أنهم لو
بلغهم عنهم كلام في سب الدين، أو كلام في تزيين دين المشركين، لم يقولوا: قتلنا
إخواننا، فإن الله بيّن لهم وهم بمكة، قبل الهجرة أن ذلك كفر بعد الإيمان بقوله
تعالى: "مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ". وأبلغ من هذا ما تقدم من كلام الله
تعالى فيهم، فإن الملائكة تقول لهم: "فيم كنتم" ولم يقولوا لهم: كيف
تصديقكم، فلما قالوا: "كنا مستضعفين في الأرض" لم يقولوا: كذبتم، مثلما
يقول الله والملائكة للمجاهد الذي يقول:
جاهدت في سبيلك حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل قاتلت
ليقال: جريء وكذلك يقال للعالم والمتصدق: كذبت، بل تعلمت ليقال: عالم، وتصدقت
ليقال: جواد. وأما هؤلاء فلم يكذبوهم، بل أجابوهم بقولهم: "أَلَمْ تَكُنْ
أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءَتْ مَصِيراً". ويزيد ذلك إيضاحاً للجاهل والعارف، الآية التي بعدها،
وهي قوله تعالى: "إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً". فهذا أوضح جداً، لأن هؤلاء الذين خرجوا من
الوعيد، فلم يبق شبهة، لكن لمن طلب العلم بخلاف من لم يطلبه، بـل قال الله فيمن
هذه صفته: "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ". فمن فهم هذا الموضع والموضع الذي قبله، فهم كلام
الحسن البصري: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتّمنّي، ولكن ما وقر في القلـوب،
وصدّقته الأعمال، وذلك أن الله تعالى يقول: "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ").
في هذه القصة نجد
أن بعض من أسلم مكث في مكة ولم يهاجر؛ شحاً بالأوطان والأموال والأولاد والأزواج؛
لأن في الهجرة ترك لكل ذلك، وفي نفس الوقت هناك أناس يتمنون الهجرة إلى النبي صلي
الله عليه وسلم وترك جميع ما يملكونه؛ لكنهم لم يستطيعوا، لأنهم ضعفاء لا يستطيعون
حيلة ولا يهتدون سبيلاً؟ والسبيل الهجرة. ولما وقعت غزوة بدر أخرج الكفار هؤلاء
الذين شحوا بالمال والأهل على الهجرة معهم، وأرغموهم علي ذلك مع أنهم مسلمين،
فالنفاق لم يكن في مكة ولا في المهاجرين، النفاق كان في المدينة، إذن فهم مسلمون،
والدليل أنه لما حصل الترامي بين الطرفين ورمى الصحابة دون قصد بعضاً من هؤلاء،
قالوا: إخواننا وجعلوا يتألمون، فقولهم: إخواننا مع إقرار النبي صلي الله عليه
وسلم لها بإقرار القرآن؛ يدل علي أنهم مسلمون، وأنهم ما خرجوا إلا مرغمين كارهين
لكن بضنهم وشحهم بالأوطان والأموال وقعودهم عن الهجرة؛ وبخهم الله تعالى بقوله:
(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في
الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت
مصيراً إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا
يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفوا عنهم وكان الله غفوراً رحيماً ) فاستثنى
الله المستضعفين كسلمة بن الوليد، والوليد بن الوليد، وهشام بن عياش بن أبي ربيعة؛
الذين دعا لهم النبي صلي الله عليه وسلم.
فانظر إلى خطورة
ترك الهجرة والقعود مع المشركين؛ وكيف قال الله تعالى فيهم: (فأولئك مأواهم جهنم
وساءت مصيراً) ولم يعذرهم؛ لذلك قال النبي صلي الله عليه وسلم ( لا ترائى ناراهما
) وقال: ( أنا بريء ممن يقيم بين ظهراني المشركين).
الموضع السادس: قصة
الردة، بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فمن سمعها لم يبق في قلبه مثقال ذرة من
شبهة الشياطين الذين يسمون "العلماء" وهي قولهم: هذا هو الشرك، لكن
يقولون: لا إله إلا الله، ومن قالها لا يكفر بشيء، وأعظم من ذلك وأكبر، تصريحهم بأن
البوادي ليس معهم من الإسلام شعرة، لكن يقولون: لا إله إلا الله، وهم بهذه الشهادة
أهل إسلام، حرم الإسلام مالهم ودمهم، مع إقرارهم أنهم تركوا الإسلام كله، ومع
علمهم بإنكارهم البعث واستهزائهم بمن أقرّ به، واستهزائهم بالشرائع وتفضيلهم دين
آباءهم المخالف لدين النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا كله يصرح هؤلاء الشياطين
المردة الجهلة: أن البدو أهل إسلام، ولو جرى منهم ذلك كله، لأنهم يقولون: لا إله
إلا الله، - ولازم قولهم أن اليهود أسلموا لأنهم يقولونها - وأيضاً كفر هؤلاء أغلظ
من كفر اليهود بأضعاف مضاعفة، أعني البوادي المتصفين بما ذكرنا، والذي يبين ذلك من
قصة الرّدّة، أن المرتدين افترقوا في ردّتهم، فمنهم من كذّب النبي صلى الله عليه
وسلم ورجع إلى عبادة الأوثان، وقالوا: لو كان نبياً ما مات، ومنهم من ثبت على
