شرح عقيدة أبي زرعة وأبي حاتم الرازيين

شرح عقيدة أبي زرعة وأبي حاتم الرازيين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: "سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين, وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار, وما يعتقدان من ذلك؛ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً؛ فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل؛ يزيد وينقص, والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته, والقدر خيره وشره من الله عز وجل, وخير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام أبو بكر الصديق؛ ثم عمر بن الخطاب؛ ثم عثمان بن عفان؛ ثم علي بن أبي طالب عليهم السلام, وهم الخلفاء الراشدون المهديون، وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد لهم بالجنة على ما شهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق، والترحم على جميع أصحاب محمد، والكف عما شجر بينهم، وأن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه؛ كما وصف نفسه في كتابه, وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف؛ أحاط بكل شيء علماً, {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، وأنه تبارك وتعالى يرى في الآخرة؛ يراه أهل الجنة بأبصارهم، ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء، والجنة حق والنار حق وهما مخلوقتان لا يفنيان أبداً, والجنة ثواب لأوليائه, والنار عقاب لأهل معصيته إلا من رحم الله عز وجل، والصراط حق, والميزان حق؛ له كفتان, توزن فيه أعمال العباد حسنها وسيئها حق، والحوض المكرم به نبينا حق، والشفاعة حق, والبعث من بعد الموت حق، وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل، ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم, ونكل أسرارهم إلى الله عز وجل، ونقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا ولا ننزع يداً من طاعة, ونتبع السنة والجماعة, ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة، وأن الجهاد ماض منذ بعث الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة مع أولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء، والحج كذلك, ودفع الصدقات من السوائم إلى أولي الأمر من أئمة المسلمين، والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم, ولا ندري ما هم عند الله عز وجل فمن قال: إنه مؤمن حقاً فهو مبتدع, ومن قال: هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين, ومن قال: هو مؤمن بالله حقاً فهو مصيب، والمرجئة والمبتدعة ضلال, والقدرية المبتدعة ضلال, فمن أنكر منهم أن الله عز وجل لا يعلم ما لم يكن قبل أن يكون فهو كافر، وأن الجهمية كفار, وأن الرافضة رفضوا الإسلام, والخوارج مراق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفرا ينقل عن الملة، ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر، ومن شك في كلام الله عز وجل فوقف شاكا ًفيه يقول: لا أدري مخلوق أو غير مخلوق فهو جهمي، ومن وقف في القرآن جاهلاً علم وبدع ولم يكفر، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي.
قال أبو محمد: وسمعت أبي يقول: "وعلامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر, وعلامة الزنادقة  تسميتهم أهل السنة حشوية يريدون إبطال الآثار، وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة, وعلامة القدرية تسميتهم أهل الأثر مجبرة، وعلامة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية، وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة ناصبة، ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد ويستحيل أن تجمعهم هذه الأسماء.
قال أبو محمد: وسمعت أبي وأبا زرعة يأمران بهجران أهل الزيغ والبدع يغلظان في ذلك أشد التغليظ, وينكران وضع الكتب برأي في غير آثار, وينهيان عن مجالسة أهل الكلام والنظر في كتب المتكلمين, ويقولان: لا يفلح صاحب كلام أبداً.
قال أبو محمد: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم بإحسان, وترك النظر في موضع بدعهم, والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل أبي عبدالله أحمد بن حنبل, وإسحاق بن إبراهيم, وأبي عبيد القاسم بن سلام, والشافعي، ولزوم الكتاب والسنة, والذب عن الأئمة المتبعة لآثار السلف, واختيار ما اختاره أهل السنة من الأئمة في الأمصار مثل: مالك بن أنس في المدينة, والأوزاعي بالشام, والليث بن سعد بمصر, وسفيان الثوري, وحماد بن زياد بالعراق من الحوادث مما لا يوجد فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وترك رأي الملبسين المموهين المزخرفين الممخرقين الكذابين, وترك النظر في كتب الكرابيسي, ومجانبة من يناضل عنه من أصحابه وشاجر فيه مثل داود الأصبهاني وأشكاله ومتبعيه، والقرآن كلام الله وعلمه وأسماؤه وصفاته وأمره ونهيه؛ ليس  بمخلوق بجهة من الجهات، ومن زعم أنه مخلوق مجعول؛ فهو كافر بالله كفراً ينقل عن الملة, ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر، والواقفة واللفظية جهمية؛ جهمهم أبو عبدالله أحمد بن حنبل، والاتباع للأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان، وترك كلام المتكلمين, وترك مجالستهم وهجرانهم, وترك مجالسة من وضع الكتب بالرأي بلا آثار، واختيارنا أن الإيمان قول وعمل؛ إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالأركان؛ مثل الصلاة والزكاة لمن كان له مال, والحج لمن استطاع إليه سبيلاً, وصوم شهر رمضان, وجميع فرائض الله التي فرض على عباده؛ العمل به من الإيمان، والإيمان يزيد وينقص, ونؤمن بعذاب القبر, وبالحوض المكرم به النبي صلى الله عليه وسلم, ونؤمن بالمساءلة في القبر, وبالكرام الكاتبين, وبالشفاعة المخصوص بها النبي صلى الله عليه وسلم, ونترحم على جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, ولا نسب أحداً منهم لقوله عز وجل: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}، والصواب نعتقد ونزعم أن الله على عرشه بائن من خلقه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، ولا نرى الخروج على الأئمة، ولا نقاتل في الفتنة, ونسمع ونطيع لمن ولى الله عز وجل أمرنا، ونرى الصلاة والحج والجهاد مع الأئمة, ودفع صدقات المواشي إليهم، ونؤمن بما جاءت به الآثار الصحيحة بأنه يخرج قوم من النار من الموحدين بالشفاعة، ونقول: إنا مؤمنون بالله عز وجل, وكره سفيان الثوري أن يقول: أنا مؤمن حقاً عند الله ومستكمل الإيمان, وكذلك قول الأوزاعي أيضاً، وعلامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الجهمية أن يسموا أهل السنة مشبهة ونابتة، وعلامة القدرية أن يسموا أهل السنة مجبرة، وعلامة الزنادقة أن يسموا أهل الأثر حشوية، ويريدون إبطال الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفقنا الله وكل مؤمن لما يحب ويرضى من القول والعمل, وصلى الله على محمد وآله وسلم".
"ووجدت في بعض كتب أبي حاتم محمد بن ادريس ابن المنذر الحنظلي الرازي رحمه الله مما سمع منه يقول مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم بإحسان وترك النظر في موضع بدعهم والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل أبي عبدالله أحمد بن حنبل واسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد القاسم بن سلام والشافعي ولزوم الكتاب والسنة والذب عن الائمة المتبعة لآثار السلف".
الشرح:
"الإيمان قول وعمل؛ يزيد وينقص".
الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالعصية، ولا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل وقول إلا بنية، ولا قول وعمل بنية.
قلنا: الإيمان: قول وعمل. أي قول القلب وقول اللسان، وعمل القلب وعمل الجوارح؛ فقول القلب: الإقرار، والإيمان والتصديق، والمعرفة. وقول اللسان: النطق بالشهادتين. وعمل القلب: النية والإخلاص والرهبة والرغبة والحب والتوكل، فهذه كلها أعمال قلبية. وعمل الجوارح: الأعمال التي يأتي بها الإنسان، وأعظمها المباني الأربعة: الصلاة والزكاة والصيام والحج.
فالمراد بالعمل في مسمى الإيمان؛ ليس عمل القلب فقط؛ كما تقوله المرجئة؛ بل عمل القلب والجوارح، وعلى هذا فمن دخل في الإسلام، ولم يعمل شيئاً بجوارحه؛ مع بقائه زمناً وقدرته على ذلك، ولا مانع يمنعه؛ فهو كافر.
والإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وعلى ذلك إجماع السلف؛ قال تعالى:"أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا"، وقال تعالى:"لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِم"؛ هذا في الزيادة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)؛ هذا في النقص.
فالإيمان يزداد حتى يصير أمثال الجبال، وينقص حتى يصير أمثال الهباء.
وأهل السنة والجماعة على جواز الاستثناء في الإيمان؛ فيقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله؛ ليس على سبيل الشك، وإنما خوفاً من تزكية النفس، والدليل على ذلك؛ قوله تعالى:"لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ". وقد تحقق الدخول.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم لله)، وهو صلى الله عليه وسلم؛ أخشاهم وأتقاهم.
لذا يقول ابن تيمية: ومذهب السلف أصحاب الحديث؛ أنهم يستثنون في الإيمان، وهذا متواتر عنهم.
"والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته"
القرآن كلام الله عير مخلوق؛ منه بدأ وإليه يعود، تكلم الله به على الحقيقة بحرف وصوت؛ والقرآن من علم الله، وعلم الله ليس بمخلوق.
وقد أجمع السلف على أن من قال: القرآن مخلوق؛ فهو كافر.
قال الإمام أحمد لتلميذه أحمد بن الحسين الترمذي: ألست مخلوقاً؟ فقال الترمذي: نعم. فقال أحمد: أليس كل شيء منك مخلوقاً؟ فقال الترمذي: نعم. فقال أحمد: فكلامك أليس هو منك، وهو مخلوق؟ فقال الترمذي: نعم. فقال أحمد: فكلام الله عز وجل أليس هـو منه؟ فقال الترمذي: نعم. فقال أحمد رحمه الله: فيكون من الله شيء مخلوق؟
وأول من قال بخلق القرآن بشر بن غياث المريسي، وقد كفره غير واحد من أئمة السلف؛ بسبب هـذه المقالة.
"والقدر خيره وشره من الله عز وجل".
السنة أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشره، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ذلك كله قضاء من الله عز وجل.
والقدر أحد أركان الإيمان الستة، لا يتم إيمان عبد إلا به، وفي حديث جبريل المشهور: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره.
فلا إيمان لمن لم يؤمن بالقضاء والقدر، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ فجميع ما في الكون بقضاء الله وقدره.
وللقدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم؛ فهو سبحانه قد أحاط بكل شيء علماً؛ فنؤمن أن الله سبحانه وتعالى؛ علم الأشياء في الأزل قبل وقوعها؛ فهو  يعلم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
المرتبة الثانية: الكتابة؛ فهو سبحانه قد كتب ذلك في اللوح المحفوظ.
المرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما وقع في هذا الكون قد شاءه الله تعالى وأراده، فشاء وقوع الشر ولم يرض به، وشاء وقوع الخير ورضي به، ولا يقع في خلقه شيء لم يشأه ولم يرده.
المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد؛ فلا خالق إلا هو سبحانه، فهو خالق العمل، والعبد فاعل له.
وقد انقسمت الأمة في القدر؛ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: غَلَوْا في إثبات القدر؛ فنفوا أن يكون لله تعالى مشيئة، وأثبتوا المشيئة والاختيار للعبد، وهذه الفرقة تسمى: القدرية.
القسم الثاني: أثبتوا فعل العبد وقدرته، ونفوا أن يكون للعبد فعل أو قدرة، وهؤلاء يسمون: الجبرية.
القسم الثالث: أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا قدرة الرب، وأثبتوا مشيئة للعبد؛ كما قال تعالى: "لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ"، وقال تعالى: "لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ".
"وخير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام أبو بكر الصديق؛ ثم عمر بن الخطاب؛ ثم عثمان بن عفان؛ ثم علي بن أبي طالب عليهم السلام, وهم الخلفاء الراشدون المهديون  وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد لهم بالجنة على ما شهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق، والترحم على جميع أصحاب محمد، والكف عما شجر بينهم".
من أصول أهل السنة والجماعة؛ سلامة قلوبهم تجاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحبهم والترضي عليهم، وذكرهم بكل جميل، والكف عما شجر بينهم.
فسب الصحابة قـدح في رسـول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من سب الصحابة أو تنقصهم؛ فقد نسب إليهم السوء، وحكم عليهم بأنهم قوم سوء، فيكون بهذا قد طعن في النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذا أنهم أصحابه وخلانه، والمرء بخدنه.
وأفضل الصحابة على الإطلاق: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم؛ ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة.
"وأن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه؛ كما وصف نفسه في كتابه, وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف؛ أحاط بكل شيء علماً, {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، وأنه تبارك وتعالى يرى في الآخرة؛ يراه أهل الجنة بأبصارهم، ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء".
هذا الكلام يتعلق بمبحث الصفات، وتوحيد الأسماء والصفات أحد أقسام التوحيد الثلاثة.
وأهل السنة والجماعة؛ يؤمنون بصفات الله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل؛ يمرونها كما جاءت من غير؛ تحريف للفظ أو المعنى، أو تعطيل للصفة أو نفيها، أو تكييفها أو تفويضها، أو تمثيلها، أو تأويلها؛ قال تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ".
وصفات الله تعالى؛ ليس فيها نقص بوجه من الوجوه؛ فهي كمال مطلق.
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم؛ قال تعالى: "وُجُـوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِـرَةٌ إِلَـى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ"، وقال: "عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ". إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة قوله صلى الله عيه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يدخلنا الجنة؟ ألم ينجنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله تعالى؛ فما نظروا إلى شيء أحب إليهم من النظر إلى الله تعالى).
هذا بالنسبة للآخرة، أما بالنسبة للدنيا فرؤية الله تعالى تستحيل على جميع الخلق.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم؛ هل رأى ربه ليلة الإسراء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نور أنى أراه وفي رواية (رأيت نوراً).
"واختيار ما اختاره أهل السنة من الأئمة في الأقطار؛ كمالك بن أنس في المدينة، والأوزاعي في الشام، والليث بن سعد في مصر، وسفيان الثوري وحماد بن زيد في العراق؛ من الحوادث مما لا يوجد فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين".
الحوادث التي لا يوجد فيها أو عنها إشارة في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ماذا نفعل فيها؟
هؤلاء الأئمة؛ لماذا صاروا أئمة؟
لأننا سبرنا أحوالهم فوجدناهم أهل صدق وديانة وأمانة وورع؛ فأجمعت الأمة على أمانتهم وعلمهم وديانتهم وزهدهم وورعهم ونصحهم لله ولرسوله ولكتابه وللأمة؛ لذلك صاروا أئمة "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا".
أنت الآن - دعك من الإمام مالك أو الإمام أحمد أو الإمام إسحاق بن راهويه أو الثوري أو حماد ابن زيد أو حماد بن سلمة أو سفيان بن عيينة أو الدارمي أو البخاري أو غيره من الأئمة، أنت الآن الشيخ الذي تأخذ عنه العلم؛ إن رأيت هذا الشيخ سائراً على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافق قوله فعله؛ أليس ينقدح في قلبك وفي عقلك؛ أن هذا الشيخ من أهل التقى والصلاح؟
لأنك لم تر تناقضاً بين أفعاله وأقواله، وهو لم يصل بعد لأدنى أدنى مرتبة واحد من هؤلاء الأجلة؛ فما بالنا بأمثال مالك وأحمد والشافعي، وغيرهم؟
لهذا حكمنا على هؤلاء؛ بالإمامة والديانة، وقلدناهم في الأمور التي نص لا فيها من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا سبرنا أحوالهم وفحصناهم؛ فعلمنا أن أقوالهم وافقت أفعالهم، وأنهم أهل صدق وأمانة وتقى وزهد ونصح للأمة؛ وإلا فكم من إمام في العلم يشار إليه بالبنان، وهو ليس من أهل السنة، ولا من أئمة أهل السنة؛ ابن عقيل؛ مثلاً؛ أبو الوفاء بن عقيل؛ كان بحراً من بحور العلم؛ قال عنه ابن تيمية: أحد أفراد العالم، ومع ذلك عقيدته؛ ليست عقيدة أهل السنة؛ لماذا؟ لأنه كان يجالس المعتزلة؛ فأثروا عليه.
إذن ما موقف المسلم في الحادثة أو النازلة التي لا نص فيها من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله                صلى الله عليه وسلم؟
ولا نص فيها من صاحب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من قول تابع، ولا من قول إمام من أئمة المسلمين؟
ماذا يفعل؟ ما موقفه؟ يقلد الأعلم؛ أم الأورع؟
يقلد الأورع؛ لأن الأعلم قد يكون فيه دغل؛ قلد الأورع؛ إن استويا في العلم النافع، والعمل الصالح؛ قلد الأورع والأتقى.
"وترك رأي الملبسين المموهين المزخرفين الممخرقين الكذابين".
نعم، ولا تغتر بهم وبتفاصحهم وتفيهقهم وتشدقهم؛ أهل السنة لا يغترون بذلك؛ إنما يقدرون العلم الرجيح، والقول الصحيح، ويقدرون من عمل بهذا العلم سائراً على جادة الكتاب والسنة، أما الزخرفة والتمويه وغير ذلك؛ فهم لا يغترون بذلك، وقد كان من أهل البدع من كان إليه المنتهى في الفصاحة؛ حتى أثر عن واصل بن عطاء الغزال رأس المعتزلة؛ وكانت فيه لثغة؛ فخطب خطبة؛ فما ذكر فيها الراء! وجاءه إنسان وكتب إليه أن فلاناً الأمير أمر بحفر بئر؛ فغير الكلام بحيث لا يكون فيه راء. ومع هذا؛ فهو رأس من رؤوس أهل البدع والضلال.
وكذلك لا نغتر بالزهد، والمسكنة والثياب المرقعة والخشونة في المأكل والمشرب والمعيشة؛ كما اغتر أبو جعفر بعمرو بن عبيد حتى قال:  كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد. 
مالك قيل: إنه لما مات خلف ثلاث مئة عمامة، وهو إمام من أئمة المسلمين؛ إذن فليس الأمر بالزهد، ولكن العبرة في العلم النافع والعمل الصالح.
الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة ومن أئمة الهدى لما مات؛ خلف القناطير المقنطرة من الدنانير والدراهم، عبدالرحمن بن عوف من أئمة الهدى لما مات خلف شيئاً من الذهب كلت فيه الأيدي من تقطيعه بالفؤوس.
نحن لا نغتر بهذه الأشياء؛ إنما مقياسنا وميزاننا هو الكتاب والسنة، فمن كان سائراً على الكتاب والسنة وإن كان ملكاً من الملوك حملناه فوق الرؤوس والأعناق، وإن كان مجانباً للكتاب والسنة، ولو كان يلبس المرقع ومن أفصح الناس ومن أزهد الناس جانبناه وفارقناه.
"وترك النظر في كتب الكرابيسي، ومجانبة من يناظر عنه من أصحابه؛ مثل داوود الأصبهاني وأشكاله ومتبعيه".
الحسين بن علي الكرابيسي من هو؟ هذا الرجل كان صديقاً للإمام أحمد، وكان مؤاخياً لإمامين من أئمة السلف: إسحاق بن راهويه أبي يعقوب رحمه الله، وخالد بن يزيد الكلبي أبي ثور رحمه الله؛ هذا الرجل كان من كبار تلاميذ الشافعي؛ أنا الآن أذكر لك ترجمته؛ لأن أهل البدع والأهواء؛ تقول لهم: فلان مبتدع، فيأتيك بالترجمة، وفيها: فلان هذا كذا وكذا، وزكاه فلان وفلان.
كلام أغرار؛ كلام جهال، وإلا فليأتنا بترجمة تضاهي ترجمة الكرابيسي؛ الكرابيسي تتلمذ على من؟ على الشافعي، ولم يكن تلميذاً له فحسب؛ بل كان من كبار تلامذته؛ هذا بالنسبة للتلمذة، وكان رفقاؤه في الطلب؛ الإمام أحمد الإمام أبو ثور، الإمام إسحاق؛ هل يوجد في هذا العصر أو في العصور التي قبله من يضاهي الكرابيسي؟ وفوق ذلك كان الكرابيسي بحراً من بحور العلم؛ فماذا حدث؟
جاء إليه رجل في وقت محنة خلق القرآن، فقال: يا أبا علي؛ لفظي بالقرآن مخلوق؟
قال: نعم.
إمام؛ عالم؛ كبير؛ لكن الرجل أراد أن يستوثق من جوابه؛ فذهب إلى من؟ إلى من هو أعلم وأتقن من الكرابيسي، وهو الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة، والجميع؛ جميع أقران الإمام أحمد يذعنون له؛ إسحاق بن راهويه؛ أبو ثور، علي بن المديني، الكرابيسي، زهير بن حرب أبو خيثمة، أبو بكر بن أبي شيبة، أحمد بن صالح المصري، يحيى بن معين؛ هؤلاء أقرانه؛ فضلاً عن الجيل الذي بعده، أبو داود؛ أبو زرعة؛ أبو حاتم؛ البخاري، جميع هؤلاء الأئمة كانوا يذعنون للإمام أحمد، ويسلمون له، ويعترفون له بالإمامة والتقدم والفضل. وهذا من سلامة صدورهم.
فذهب الرجل للإمام أحمد، وقال له: يا أبا عبدالله، إني قد ذهبت لأبي علي الحسين الكرابيسي فقلت له:  وقص عليه ما حدث، فقال له أحمد: قل له: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي،
ذهب الرجل للحسين، وقال له: يقول لك أبو عبدالله: من قال: إن لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي. ماذا قال الحسين في بادئ الأمر؟ هل أخذته العزة بالإثم؟ هل استنكف؟ هل استكبر؟ وقال للسائل: لماذا ذهبت إلى أحمد؛ قال: نعم؛ إن أبا عبدالله رجل صالح؛ مثله يوفق لإصابة الحق؛ إذن إصابة الحق ليس بالذكاء، ولا بكثرة القراءة والاطلاع؛ إنما بصلاح القلب، بسلامة القلب؛ سلامة السريرة.
لما كان أحمد في سياق الموت؛ قيل له: يا أبا عبدالله: إلى من نذهب؟
فقال: إلى عبدالوهاب الوراق – أحد تلاميذ أحمد - قيل له: يا أبا عبدالله؛ إن عبدالوهاب ليس بذاك – يعني في العلم - فقال: إن عبدالوهاب رجل صالح؛ مثله يوفق لإصابة الحق.
فقال الكرابيسي: إن أبا عبدالله رجل صالح؛ مثله يوفق لإصابة الحق؛ إذاً قل: لفظي بالقرآن غير مخلوق.
الإجابة الأولى كانت: لفظي بالقرآن مخلوق، ومن قال ذلك؛ فهو جهمي؛ الإجابة الثانية كانت: لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ قالها الكرابيسي هرباً من التجهم؛ فبدع أحمد هذه المقولة، وقال للرجل: هذه بدعة.
فرجع الرجل إلى الكرابيسي، وقال له: إن أبا عبدالله يقول لك: إن هذه بدعة.
فقال الكرابيسي: أيش نعمل في هذا الصبي؛ أخذه الغضب؛ فقال: أيش نعمل في هذا الصبي؟ إن قلنا: لفظي بالقرآن مخلوق؛ قال: جهمي، وإن قلنا: لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ قال: مبتدع؛ لأقولن مقالة إن خالفها أحمد كفر؛ فرد عليه أحمد: بل هو الكافر لعنه الله، وتقلد الكرابيسي مسألة اللفظ.
مسألة اللفظ هذه؟ هل هي من حيث القول؛ قول باطل؛ أم فيها تفصيل؟
فيها تفصيل؛ إن أريد اللفظ فهو مخلوق، وإن أريد الملفوظ فليس بمخلوق؛ هو كلام الله.
فلما كان القول يحتمل: بدع الإمام أحمد الكرابيسي لقول يحتمل؛ قول محتمل؛ بدع من أجله الإمام أحمد؛ الكرابيسي، وهو من هو في علمه.
الآن تأتي لأحد الدعاة، وتقول لأتباعه: فلان هذا أخطأ؛ أنت لم تقل له: مبتدع؛ بل: أخطأ فقط؛ يقيم الدنيا ولا يقعدها لمجرد أنك ذكرت أنه أخطأ، وكأن شيخه لا يخطئ؛ معصوم، والحقيقة أن شيخه هذا لم يخطئ؛ بل هو مبتدع غارق في البدعة والضلالة.
فالتبديع عند السلف لم يكن بهذه الصعوبة والاستحالة التي أصبح عليها في زماننا اليوم؛ حتى أغلقوا باب التبديع؛ فلا يوجد مبتدع؛ بل الكل يخطئ، ويصيب.
تجد الرجل مرجئاً في باب الإيمان أو خارجياً في باب الإمامة، ومع ذلك يقول أتباعه: أخطأ غفر الله له.
داود بن علي الظاهري إمام أهل الظاهر - يعني نعطي نبذة عنه - أحد كبار أئمة الدين والعلم؛ اقرأ ترجمته في تاريخ بغداد، أو في سير أعلام النبلاء؛ هذا الرجل بدعه الإمام أحمد.
لماذا؟ لأنه قال: القرآن محدث؛ مع أنه قول يحتمل!
سمع داود؛ فذهب لصالح ابن الإمام أحمد، وأراد أن يعتذر للإمام أحمد؛ أراد أن يعتذر عن هذه الكلمة؛ فقال لصالح: أدخلني على أبيك فإن الناس يخطئون علي، أدخلني لأعتذر؛ فلم يقبل منه أحمد اعتذاراً.
فها نتـرأنت ترى أنه؛ لم يعاند أو يكابر ولم تأخذه العزة بالإثم؛ بل ذهب معتذراً، ومع هذا بدعه الإمام أحمد.
أما إذا كان الخطأ يسيراً لا يؤثر؛ كما حدث مع عفان بن مسلم - أحد الأئمة الكبار - سلمة بن شبيب أحد تلامذة الإمام أحمد وأحد الحفاظ الكبار؛ يحكي للإمام أحمد قصته مع عفان؛ فقال: ذهبت في طلب عفان بن مسلم - من يحكي الآن؟ نعم؛ شبيب بن سلمة، يحكي لمن؟ للإمام أحمد - فقيل لي: إنه ذهب إلى المقابر، فتتبعه، فوجده عند قبر بنت ذي الرياستين؛ فبصق في وجهه وقال: خيبة عليك، فقال عفان: يا هذا الخبز الخبز، يعني: نفهم من هذا الكلام؛ أن عفان بن مسلم وهو من هو علماً وديانة وحفظاً وورعاً، ذهب إلى قبر بنت أحد الولاة؛ ليقرأ عنده القرآن، ما العيب؟ ما الخطأ الذي أخذه سلمة بن شبيب على عفان؟
الخطأ في قراءته القرآن عند قبر وبنت أحد الظلمة؛ فاعتذر له عفان قائلاً: يا هذا الخبز الخبز، فحكى سلمة بن شبيب ذلك للإمام أحمد؛ فقال الإمام أحمد: لا تخبر أحداً؛ فإنه وقف في المحنة موقفاً حميداً، من الناس الذين لم يجيبوا في الفتنة عفان بن مسلم وقطعوا عنه الجراية.
إذن كيف يضبط الطالب المسألة؟
ينظر للخطأ؛ أم ينظر للمخطئ؟
أحياناً ننظر للخطأ، وأحياناً ننظر للمخطئ، أما الخطأ فإذا كان في الأصول فلا ننظر للمخطئ، وأما إذا كان الخطأ في فرعية أو جزئية من الجزئيات نظرنا حينئذ للمخطئ.
"والقرآن كلام الله وعلمه وأسماؤه وصفاته وأمره ونهيه؛ ليس بمخلوق بجهة من الجهات، ومن زعم أنه مخلوق مجعول؛ فهو كافر بالله كفراً ينقل عن الملة, ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر".
نعم؛ هذا تكلمنا عليه بالأمس.
سؤال من أحد الطلبة: جزئية: وعلمه؟
الشيخ: نعم؛ صفة من صفات الله تعالى؛ فالقرآن من علم الله تعالى.
"والواقفة واللفظية جهمية؛ جهمهم أبو عبدالله أحمد بن حنبل".
نعم؛ نذكر مثالاً آخر حتى تروا غربة المنهج السلفي في هذه الأزمنة؛ هذا يعقوب بن شيبة؛ بدعه الإمام أحمد، اقرأوا ترجمة يعقوب بن شيبة في السير مثلاً؛ لأنها على ما أظن متوافرة لديكم. يعقوب ابن شيبة هذا؛ أحد أكابر أهل العلم؛ لكن لما وقف في القرآن بدعه الإمام أحمد. 
"والاتباع للأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان، وترك كلام المتكلمين, وترك مجالستهم وهجرانهم, وترك مجالسة من وضع الكتب بالرأي بلا آثار".
العلم قال الله قال رسوله *** قال الصحابة هم أولوا العرفان
هذا هو العلم، وما عدا ذلك فليس بعلم، والعالم - كما ذكرت - إنما يتبع ويوقر لما معه من علم وسنة على وفق منهج سلف الأمة؛ وإلا فليس كل صاحب علم يكون عالماً، أو يستحق التوقير؛ فالمحك هو الاتباع، ولا شيء غير الاتباع، وإن كان قليل العلم والكتب.
أما صاحب الآراء والأفكار؛ فهذا يطرح ويطرح ما عنده، ولا كرامة له ولا نعمى عين.
وهذا ربيع المدخلي؛ لما كان على الحق آزرناه ودافعنا عنه؛ ورددنا عليه وتركناه لما حاد عن الصواب، وابتدع أموراً فارق بها أهل السنة؛ فأهل الحق ليسوا إماعات؛ بل ميزانهم هو الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة؛ فبه يحكمون على الرجال وليس العكس؛ فلا نسير وراء من كل سار، ونطير وراء كل من طار.
لست تبعاً لربيع ولا لغيره، ولو كنت تبعاً له؛ لما رددت عليه؛ أنا أتبع الكتاب والسنة بمنهج سلف الأمة؛ فمن جاء لي بهذا المنهج، وسار عليه، ولم يحد عنه قيد أنملة؛ فهو فوق رأسي ومن خالفه تركته ولا أبالي، ولو كان أبي.
أما السلفية العصرية؛ السلفية الدستورية؛ السلفية المطاطة؛ التي تجمع ولا تفرق؛ السلفية الفضفاضة التي تسع جميع الآراء والمقاسات؛ التي تسع الجميع؛ فهذه ليست سلفيتنا؛ إنما سلفيتهم هم.
"واختيارنا: أن الإيمان قول وعمل؛ إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالأركان؛ مثل الصلاة والزكاة لمن كان له مال, والحج لمن استطاع إليه سبيلاً, وصوم شهر رمضان, وجميع فرائض الله التي فرض على عباده؛ العمل به من الإيمان، والإيمان يزيد وينقص".
قد سبق الكلام على هذه الفقرة.
"والحوض المكرم به نبينا حق".
من المسائل التي تتعلق بمباحث اليوم الآخر: الحوض.
ونبينا صلى الله عليه وسلم؛ له حوض كبير، زواياه سواء؛ يعني طوله كعرضه، وماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل؛ آنيته عدد نجوم السماء؛ من شرب من شربه لا يظمأ بعدها أبداً.
مداده الكوثر؛ نهر الكوثر في الجنة يمد حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ومما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم؛ أن أناساً سيذادون عن الحوض؛ يعني سيدفعون عن الحوض؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ربي أصيحابي أصيحابي؛ فيقال له: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك؛ يعني: غيروا وبدلوا إذن؛ فالحوض من الأمور الثابتة القطعية اليقينية التي ينبغي على المسلم أن يعتقدها، ويعلم أنها حق، والأحاديث التي جاءت فيه بلغت حد التواتر.
"والشفاعة حق".
النبي صلى الله عليه وسلم؛ هو صاحب المقام المحمود؛ الشفاعة الكبرى؛ يوم يأتي الناس للخلاص من هذا الموقف؛ آدم فيحيلهم إلى نوح، ونوح يحيلهم إلى إبراهيم، وهكذا حتى يأتي بهم المقام إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيقول: أنا لها؛ أنا لها؛ يستشفع للناس عند ربه، هذه هي الشفاعة الكبرى؛ المقام المحمود الذي أعطاه الله لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" كما توجد شفاعات أخرى؛ بخلاف هذه الشفاعة الكبرى؛ كشفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن تفتح لهم أبوابها؛ فالناس لا يدخلون الجنة حتى يستفتح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب؛ جزاء ما نافح عنه في الجاهلية، فيخفف الله سبحانه وتعالى عذابه؛ أيضاً يشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقوام دخلوا الجنة حتى ينتقلوا من درجة إلى درجة أعلى؛ هذه أربع شفاعات؛ الخامسة: أنه يشفع لأقوام من الموحدين استوجبوا دخول النار، ألا يدخلوها؛ فلا يدخلوها؛ السادسة: أنه يشفع لأقوام دخلوا النار، أن يخرجوا منها.
فهذه ست شفاعات للنبي صلى الله عليه وسلم، أما الشفاعات التي تكلمنا عنها، فقد أنكر المعتزلة والخوارج، ومن نحى نحوهم من أهل البدع والأهواء؛ أن يخرج أحد من النار، وقد علمنا فيما مضى أن النار ناران:
الأولى: نار الكفار والمشركين: وهذه لا تفنى ولا تبيد، ولا يخرج أحد منها؛ بل يبقون فيها يتعذبون أبد الآباد.
الثانية: نار الموحدين؛ فيخرجون منها إذا ما انتهى عذابهم، ومن ثم فإنها تفنى ولا تبقى؛ لا يبقى شيء منها.
"والبعث بعد الموت حق".
من عقيدة المسلم أن يعلم أن الناس سيبعثون؛ قال تعالى: "ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون".
هذا هو البعث، وهذا هو النشر، البعث والنشر سواء؛ ينشر الناس ويبعثون من قبورهم، لأن ابن آدم جميع بدنه يفنى إلا جزءاً صغيراً يسمى "عجْب الذنب"، هذا لا يفنى؛ بل يركب الله عليه يوم البعث الأجساد، فيحشرون، ويبعثون.
"وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل".
الذنوب تنقسم إلى قسمين:
الأول: صغائر.
والثاني: كبائر.
كلامنا الآن في أصحاب الكبائر؛ هل هم كفار؟ هل هم مخلدون في النار؟ المسلم السنى يعلم أن أهل الكبائر تحت مشيئة الله؛ إن شاء سبحانه عاقبهم بعدله، وإن شاء تجاوز عنهم بفضله؛ خلافاً للخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة،  والمعتزلة الذين جعلوه في منزلة بين المنزلتين.
أما أهل السنة فلا يسمونه مؤمناً؛ بل يسمونه صاحب كبيرة، وهي المسألة التي تسمى بـ "الفاسق الملي".
"ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم، ونكل سرائرهم إلى الله عز وجل".
لما تكلمنا عن مسمى الإيمان؛ قلنا: إن ذلك بالنظر إلى أحكام الآخرة، أما أحكام الدنيا فليس لنا إلا الظاهر؛ فمن نطق بالشهادتين، واندرج في زمرة المسلمين، وجاء بالعبادات كما يفعلها المسلمون؛ فدخل المساجد وصلى معهم، وصام معهم، وزكى معهم، فهو مسلم في الظاهر، أما باطنه فنكله إلى عالم السرائر.
المنافقون في الدرك الأسفل من النار، ومع هذا عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما يعامل المسلمين، لأنهم أظهروا الإسلام؛ فكانوا ينطقون بالشهادتين، ويصلون معه، ويزكون معه، ويصومون معه، ويجاهدون معه.
فلم نؤمر أن نفتش وننقب عن صدور الناس؛ فمن أظهر الإسلام فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، أما الإيمان الذي ينجي صاحبه يوم القيامة فهو الذي تكلمنا عنه، وأنه ينبغي أن يقوم على ثلاثة أركان: القول والاعتقاد والعمل.
الذنب الذي يصدر من المسلم، هل أي يذنب يصدر من المسلم يكفر بسببه؟
الجواب: هناك من الذنوب ما يكفر بها المسلم، كالشرك؛ من أشرك بالله فقد كفر، من جعل لله نداً فقد كفر.
وهناك من الذنوب؛ لا يكفر بها المسلم.
إذن فقولنا: "لا نكفر المسلم بذنب" غير دقيق؛ فينبغي أن نقول: "ولا نكفر المسلم بكل ذنب"، لأن من الذنوب ما يكفر بها المسلم، فلو أطلقنا لكان الإطلاق لا ينبغي، إنما ينبغي أن نقيد فنقول: "ولا نكفر المسلم بكل ذنب".
ضربنا مثالاً على الذنب الذي يفعله المسلم ويكفر به، فقلنا: كالشرك بالله، ومن جعل لله نداً.
مثال على الشرك بالله؟
الجواب: من دعا غير الله؛ مثلاً؛ أو ذبح لغير الله، وهكذا كل من صرف عبادة لغير الله؛ فهذا كله من الشرك الأكبر.
أيضا من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ كفر؛ أنكر الصلاة؛ الزكاة؛ أنكر حرمة الزنا، أنكر حد الزنا، وهكذا.
"ونقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل زمان ومكان، ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله أمرنا، ولا ننزع يداً من طاعة".
باب الإمامة من أهم الأبواب التي تكلم فيها أئمة أهل السنة؛ حتى إن بعضهم أفرد لها مؤلفاً خاصاً، لعظم هذا المسألة وأهميتها، ولأن أكثر الشرور والمفاسد تدخل للأمة من هذا الباب؛ عدم السمع والطاعة لحكام المسلمين؛ فنقول:
أولاً: لابد للناس من إمامة، برة كانت أو فاجرة، أما البار فمعروف؛ وأما الفاجر؛ فتقام به الحدود وترفع به راية الجهاد، وتؤمن به السبل، ويأمن الناس على أنفسهم  وأعراضهم وأموالهم، وتظهر في البلاد شعائر الإسلام؛ كالصلاة والزكاة والصيام؛ نعم فإنه إذا لم يكن للناس إمام عمت الفوضى. فهذا الحجاج بن يوسف الثقفي كان من أفجر الناس ومن أفسد الناس ومن أفسق الناس، ومع ذلك، كان الصحابة يصلون خلفه، كعبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، والجيل الذي بعدهم، كسعيد بن المسيب سيد التابعين، لأنهم يعرفون أن الناس لابد لهم من إمارة، لذلك قاعدة أهل السنة: "لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع  وطاعة"، فكيف تكون الإمامة، ولا سمع ولا طاعة؟
وبهذا جاءت السنة؛ (اسمع واطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)، و (من اراد ن ينصح لذي سلطان فلا يبدي علانية، وليأخذ بيده؛ فيخلوا به؛ فإن سمع منه فذاك، وإلا فقد أدى الذي عليه).
ولما بزغت طائفة خرجت عل جماعة المسلمين، وعلى إمام المسلمين؛ سموا بالخوارج، وأخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يخرج من ضئضئ هذا - الذي قال للنبي اعدل فإنك لم تعدل - أقوام يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقراءته إلى قرائتهم؛ يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية.
إذن لا تغتر بالعبادة ولا بالزهادة؛ إنما الشأن بالعقيدة؛ ليس الشأن بكثرة الصيلاة والصيام؛ إنما الشأن في صحة المعتقد؛ قد يأتي القبوري ويتعبد عبادة عظيمة وهو غارق في الشرك؛ يأتي المبتدع بعبادة عظيمة وهو غارق في الضلال؛ عمرو بن عبيد رأس الضلالة اغتر به أبو جعفر المنصور؛ حتى قال: لم يملأ عيني أحد من أهل العلم إلا عمرو بن عبيد؛ انظر. فالرسول يبين لنا: لا تغتروا بعبادة الخوارج؛ بلغوا في العبادة مبلغاً لدرجة أن الصحابي؛ يحقر قراءته مع قراءة الخارجي، وصلاته مع صلاة الخارجي، ومع ذلك هم من كلاب أهل النار بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالشأن بارك الله فيكم؛ بالمعتقد الصحيح.
وليس معنى ذلك أن صاحب المعتقد الصحيح لا يأتي بعبادة؛ لا، بل نطالبه بالعبادة ونطالبه بالقربات ولا شك أن ما في قلبه من الإيمان سيجعله يتقرب على الله جل وعلا بكل عبادة؛ هذا من لوازم العبادة.
قال بعض السلف: لم يسبق أبو بكر القوم بكثرة صلاة ولا صيام، ولكنه سبقهم بشيء وقر في قلبه. لذا لو وضع إيمان الأمة في كفة وإيمان أبي بكر في كفة لرجح إيمان أبي بكر. فالشأن في الاعتقاد، الاعتقاد؛ فالاعتقاد يدعوا للعمل؛ فلا نغتر، ونقول: فلان زاهد فلان عابد وهو صاحب بدعة، فإنما راجت البدع على الناس ودخلت في بلاد السلمين، بسبب هذا الأمر.
دخل رجل من الخوارج على زياد بن أبيه؛ يسمى عمرو بن أدية من الخوارج - أحكي لكم هذه القصة حتى تعرفوا مبلغ عبادته وهو خارجي - فسأله عن عثمان رضي الله عنه؟ فقال عمرو: كنت أواليه ست سنين في أول خلافته؛ ثم تركته. قال زياد: فعلي؟ قال عمرو: كنت أواليه حتى رضي بالتحكيم فتركه. إذن هذا الخارجي كفر في مجلس زياد؛ عثمان وعلياً رضي الله عنهما.
سؤال: هذا الرجل لماذا لم يكذب؛ حتى ينجو  من القتل؟
الجواب: لأن الكذب كبيرة، وصاحب الكبيرة؛ كافر.
فسأله عن معاوية؛ فسبه سباً قبيحاً. وهذا من أصول الخوارج تكفير عثمان وعلي ومعاوية وأصحاب الجمل وأصحاب صفين. وسأله عن أبي بكر وعمر؛ فقال فيهم قولاً حسناً، لأن الخوارج يتولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وناقشه في عدة مسائل.
المقصود أنه أمر بضرب عنقه؛ فقطعت عنقه، وجاء زياد بخادمه؛ فقال له: اصدقني القول في سيرة هذا الرجل؛ عروة بن أدية الخارجي؛ الذي كفر عثمان وعلي وأصحاب الجمل وأصحاب صفين رضي الله عنهم. فقال: أيها الأمير أأطنب أم أختصر؟ قال: اختصر. فانظر ماذا قال خادم عمرو؟! قال:
أما في النهار؛ فما قدمت له طعاماً قط، وأما في الليل فما فرشت له فراشاً قط.
فكل من خرج على الإمام الحق؛ فهو خارجي.
من صار إماماً باختيار أهل الحل والعقد، أو بنص الخليفة - ولاية العهد - أو بالسيف؛ فهو إمام ممكن له السمع والطاعة؛ من خرج عليه؛ فهو خارجي.
وبعض الناس ينازع في ولاية من تغلب بالسيف؛ وهذا السفاح خرج على مروان الحمار آخر خليفة من خلفاء بني أمية بالسيف، وقتله؛ بل قيل: إن السفاح قتل ثمانين نفساً من بني أمية في يوم واحد، وجاء بالبسط والفرش؛ وفرشها على جثثهم، ودعا بالطعام والشراب، وأخذ ياكل وهو جالس على جثثهم!
فهل قال أحد من أهل العلم: إن بني العباس لا سمع لهم ولا طاعة؟ رغم أنهم جاءوا بالسيف؟
وأيضاً: العثمانون خرجوا على الخليفة العباسي بالسيف، ولم يقل أحد من أهل العلم: إن بني عثمان لا سمع لهم ولا طاعة؟
إذن فكل من تغلب بالسيف وتمكن وصارت له صوله وجولة؛ فهو حاكم ممكن؛ ينبغي على كل مسلم أن يسمع له ويطيع.
والناس لا يستفيدون ولا يتعلمون من التاريخ، وقد قيل: ستون سنة من إمام جائر؛ خير من ليلة بلا إمام.
فينيغي لكل مسلم أن يدين بالسمع والطاعة لكل من ولاه الله تبارك وتعالى أمره، وحكم شرعه، ولا يخرج عليه ولا يشغب عليه.
والخروج كما يكون يالسنان؛ يكون باللسان؛ نعم مبدؤه التهييج، وإلا فكيف قتل عثمان؟ هل قتلوه ابتداء بالسيف؟ أم هيجوا عليه الناس؟ ولما تمكنوا قتلوه رضي الله عنه.
"ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة".
السلف رحمهم الله؛ لم يتركونوا هكذا، بل قعدوا لنا قاعدة؛ ما أجملها وأعظمها وأروعها، وهي: لو كان خيراً لسبقونا إليه. هذه هي القاعدة.
فإياكم ومحدثات الأمور؛ فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فيحرم على المسلم أن يفارق أهل السنة والجماعة؛ برأي شاذ، أو كلمة بدعية، أو حزب من الأحزاب؛ يفرق جماعة المسلمين، قال تعال: "ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون"
طالب العلم يسأل الآن: كيف أفعل؟ والناس تفرقوا شذر مذر؟ حزب فلان وحزب فلان، وعلى هذا الحزب.
نقول: عليك بالجماعة، أين هي الجماعة؟ نقول: الجماعة ما كان على الحق ولو كنت وحدك. سئل عبدالله بن المبارك: ما الجماعة ؟ فقال: أبو حمزة السكري، ومحمد بن أسلم الطوسي. فالجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك، فلا تبتئس ولا تستغرب؛ لذا قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: احذر طريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين؛ طريق الباطل فيه همج كثير، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، وعليك بطريق الحق ولا تستوحش من قلة السالكين.
فانظر فكل من نادى بما نادى به أهل السنة والجماعة؛ فاتبعه، ولو كان فرداً، وكل من جاءك بما يخالف أهل السنة والجماعة؛ فأدبر عنه وأعرض عنه ولو كان إماما كبيراً يشار إليه بالبنان.
قال رجل لعلي رضي الله عنه في مسألة بيع أمهات الأولاد، وعلي هو من هو علماً وفضلاً وورعاً وتقى وزهداً؛ قال: لرأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك. لأنه رضي الله عنه قال: اجتمع رأيي أنا وعمر على عدم بيع أمهات الأولاد، أما الآن فقد بدى لي بيعهن. فقال له الرجل: لرأيك في الجماعة أحب إلينا من انفرادك بالرأي.
فلا تغتر - بارك الله فيك - بكثرة العمائم، وكثرة البهرجات والسمعة والصيت وكثرة المؤلفات وكثرة الأتباع؛ لا. لذا لما كان أحد السلف يماشي عمرو بن عبيد؛ اغتراراً بفصاحته وزهده، وكان يحدثه بالغرائب؛ فقال أيوب السخيتاني له: لماذا تماشي عمراً؟ فقال: يا أبا بكر لأنه يحدثنا بالغرائب، قال أيوب: منها نفر؛ أو منها نفرق. يعني نخاف.
إذن الضابط في الحكم على الشخص؛ هو شهرته؟ كثرة أتباعه؟ كثرة مؤلفاته؟ لا، إنما اتباعه للكتاب والسنة، وسيرة على جادة السلفية، قال سليمان بن حرب أبو أيوب رحمه الله: من زال عن السنة قيد شعرة؛ فلا تعتدن به. هذا هو الضابط.
أما الآن فللأسف الشديد؛ كثر الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، كلما خرج لهم المتفاصح المتفيهق البليغ؛ اتبعوه وقالوا: الشيخ العلامة البيليغ، وشيخهم مرجئ؛ لكنهم لا يعرفون الإرجاء، ولا يعرفون معتقد أهل السنة ، لأنهم ما عرفوا معتقد أهل السنة، ولا عرفوا الإرجاء.
"وأن الجهاد ماض منذ بعث الله عز وجل؛ نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إلى قيام الساعة مع أولي الأمر من أئمة المسلمين؛ لا لا يبطله شيء، والحج كذلك، ودفع الصدقات من السوائم لأولي الأمر من ائمة المسلمين".
الإمام براً كان أو فاجراً تحج معه، وتدفع له زكاة مالك الظاهرة – المال الظاهر – لذلك نص على السائمة؛ سائمة الأنعام، أما المال الباطن؛ فإن شئت دفعته للإمام، وإن شئت دفعته للفقراء والمساكين، لأن المصدق الذي يرسله الإمام؛ إنما يرسله لأخذ المال الظاهر. هذا أمر.
وتجاهد مع الإمام، وتزكي مع الإمام، وتحج مع الإمام، وتصلي مع الإمام؛ حتى ولو كان فاجراً؛ فإن الإمام البار؛ لم يوجد من عصور كثيرة؛ من لدن انقراض عصر الخلفاء الراشدين؛ لم تعرف الأمة الإسلامية حاكماً باراً؛ إلا رجلاً واحداً؛ هو: عمر بن عبدالعزيز، يعني بعد عصر الخلفاء الراشدين وعهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه؛ لم يعرف المسلمون حاكماً بارا إلا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، والبقية تعرف منهم وتنكر، ومع ذلك كانوا يسمعون لهم، ويطيعون لهم، ولم ينزعوا يداً من طاعة، وحجوا معهم وجاهدوا معهم.
علما بأن الجهاد جهادان: جهاد دفع، وجهاد طلب، والكلام هنا عن جهاد الطلب؛ جهاد الكفار في عقر دورهم وفي عقر بيوتهم؛ كي يدينوا بالدين الحق، ويقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لكن هذا الجهاد أحياناً يتعطل؛ ما الذي يعطله؟ ضعف المسلمين؛ فالجهاد يكون عند قوة المسلمين؛ أما في حال ضعفهم فيتعطل هذا الجهاد؛ لأنهم ليس لديهم قوة تمكنهم من غزو المشركين في عقر دارهم؛ الآن عند المسلمين قوة كي يغزون دول الكفر؟ إن الأسلحة التي مع المسلمين بجانب التي مع الكفار والمشركين؛ بمثابة سكاكين المطبخ بالنسبة لأسلحة الكفار.
أيضا لو تمكن المسلمون من الأسلحة وكانت معهم أسلحة حديثة تضاهي التي مع المشركين، كيف يجاهدونهم ويغزونهم ويقاتلونهم، ويطلبون منهم الرجوع إلى الدين الحق، وهم شذر مذر كما ذكرنا؟
فمن المسلمين الآن من يعتقد الاعتقاد الكفري، كالصوفية القبورية الذين يقولون بوحدة الوجود والاتحاد والحلول، ومنهم من ينفي علو الله على خلقه، ومنهم من يزين البدع، ومنهم من يزين الشرك، ومنهم من يقتل عقيدة الولاء والبراء مع المشركين والكفار؛ فكيف نجاهد المشركين؟
لذلك قلنا مراراً وتكراراً: إن التصحيح يكون بسلوك دعوة الأنبياء والرسل؛ تصحيح العقيدة أولاً؛ العقيدة أولاً يا عباد الله؛ التوحيد أولاً يا عباد الله. إذا تمكن التوحيد من قلوبنا، وعرفه القاصي والداني؛ قامت دولة الإسلام الحق مرة أخرى.
"والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم، ولا ندري ما هم عند الله عز وجل".
هذه تكلمنا الفقرة تكلمنا عنها؛ الناس مؤمنون في أنكحتهم ومواريثهم؛ فليس لنا إلا الظاهر؛ إذا جاءنا طالباً للزواج زوجناه، وإذا مات صلينا عليه ودفناه في مدافن المسلمين وورثناه، لأنه في الظاهر مسلم لم يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام. هذا بالنسة لأحكام الدنيا؛ لكن الإيمان الذي ينفع صاحبه وينجيه يوم القيامة، هو الإيمان الذي توافرت فيه الأركان الثلاثة:  قول وعمل واعتقاد.
"ومن قال: أنا مؤمن حقاً فهو مبتدع، ومن قال: أنا مؤمن عند الله فهو من الكاذبين، ومن قال: هو مؤمن في الله حقاً فهو مصيب".
ما معنى مؤمن؟ معنى مؤمن أي أنك أتيت بجميع الطاعات، وانتهيت عن جميع المحرمات والمكروهات؛ فهل أنت فعلت ذلك؟
هذه تزكية، فلا شك أن من قال: إنه مؤمن؛ فقد زكى نفسه، وجاء ببدعة؛ بل إذا سئلت؛ تقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ طيب لو سألك سائل، وقال لك: هل أنت مسلم؛ تقول: أنا مسلم إن شاء الله؟! لا إنما تقول: أنا مسلم بالجزم. أما الإيمان فلا تزكي نفسك؛ قال تعالى: "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى".
"والمرجئة المبتدعة ضلال".
الإرجاء يأتي بمعنيين:
الأول التأخير؛ كما قال تعالى: "قالوا أرجه وأخاه".
والثاني: يأتي بمعنى إعطاء الرجاء، وعلى كلا المعنيين يصدق إطلاقهما على المرجئة؛ فمن جهة المعنى الأول؛ فهم أخروا العمل عن الإيمان، ومن جهة المعنى الثاني – إعطاء الرجاء – فقد أعطوا الرجاء للمسلمين، وقالوا لا يضر مع الإيمان ذنب.
من هم المرجئة؟ هم الذين يؤخرون العمل عن الإيمان، لذلك كثير من طلبة العلم في مصر؛ يقول ويدرس للطلاب – والطلاب أغبياء لا يفهمون – إن تارك اعمال الجوارح مسلم ناج من الخلود في النار، وهو لم يأت إلا بقول المرجئة، لأن العمل ركن من أركان الإيمان لا يصح الإيمان إلا به . والعمل عملان: عمل القلب وعمل الجوارح، فأين عمل الجوارح؟!
ومع ذلك  ترى الشباب الغر الساذج يقول: الشيخ فلان من أئمة الدعوة كذا، وهو مرجئ، أيها الغر الساذج أيها الأبله الذي تسير خلف كل ناعق، الرجل مرجئ؛ هل تستطيع إدخاله في السنة؟ تستطيع؟
لا؛ فبارك الله فيكم، الحذر الحذر من هؤلاء، وعلى الطالب أن يتعلم دينه ويتعلم عقيدته من العلماء الراسخين.
"والقدرية المبتدعة ضلال".
القدرية ضلال أم كفار؟ على حسب، إن أنكروا العلم؛ كانوا كفاراً، وإن أثبتوا العلم؛ كانوا مبتدعة، قال الشافعي رحمه الله: "خاصموا القدرية فإن أقروا بالعلم خصموا ، وإن أنكروه كفروا".
إن أقر القدرية بالعلم؛ المرتبة الاولى من مراتب القدر خصموا، إذن يلزمكم الإقرار ببقية المراتب الأربعة: الكتابة، المشيئة، الخلق.
وإن أنكرواه كفروا؛ لذلك ثنى ابن أبي حاتم في عقيدة الرازيين؛ بقوله: القدرية مبتدعة. ومن أنكر منهم العلم كفر. نعم.
"فمن أنكر منهم أن الله يعلم ما لم يكن كيف يكون، فهو كافر".
فالله تعالى يعلم ما كان وما سوف يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون؛ علم الله أزلى. لكن القدرية يقولون: إن الله لا يعلم بالشيء إلا بعد وقوعه؛ فالأمر أنف؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. "وأن الجهمية كفار".
الجهمية الذين يدور أمرهم على أنه ليس في السماء شيء، الجهمية الذين يقولون: الإيمان المعرفة؛ الجهمية الذين ينفون أسماء الله وصفاته؛ فيثبتون ذاتاً مجردة من الأسماء والصفات؛ هؤلاء الجهمية أتباع الجهم بن صفوان؛ أجمع السلف الصالح رحمهم الله على كفرهم.
"وأن الرافضة، رفضوا الإسلام".
من الرافضة؟ الرافضة عند الدعاة؛ هم الشيعة، والرافضة يسمونكم أنتم؛ نواصب، ويتقربون إلى الله بدمائكم؛ لماذا يسمونكم ناصبة؟ لأنهم يعتقدون أنكم ناصبتم علياً رضي الله عنه وآل بيته العداء، والرافضة رفضوا الإسلام؛ لذلك سموا رافضة.
فتسميتهم بالشيعة؛ عير صحيحة؛ كتسمية النصارى بالمسيحيين؛ فهذا من تغيير المسميات؛ الله في كتابه سماهم نصارى، والنبي صلى الله عليه وسلم؛ سماهم نصارى؛ فالجهال يسمون الروافض؛ شيعة؛ كما يقولون عن النصارى: مسيحيين.
الرافضة يقولون: إن القرآن الذي عند النواصب؛ محرف، والصحابة كفروا جميعهم إلا نفراً يسيراً، وعقائد أخرى كفرية. لذلك لما ناقش ابن حزم النصارى في الأندلس، وأقام عليهم الحجة أن الإنجيل محرف؛ ماذا فعلوا؟ قالوا: وقرآنكم كذلك محرف؛ فاستغرب ابن حزم ذلك،وسألهم من أين جئتم بهذا؟ فجاءوا بقول الرافضة، وظنوا أنهم انتصروا على ابن حزم؛ فقال لهم ابن حزم: إن هؤلاء ليسوا مسلمين أصلاً!
إذن فالرافضة ليسوا من أهل القبلة، لأنهم كفار؛ كالجهمية. فجميع فرق أهل البدع تدخل في مسمى أهل السنة إلا الجهمية والرافضة والقدرية الأوائل، بخلاف القدرية المتأخرة؛ الذين يثبتون العلم.
ولكن إذا قيل أهل السنة والجماعة؛ فليس المراد إلا اتباع السلف الصالح.
"والخوارج مراق".
ذكرنا في الدرس السابق نبذة عن الخوارج، وها هنا وصفهم بأنهم مراق؛ أي مرقوا من الدين مروق السهم من الرمية، وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) يعني مرقوا من الدين؛ لذا سماهم ابن أبي حاتم نقلاً عن أبي زرعة وأبي حاتم (مراق) فيسمون الخوارج ويسمون المراق ويسمون الحرورية نسبة إلى المكان الذي انحازوا فيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ حروراء.
"ومن زعم أن القرآن مخلوق؛ فهو كافر بالله العظيم؛ كفراً ينقل عن الملة، ومن شك في كفره ممن يفهم؛ فهو كافر".
تكلمنا عن مسألة خلق القرآن، وقلنا: إن من قال: إن القرآن مخلوق؛ فهو كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة، وهذا ما عليه إجماع أهل السنة والجماعة؛ لكن الناقل هاهنا يقول: "ومن شك في كفره"؛ يعني نحن نقول الآن - وهذه قاعدة مهمة جداً -: الذي يقول: إن القرآن مخلوق؛ فهو كافر، طيب من لم يكفره؛ فهل هو كافر؟
لا؛ ما الفارق؟ ألم نقل من قبل: إن من لم يكفر الكافر؛ فهو كافر؟
الإجابة: نعم؛ لكن هذا في الكافر الأصلي؛ لذا التقييد في الجملة؛ ينبغي أن يكون: من لم يكفر من كفره الله ورسوله؛ فهو كافر.
أما المسلم الذي وقع في الكفر، وحكمنا عليه بالكفر؛ فينظر في حال من لم يكفره؛ إن كان يفهم، ويعقل الأدلة ولم يكفره بعد إقامة الحجة وبيان المحجة؛ فهو كافر مثله؛ أما إذا كان جاهلاً - أي هذا الذي لم يكفر من وقع في الكفر - فلا نكفره إلا بعد البيان؛ لذا قال الناقل: "ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر"، "ممن يفهم"؛ هذا هو القيد؛ لم يقل من شك في كفره؛ فهو كافر؛ لأن هذا الشاك قد يكون من أهل العلم، وفد يكون من العوام، وقد لا يفهم سبب التكفير؛ فإذا ما بسطنا أمامه أدلة تكفيره؛ حينها ينبغي عليه أن يذعن؛ لأن هذا حكم الله، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
"ومن شك في كلام الله عز وجل؛ فوقف شاكاً فيه؛ يقول: لا أدري مخلوق، أو غير مخلوق؛ فهو جهمي".
تذكرون عندما تكلمنا عن خلق القرآن؛ قلنا: الفرقة الأولى: الذين قالوا: إن القرآن مخلوق، الفرقة الثانية: اللفظية الذين قالوا: لفظي بالقرآن مخلوق.
الفريق الأول: كفرهم السلف؛ الفريق الثاني: جهمهم السلف؛ قالوا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي؛ لكن الأول: من قال: إن القرآن مخلوق؛ فهو كفر. الفرقة الثالثة: من قال: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ فهذا مبتدع.
إذن؛ فرقة كافرة، وفرقة جهمية، وفرقة بدعية.
الكافرة: التي قالت: إن القرآن مخلوق.
الجهمية: التي قالت: إن لفظي بالقرآن مخلوق.
البدعية: التي قالت: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق.
ويضاف إلى هذه الثلاث؛ فرقتان:
الأولى: الشكاكة: الذين يقولون: إن القرآن كلام الله، ولا ندري مخلوق أو غير مخلوق، وقد جهم السلف الصالح رضوان الله عليهم أيضاً من يقول بذلك.
الفرقة الثانية: الواقفة. من هم الواقفة؟
قالوا: وجدنا الناس قد اختلفوا؛ فلم نجد بداً من الرجوع لما كان عليه الناس قبل الاختلاف؛ ماذا كان يقول الناس قبل الاختلاف؟
كانوا يقولون: القرآن كلام الله، ولا يزيدون.
الكلام في الظاهر حق أم باطل؟ حق.
أناس يقولون: القرآن مخلوق، وأناس يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق، وأناس يقولون: القران كلام الله ولا ندرى أمخلوق هو أو غير مخلوق، فتركنا الاختلاف جملة، وقلنا بقول الأولين: القرآن كلام الله، ونقف.
فهل يسعهم ذلك، مع كون الصدر الأول كانوا يقولون ذلك قبل المحنة؟
لا لا يسعهم ذلك.
لماذا؟
لأن الفتنة وقعت وخاض الناس فيها بالباطل؛ لذا كان ينبغي على أهل السنة والجماعة، ونحن عرفنا من منهج أهل السنة والجماعة؛ أنهم كلما ظهرت بدعة صدوها وردوا عليها بكلمة معينة، أو لفظة معينة تضاف على كلام سابق؛ ليدحضوا بها هذه البدعة؛ ففي العلو: كانوا يقولون: "نعرف ربنا بأنه فوق سماواته مستو على عرشه" ويسكتون.
فلما بزغت الجهمية، وقالوا: إن الله في كل مكان؛ لم يكتف السلف الصالح بالمقولة السابقة؛ بل أضافوا إليها جملتين: "بائن عن خلقه"، "بحد" رداً على الجهمية، الذين يقولون: إن الله في كل مكان، والله ممتزج بالخلق.
وهكذا فعلوا في فتنة خلق القرآن؛ كان يسع الناس قبل وقوع الفتنة؛ أن يقولوا: إن القرآن كلام الله ويسكتون؛ لكن لما خاض الناس في الفتنة؛ فلا يسعهم السكوت؛ كيف وقد تكلم الناس؟
فينبغي أن يبين، ويقول: القرآن كلام الله غير مخلوق؛ فمن لم يقل بهذه اللفظة وسكت؛ هذا من الواقفة، وهو أيضاً من الجهمية؛ بل هو شر من الجهمية؛ لأن الجهمي مذهبه معروف؛ أما هذا؛ فقد يلبس على الناس؛ لذا لا يسع الإنسان أن يقول: كلام الله ويسكت، ولكن يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق.
مثال معاصر: الإيمان عندكم؟ قول وعمل واعتقاد؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ هذا هو تعريف الإيمان.
الآن الجميع يقول: نحن نقول كما قال السلف؛ نحن نقول: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد.
لكننا وجدنا فرقة تقول بهذا القول، وهو قول السلف، وتأتي عند أعمال الجوارح، وتقول، ومن لم يأتي بأعمال الجوارح؛ فهو مسلم ناج من الخلود في النار؛ انظر!
لذلك لما رد أهل العلم على المرجئة الجدد؛ الفرقة الخامسة من المرجئة التي ظهرت بين أظهرنا؛ في مصر وفي الأردن وفي غيرها من البلاد؛ يقولون: من ترك أعمال الجوارح مع بقائه زمناً ولا مانع يمنعه من العمل؛ فهو مسلم  ناج من الخلود في النار.
نقول له أنت مرجئ؛ فيقول: كذبتم؛ ألم يقل عبدالله بن المبارك لما قال له رجل؛ تكون مرجئاً على كبر؛ قال: المرجئة لا تقبلني؛ أنا أقول: الإيمان قول وعمل،  وأليس قد قال السلف: من قال: إن الإيمان قول وعمل فقد برئ من الإيمان أوله وآخره؛ فهذا نص سلفي؛ أن من قال: إن الإيمان قول وعمل فقد برئ من الإرجاء أوله وآخره، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل؛ فعلام ترموننا بالإرجاء؟
فما ردك يا طالب العلم؟ بل ويستدل بظواهر من الكتاب والسنة بما يؤيد بدعته؛ من أن من ترك أعمال الجوارح مع بقائه زمناً ولا مانع؛ فهو ناج من الخلود في النار.
فإن قلت له: أنت مرجئ، أو حتى تلطفت معه، وقلت: وافقت المرجئة؛ قال لك: حذار؛ فمن قال: إن الإيمان قول وعمل؛ فقد برئ من الإرجاء أوله وآخره.
قلنا: نعم؛ إن مراد السلف من هذا؛ أن من قال هذا الكلام، ووافقهم في المعنى؛ أما أن يوافقهم في اللفظ، ويخالفهم في المعنى؛ فما الفائدة؟
شبابة بن سوار أحد المرجئة، كان يقول بقول السلف: الإيمان قول وعمل؛ ومع هذا فقد كان يقول: أليس إذا قال فقد عمل! انظر؛ قال: أليس إذا قال فقد عمل؟
جعل القول هو العمل؛ لذا قال الإمام أحمد: ما سمعت قولا أخبث منه.
لذا نقول بارك الله فيكم؛ ليس الشأن في أن توافق السلف في اللفظ؛ بل الشأن أن توافقهم في المعنى.
لذا مصيبة كثير من السلفيين في عصرنا التطبيق؛ تجد طالب العلم والعالم يقعد ما شاء الله له أن يقعد؛ قواعد سلفية ممتازة جداً؛ لكن عند التطبيق ساقط.
عرفنا الفرق بين التقعيد، والتطبيق؟
أحد العلماء ألف رسائل غاية في الروعة، والتقعيد العلمي، ومن جملة ما ذكر؛ أن الكلام في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ زندقة مكشوفة؛ كلام رائع، ومع هذا لما جئناه بقول رجل من المعاصرين؛ سب بعض الصحابة؛ كعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص، وبني أمية؛ أخذ يعتذر له ويتمحل!
أين التقعيد الذي قعدته؟ لا يوجد؛ لأنه أخذته شهرة الرجل؛ هيبة الرجل؛ جاه الرجل.
فالفرق بين المتقدمين والمتأخرين؛ أن السلف كانوا ينظرون للخطأ؛ أما المتأخرون فينظرون للمخطئ.
مثال: داود بن علي الظاهري؛ أحد كبار أهل العلم؛ لما أخطأ خطأ واحداً، وقال: القرآن محدث. ماذا حدث؟ هل نظروا لجاهه؟ نظروا لعبادته؟ نظروا لمكانته؟ نظروا لزهده؟ نظروا لعلمه؟
لا؛ قال أحمد: هو مبتدع، وبدعه، وتابع أهل العلم أحمد على ذلك؛ فبدعوه. هذا مثال.
أبو ثور الإمام العلم الكبير؛ أنتم تعلمون بارك الله فيكم؛ أن في الجزية؛ عندما حدث عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: خذوا الجزية من المجوس؛ سنوا بهم سنة أهل الكتاب.
إذن فالجزية تؤخذ من ثلاث طوائف اليهود والنصارى والمجوس؛ طيب ذبائح المجوس؟ يأكلها المسلم؟
لا؛ لا يأكلها المسلم؛ بل يباح من ذبائح الكفار، ذبائح اليهود والنصارى فقط؛ أما ذبائح المجوس فلا.
سؤال: هذه المسألة عقدية؛ أم فقهية؟
الجواب: مسالة فقهية؛ أبو ثور لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاس المجوس على أهل الكتاب في الجزية؛ فقاس ذبائحهم على ذبائح اليهود والنصارى؛ فمن ثم قال: يجوز أكل ذبائح المجوس.
فعرض أحمد به، وشدد النكير عليه، وقال: أبو ثور كاسمه، وإن شئت فاقلب، وأنكر عليه أحمد، وشدد عليه، فهل تلطف معه أحمد؟
هل قال: شيخنا، وحبيبنا؟
مع أنه لما سئل عنه؛ قال: هو عندي في مسلاخ سفيان الثوري، وقال: أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة. انظر إلى المدح، ولما أخطأ أنكر عليه.
لم يقل: فلان له جهود في الرد على الرافضة، وله جهود في الرد على العلمانية، وله جهود في نشر التوحيد في مصر، وله جهود في قمع الشرك.
وفي التحذير من البدع؛ فلنغفر له هذه، ومن كان بلا خطيئة فليرمها بحجر.
هذه الأمور التي نسمع عنها اليوم؛ ممن لم يفقه ولم يعلم حق العلم؛ منهج السلف، وإلا فأين كانت هذه الرأفة والرحمة عند أحمد، وهو من هو علماً وورعاً وإمامة.
وهل هناك أحد أحق بالرأفة والتلطف من مثل أبي ثور.
انظر لخطأ آخر؛ أخطأ فيه أبو ثور؛ خطأ عقدي؛ حديث الصورة؛ من عقيدة المسلم أن حديث الصورة: خلق الله آدم على صورته؛ أن الضمير يعود على من؟
عقيدتك يا مسلم؟ الضمير يعود على من؟
نعم؛ على الله عز وجل، ومن أعاد الضمير على المضروب، أو أعاد الضمير على آدم؛ فهو جهمي وعلى هذا إجماع السلف؛ أجمع السلف على أن من أعاد الضمير على غير الله عز وجل؛ فهو جهمي.
أبو ثور أعاد الضمير على غير الله عز وجل.
سئل أحمد عن أبي ثور لما تكلم على حديث الصورة بغير كلام السلف؛ فقال: متى هؤلاء كانوا يطلبون العلم؟
جهَّل أبا ثور لخطئه في حديث الصورة، وجهَّمه، وقال: هو جهمي، وشدد عليه النكير.
وقال عبدالوهاب الوراق لرجل: أقول فيه كما قال أحمد: يجفى أبو ثور، ويجفى رأيه.
في خطأ واحد فقط، وفي مسالة واحدة، وهي حديث الصورة.
على أن أبا ثور رجع وآب واعتذر ورجع إلى الحق والحمد لله، وتاب بين يدي أحمد بن حنبل.
فأين هذا المنهج اليوم؟
لذلك قلنا بارك الله فيكم: هناك فرق بين التقعيد وبين التطبيق؛ تجد الرجل مرجئ غارق في الإرجاء، بل ويتعالم؛ يقول في أحد كتبه، وهو عند بعض القوم من أئمة مصر؛ بل من أعلم الناس في العقيدة؛ بل هو حارس العقيدة؛ يقول في أحد كتبه: والقول بأن تارك أعمال الجوارح كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة؛ قول لا دليل عليه، ولم يقل به أحد من السلف أو الخلف.
انظر إلى الجهل العريض، والتعالم البغيض، ومع ذلك فهو عند أتباعه وأربابه إمام كبير؛ كيف يكون إماماً، وهو مرجئ؟
انظروا بارك الله فيكم؛ الأمر يحتاج إلى تجرد وإنصاف؛ إلى عدل؛ لو كان أبي لرددت عليه.
قال علي بن المديني: أبي ضعيف؛ قال الخطيب: ولم يرو على بن المديني عن أبيه شيئاً، وقال أبو داود السجستاني: عبدالله ابني كذاب. عبدالله صاحب الحائية؛ إمام كبير، وليس كذاباً؛ لذا اعتذر له بعض أهل العلم؛ قال: لعله كان يكذب في شرخ شبابه، أو المراد: لعله كان يكذب في كلام الناس؛ أما في الحديث فلا؛ ومع ذلك قال أبو داود: عبدالله ابني كذاب.
وابن أبي أنيسة يقول: أخي كذاب؛ فاين نحن من هؤلاء؟ الآن نرقع للشيخ؛ نرقع للشيخ الترقيع السلفي! بحجة اللين والتلطف.
"ومن وقف في القرآن جاهلاً علم وبدع، ولا يكفر".
ومن وقف في القرآن جاهلاً؛ علم ولا يمنع هذا من تبديعه؛ فيبدع؛ لكن لا يكفر؛ لأن السلف إنما كفروا من يقول: القرآن مخلوق.
"قال أبو محمد: وسمعت أبي يقول: علامة أهل البدع؛ الوقيعة في أهل الأثر".
أبو محمد؛ من هو؟ هو عبدالرحمن بن أبي حاتم، إمام كبير؛ فهو وأبوه إمامان.
من هم أهل الأثر؟
الذين يتبعون الآثار، ولا يحيدون عنها قيد أنملة؛ الذين قال فيهم سفيان الثوري: إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل.
انظر إلى شدة الاتباع؛ هؤلاء هم أهل الأثر السائرون على كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ومنهج سلفهم الصالح.
أهل البدع على عكس ذلك؛ يتبعون أهواءهم، وآراءهم، وشيوخهم؛ بلا دليل؛ لأن اتباع الشيخ بالدليل لا بأس فيه؛ لأنك حينئذ لا يكون اتباعك للشيخ؛ بل اتباعك للدليل الذي جاء به.
وهذا ما نحذر منه وما نذمه؛ إياك واتباع الشيخ لمجرد كونه شيخك؛ بل اتبعه للدليل الذي معه؛ فإذا أتى الشيخ بالدليل؛ فعلى العين والرأس، وإذا ما خالف الشيخ الدليل؛ تركناه، وكلمناه وقلنا له: يا شيخ هذا خلاف ما تعلمناه منك، أو خلاف ما جاء عن السلف، أو خلاف ما قرأناه في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سيرة سلفنا الصالح؛ فإن رجع فبها ونعمت، وإن عاند وكابر، وقال: لا بل هو قولي، وحكمي؛ فحينئذ يترك ويهجر، وقلنا له: سلام عليك لا نبتغي الجاهلين.
أهل البدع عادة ليس عندهم علم حقيقي حتى يناقشوا أهل الأثر؛ بل هم يتفاصحون ويتعالمون، ويقصون على الناس؛ أما العلم فهذا يندر جداً، قد تجد فيهم علماء من حيث العلم؛ أما من حيث السير على الجادة؛ فليس على الجادة؛ فعلمه أصبح وبالاً عليه؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل في القرآن"؛ فكم من عالم من حيث الناحية العلمية؛ متين في العلم؛ علامة؛ لكن علامة على أصول أهل البدع والأهواء؛ على أصول المعتزلة؛ على أصول الأشاعرة؛ على أصول الخوارج.
فهؤلاء عند ما تحدث مناقشة علمية بينهم وبين أهل الأثر؛ أهل الأثر يحتجون بـ: قال الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما هؤلاء فعندما يحتجون؛ يحتجون بالنظر والواقع؛ الواقع يفرض علينا كذا؛ الواقع يملي علينا كذا.
فإذا ما غُلبوا؛ نبزوا أهل الأثر بأنهم حشوية! ما معنى حشوية؟
أي حشو الناس؛ يعني سقط الناس؛ فضلة الناس؛ أو أنهم حشوية؛ لأنهم يتبعون الآثار، كما ينبز أهل البدع في مصر السلفيين، ويقولون عنهم: وهابية؛ فإذا رأيت رجلاً ينبز سلفياً بلفظ ما؛ فاعلم أنه مبتدع.
"وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل الأثر حشوية؛ يريدون ابطال الآثار، وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة بالمشبهة".
لماذا سمى الجهمية؛ أهل الأثر بأنهم مشبهة؟
لأنهم يثبتون الأسماء والصفات؛ فيقولون عنهم: قد شبهوا الله بخلقه؛ هؤلاء ضلال. والجهمية ينفون الأسماء والصفات.
ما الفارق بين الجهمية والمعتزلة ؟
المعتزلة فرع من الجهمية، الجهمية ينفون الأسماء والصفات, والمعتزلة ينفون الصفات، ويثبتون الأسماء بلا معاني؛ فلا يثبتون الأسماء بمعانيها؛ فيقولون: هو سميع بلا سمع؛ بصير بلا بصر؛ قدير بلا قدرة، وهكذا؛ لم يثبتوا شيئاً في الحقيقة.
فمن ها هنا قال الجهمية عن أهل الأثر والسلف أصحاب الحديث: مشبهة.
"وعلامة أهل القدر تسميتهم لأهل الأثر مجبرة".
لأن القدرية ينفون قدرة الله، ويثبتون قدرة العبد؛ أما أهل السنة فيثبتون قدرة الله، ويثبتون للعبد قدرة؛ لكن قدرة العبد متعلقة بقدرة الله؛ فسموهم مجبرة.
"وعلامة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفة، ونقصانية".
مخالفة: لأن أهل السنة يخالفونهم، ونقصانية: لأن أهل السنة يقولون: الإيمان يزيد وينقص، والمرجئة يقولون: الإيمان كل لا يتجزأ؛ لا يقبل الزيادة، ولا يقبل النقص، والإيمان عند أهل السنة يزيد وينقص، والأدلة متوافرة على ذلك؛ قال تعالى: "ويزيد الله الذين اهتدوا هدى"، "ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم". وقال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً ... الحديث"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... الحديث". والأدلة على ذلك كثيرة جداً.
"وعلامة الرافضة تسميتهم لأهل السنة بالناصبة".
سبق أن الروافض يسموننا ناصبة أي نناصب علياً رضي الله عنه، وآل بيته العداء، وكما ذكرت لكم؛ هم يتقربون إلى الله بدم الناصبي؛ لذلك هم أخطر على الأمة من اليهود والنصارى.
"ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد، ويستحيل أن تجمعهم هذه الأسماء".
أهل السنة ليس لهم إلا اسم واحد، وهو أهل السنة أو أهل السنة والجماعة، أو أصحاب الحديث، أو السلف نسبة لسلفهم الصالح؛ لأنهم اتبعوا الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
سؤال: لما قيدنا بـ (فهم سلف الأمة)؟
لأنه قد يأتي أحدهم؛ فيقول: أنا متبع للكتاب والسنة، ويأتي آخر؛ فيقول: أنا متبع للكتاب والسنة، وفلان متبع للكتاب والسنة، وزيد متبع للكتاب والسنة.
الكتاب والسنة بفهم شيخك؛ بفهم رئيس طائفتك؛ بفهم المرشد؛ بفهم رئيس الحزب؛ بفهم قيم الجماعة.
وفهم شيخك، وفهم رئيس الحزب، وفهم رئيس الجماعة؛ هذه كلها فهوم؛ لا ندري الصواب فيها من الخطأ.
أما الفهم المعصوم فهو فهم السلف الصالح؛ فهم القرون الثلاثة الأولى؛ القرون المفضلة؛ كما في الحديث: خير الناس قرني؛ ثم الذين يلونهم ..." الحديث.
فلما كان فهم شيخك لا يستقيم، وفهم شيخي لا يستقيم؛ رجعنا إلي فهم السلف الصالح؛ الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
"قال أبو محمد: وسمعت أبي وأبا زرعة يأمران بهجران أهل الزيغ والبدع يغلظان في ذلك أشد التغليظ, وينكران وضع الكتب برأي في غير آثار, وينهيان عن مجالسة أهل الكلام والنظر في كتب المتكلمين, ويقولان: لا يفلح صاحب كلام أبداً".
من أصول اهل السنة والجماعة؛ هجر أهل البدع والأهواء؛ هذا إجماع؛ أجمع أهل السنة والجماعة على هجر أهل البدع والأهواء، وأجمع أهل السنة والجماعة أن العاصي أحسن حالاً من المبتدع.
لأن العاصي يعرف أنه عاصي؛ أما المبتدع فيتدين لله بهذه البدعة؛ يراها دين؛ لذا قال السلف: إن الله حجب التوبة عن صاحب البدعة.
يأتيك إنسان، ويقول لك: أنا أدري أن هذا الإنسان عنده ملاحظات؛ لا نقول: بدع، ولكنه قال كلاماً جميلاً في تفسير سورة كذا، وقال كلاماً جميلاً في كتاب كذا.
فنقول: هذا الكلام الجميل حق أم باطل؟
لا شك أنه حق!
فنسأله: هذا الحق قد استأثر به وحده، أم ذكر هذا الحق غيره من أهل السنة المحضة؟
لم يستأثر بهذا الحق وحده؛ بل هذا الحق ذكره أهل السنة المحضة؛ إذن فخذ هذا الحق من أهل السنة المحضة، ولا تأخذه من أهل البدع والأهواء.
وقد بلغ السلف الأكارم في هذا الباب مبلغاً عجيباً؛ أعني: هجر أهل البدع والأهواء؛ بأن حكموا على كل من يجالس المبتدعة؛ بأنه مبتدع.
قال أحد أكابر أئمة السلف: "الذي يجالس المبتدع أشد علينا من المبتدع". ودخل سفيان الثوري البصرة؛ فسأل عن أهل العلم فيها، فذكروا له الربيع بن صبيح، وذكروا من شأنه ومن شأنه، وأنه على السنة؛ فقال: من يجالس؟ قالوا: القدرية؛ قال: هو قدري.
 وسئل أحمد عن موسى بن عقبة الصوري، وذكروا من شأنه ومن شأنه؛ فقال: عند من نزل؟ قالوا: عند القدرية؛ قال: هو قدري.
وهذا معروف؛ فإن الأرواح جنود مجندة؛ وإلا فما الذي جعلك تجلس مع أهل البدع؛ إلا إذا كنت ترتاح لأقاويلهم وآرائهم؟ أليس كذلك؟
فالمرء بخدنه، والمرء على دين خليله؛ فصاحب الهوى يجلس مع صاحب الهوى، وصاحب السنة يجلس مع صاحب السنة.
اليوم هذا الأصل؛ حصل فيه شيء من التمييع، لذلك نحن نحث شبابنا وطلاب العلم أن يعظموا ويوقروا هذا الأصل، ويعيدوا له معناه وفحواه؛ فلا تكون لهم هوادة مع أهل البدع أبداً؛ بل يجفونهم ويهجرونهم؛ قال الصابوني فيما معناه: واتفقوا على هجرهم، وقهرهم وإذلالهم، والنكاية بهم.
فالأمر ليس مجرد هجر؛ بل وإذلال.
انظر لشدة السلف على أهل البدع.
رأى طاووس معبد الجهني يطوف، معبد الجهني الآن ماذا يفعل؟ يدرس البدعة؟ يدعو للبدعة؟ لا بل يتعبد؛ يطوف؛ فماذا قال طاووس؟
قال: هذا معبد فأهينوه.
ورأى عبدالله بن المبارك رجلاً يدخل عليه في مجلسه، فقال له: ألست ذاك الجهمي، فقال الرجل: نعم ولكني تبت، فقال له الإمام: ارجع ولا تعد حتى تظهر من السنة ما أظهرت لنا من البدعة.
ودخل رجل مبتدع على أحمد فنهره أحمد نهراً شديداً، وقال له: إياك أن تدخل على مرة أخرى؛ ما أحوجك أن يفعل بك؛ كما فعل عمر بصبيغ.
ودخل رجل من أكابر أئمة السلف، وهو سفيان الثوري على رجل من أهل البدع يصلي في المسجد، فقال الإمام: أعوذ بالله من خشوع النفاق.
وقال سفيان بن عيينة عن بشر المريسي: ماذا يقول هذا الدويبة؟
وهكذا نرى إغلاظ السلف الصالح على أهل البدع والأهواء، وتعظيم هذا الأصل.
يقول أبو حاتم: مذهبنا، ومذهب كل مسلم: هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من بعده، وهذه حقيقة الاتباع، أن يتبع المسلم ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام. ومن سبر أحوال الصحابة؛ عرف أنهم لا يقولون قولاً إلا وعليه دليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهم شهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل؛ لذلك نقول: العلم؛ قال الله؛ قال الرسول؛ قال الصحابة رضوان الله عليهم.
فالصحابة ليس لهم شرع مستقل؛ إنما هم ناقلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذا كانت حقيقة الاتباع: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضي الله عنهم من بعده، ومن سار على نهجهم من التابعين وأتباع التابعين إلى يومنا هذا.
البربهاري رحمه الله؛ يقول في شرح السنة: وعليك بالأثر وأصحاب الأثر؛ فإنما الدين بالتقليد. فما معنى التقليد هنا؟ وما مراد البربهاري من قوله هذا ؟
التقليد الذي ذكره البربهاري؛ هو الذي ذكره أبو حاتم فيما نقله عنه عبدالرحمن ابنه، وهو: الاتباع.
فقول البربهاري: فقلدهم واسترح. يعني قلد الصحابة والتابعين، وأتباع التابعين من أئمة الدين واسترح؛ فإن ما كانوا عليه هو الحق المبين؛ لأنهم لم يخترعوا عبادات، أو يفترعوا أقوالاً؛ بل ما قالوه، وفعلوه، وبثوه، ونشروه؛ هو ما دل عليه كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فعلى سبيل المثال؛ نحن نتكلم عن هجر أهل البدع والأهواء، ونذكر أن ذلك من أصول الدين؛ فنقول: قال الإمام أحمد؛ قال الثوري؛ قال الشافعي؛ قال الفضيل بن عياض؛ قال مالك، وهكذا؛ فما بالنا لا نقول في هذا الباب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
الجواب: أن كلام السلف ينقسم إلى قسمين:
الأول؛ عبارة عن تفسير للأدلة الواردة في الكتاب والسنة؛ كما في قوله تعالى: }وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا{ وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{
فسر السلف هاتين الآيتين بأفعالهم قبل أقوالهم؛ فهجروا أهل البدع والنفاق، وقهروهم، وأذلوهم، وشددوا عليهم، وأنكروا على من يجالسهم؛ بل كانوا ينسبون الرجل إلى البدعة بمجالسته للمبتدعة، وهو يعلم.
إذن أصل الولاء والبراء موجود في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والتفسير العملي لذلك جاءنا عن أئمة السلف الصالح، وسيرتهم.
والقسم الثاني: ألا يكون هناك نص صريح وواضح في المسألة؛ فيأتون بشيء اتفقوا عليه وارتضوه نكاية لطائفة من طوائف أهل البدع والضلال وحماية لجناب التوحيد، ونصرة للسنة ودفاعاً عنها؛ كما في المسالة المعروفة عن عبدالله بن المبارك رحمه الله؛ لما قال: نعرف ربنا بأنه فوق سماواته – هذا دل عليه الكتاب والسنة - مستو على عرشه - وهذا أيضاً. بائن عن خلقه؛ بحد. فهاتان اللفظتان وإن كانتا لم تؤثرا عمن مضى من سلف هذه الأمة؛ إلا أن الكتاب والسنة دل عليهما؛ لذلك أطبق عليها أئمة السلف؛ عبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وغيرهم؛ لأن فيهما نكاية للجهمية؛ فإن الله تعالى في العلو؛ في جهة العلو؛ غير ممتزج بخلقه؛ فهو بائن عن خلقه في جهة العلو؛ مستو على عرشه، وعلمه في كل مكان.
فآثار السلف التي نقرؤها في كتب العقائد كما في الإبانة، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة، وكما في عقيدة الصابوني، وفي شرح السنة للبربهاري، وغير ذلك من الكتب؛ عبارة عن تفسير لما في الكتاب والسنة، أو تطبيق عملي لما دل عليه الكتاب والسنة.
مثال آخر: كلمة الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة؛ هل قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقلها أحد من أصحابه رضوان الله عليهم، ولم يقلها أحد ممن سبق مالكاً رحمه الله؛ لكن لما قال الإمام مالك هذه الكلمة؛ ارتضاها أئمة السلف، وقبلوها منه واستحسنوها، واستقرت عندهم حتى صارت منهجاً عاماً في جميع الصفات، والكتاب والسنة يدلان على ما قال مالك رحمه الله.
أيضاً: الجملة المشهورة المتواترة المبثوثة في كتب العقيدة؛ عقيدة أهل السنة والجماعة؛ من أنهم يمرون صفات الله سبحانه وتعالى بلا تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل؛ هل هذه الكلمة المشهورة المعروفة جاءت في كتاب الله؛ أو جاءت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أو حتى  تكلم بها أحد من الصحابة؟ لا؛ لا يوجد شيء من ذلك.
لكن تكلم بها السلف وصارت قاعدة مضطردة معروفة، وقد دل عليها الكتاب والسنة أيضاً؛ فنؤمن بالصفات من غير تحريف؛ يعني: لا نحرف الصفة، ولا تعطيل؛ أي: لا نعطل الصفة؛ ما الفرق بين التحريف والتعطيل؟
التحريف في الدليل، والتعطيل في المدلول.
مثال: اليد: (بل يداه مبسوطتان) المحرف؛ يقول: اليد هنا: القدرة. والمعطل؛ يقول: لا ندري؛ هل له يد أم لا؛ فهذا عطل المدلول؛ أما الأول فحرف الدليل.
والتكييف؛ أن تكيف صفات الله سبحانه وتعالى. والتمثيل والتشبيه أن تشبه صفات الله سبحانه وتعالى بصفات خلقه.
لذلك في هذه الكلمة: (الإيمان بصفات الله سبحانه وتعالى بلا تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل) رد على كل طائفة من طوائف أهل البدع والضلال.
لهذا نقول: الكتاب والسنة بمنهج سلف الأمة، والمقصود من ذلك: مجموعهم لا آحادهم. لهذا يستحيل أن تجد قولاً أو فعلاً نسب إلى بعضهم، ولا دليل عليه من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا عليه.
يدلك على هذا - مثلاً - قول محمد بن يحيى الذهلي لما مات الإمام أحمد رحمه الله؛ قال: ينبغي لأهل بغداد أن يقيموا النياحة على موت أحمد.
فهل نقول: من منهج السلف إقامة النياحة على موت الأئمة؛ لقول محمد بن يحيى هذا.
أبو طلحة الانصاري رضي الله عنه؛ كان يأكل البرد في نهار رمضان، ويقول: ما هو بالطعام ولا الشراب. فهل نقول: من منهج السلف أكل البرد في نهار رمضان.
وورد أيضاً عن بعض السلف أنه قرئ القرآن في عرسه؛ فهل يأتي قائل، ويقول: من منهج السلف قراءة القرآن في الأعراس، وهلم جرا من هذه الأمثلة، وهي كثيرة.
فنقول: لا؛ ليس الشأن في قول - أو فعل - إمام؛ انفرد به؛ إنما العبرة بمجموعهم. فلو كان محمد ابن يحيى الذهلي رحمه الله قال هذا الكلام ووافقه عليه الأئمة؛ لكنا قلنا به؛ بل خطأ أئمة السلف محمد بن يحيى الذهلي، واعتذروا له وقالوا: أن هذا الكلام إنما خرج مخرج الحزن على وفاة الإمام أحمد؛ إذن: فكلامنا عن منهج السلف؛ المقصود به ما تواطأ عليه السلف، واتفق عليه الأئمة؛ فيكون هذا؛ هو منهج السلف.
إذن ينبغي على الباحث إذا استدل؛ سواء كان موافقاً أو مخالفاً؛ أن يستدل بعموم فعل السلف؛ لا بفعل واحد، أو طائفة منهم.

















يتم التشغيل بواسطة Blogger.

كافة الحقوق محفوظة 2012 © site.com مدونة إسم المدونة