الشهادتين، لكن أقرّ بنبوّة مسيلمة، ظناً أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في
النبوة، لأن مسيلمة أقام شهود زور، شهدوا لـه بذلك، فصدقهم كثير من الناس، ومع هذا
أجمع العلماء أنهم مرتدّون، ولو جهلوا (ذلك) ومن شكّ في ردّتهم فهو كافر. فإذا
عرفت أن العلماء أجمعوا على أن الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى
عبادة الأوثان وشتموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أقرّ بنبوّة مسيلمة في حال
واحدة، ولو ثبت على الإسلام كله. ومنهم من أقرّ بالشهادتين، وصدق طليحة بن خويلد
الأسدي في دعواه النبوّة، ومنهم من صدق عبهلة بن كعب الأسود العنسي صاحب صنعاء فكل
هؤلاء أجمع العلماء أنهم مرتدون. ومنهم أنواع أخر، منهم الفجاءة السّلمي لما وفد
على أبي بكر وذكر لـه أنه يريد قتال المرتدين وطلب من أبي بكر أن يمدّه، فأعطاه
سلاحاً ورواحل، فاستعرض السّلمي المسلم والكافر يأخذ أموالهم، فجهز أبو بكر جيشاً
لقتاله، فلما أحسّ بالجيش، قال لأميرهم: أنت أمير أبي بكر، وأنا أميره، ولم أكفر،
فقال: إن كنت صادقاً فألق السّلاح فألقاه،
فبعث به إلى أبي بكر، فأمر بتحريقه بالنار وهو حي. فإذا كان هذا حكم الصحابة في
هذا الرجل، مع إقراره بأركان الإسلام الخمسة، فما ظنك بمن لم يقر من الإسلام بكلمة
واحدة، إلا أن يقول: لا إله إلا الله بلسانه مع تصريحه بتكذيب معناها، وتصريحه
بالبراءة من دين محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كتاب الله، ويقولون هذا دين الحضر
وديننا دين آبائنا، ثم يفتون هؤلاء المردة الجهال: أن هؤلاء مسلمون، ولو صرحوا
بذلك كله، إذا قالوا: لا إله إلا الله. سبحانك هذا بهتان عظيم. وما أحسن ما قال
رجل من أهل البوادي، لما قدم علينا وسمع شيئاً من الإسلام، قال: أشهد أنا كفار - يعني
هو وجميع البوادي - وأشهد أن المطوع الذي يسمينا أهل إسلام أنه كافر).
الموضع الأخير: قصة
الردة بعد موت النبي صلي الله عليه وسلم، والذي نستفيده منها - وهو كسابقه - أن لا إله إلا الله لا تنفع صاحبها إلا إذا أتى
بشروطها، ومن تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب عرف ذلك؛ مثل قوله صلى الله عليه
وسلم: (من قال لا إله الا الله مخلصاً من قلبه) وقوله: (من قال لا إله الا الله
يبتغي بها وجه الله) وقوله: ( من قال لا إله الا الله وكفر بما يعبد من دون الله)
فـ (مخلصاً من قلبه، يبتغي بها وجه الله، وكفر بما يعبد من دون الله) كل هذه قيود؛
فلا يحتج أحد بالعمومات؛ كحديث: (من قال لا إله الا الله نفعته يوماً من دهره)،
وحديث البطاقة، وأمثال هذه الأحاديث؛ بل عليه أن يرد المحكم إلى المتشابه، والمطلق
إلى المقيد وهكذا؛ لهذا كثيراً ما يدندن الشيخ محمد رحمه الله حول هذه المسألة
ويذكرها؛ ولعل هذه الرسالة كلها في بيان ذلك؛ وبيان المعنى الصحيح لـ (لا إله إلا
الله).
إذن: فالقضية ليست
في قول: لا اله الا الله - كما سبق - إنما في تحقيق شروطها، والقيام بالأعمال التي
تقتضيها، والشيخ يذكر ها هنا أنه بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم ارتد أقوام؛
حيث قالوا لو كان نبيناً ما مات، وارتد آخرون آمنوا بمسيلمة الكذاب وصدقوه، وكذا
فعل آخرون مع طليحة الأسدي، والأسود العنسي، وهؤلاء لم يكفروا بنبوة محمد صلى الله
عليه وسلم؛ بل قالوا: لا اله الا الله، محمد رسول الله ومسيلمة كذلك نبي الله،
وطليحة نبي، والأسود نبي، فهم كفروا في جزئية وهي أنهم آمنوا بهؤلاء على أنهم
أنبياء؛ مع إيمانهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والآخرون قالوا: لو كان نبياً
ما مات، فأجمع الصحابة على قتالهم، وأطبقوا علي كفرهم وردتهم.
فالمقصود أيها الإخوة أن الشيخ محمداً رحمه الله
كان شغله الشاغل الدعوة إلى توحيد الألوهية وإزالة الشبه التي وضعها علماء السوء
في عصره عن معني لا اله الا الله، وأن الذي قالها لا نكفره، وإن فعل ما فعل.
ومن هذا يتضح لك
ضلال جماعة التبليغ الذين يقولون: إن معنى (لا اله الا الله) أي: لا خالق الا
الله، يفسرونها بتوحيد الربوبية؛ فنقول لهم: سبحان الله! إن كفار قريش ما فهموا
منها هذا؛ وإلا لكانوا أجابوا النبي صلى الله عليه وسلم إليها؛ لكنهم فهموا منها:
إفراد العبادة لله وحده فامتعنوا عن قولها؛ فاعجب لقوم كفار قريش أحسن منهم فهماً.
هذا والله أعلم، وصلي الله وسلم علي نبينا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً