بين الفوزان وبابا الفاتيكان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه ؛؛؛
أما بعد:
فقد سبق وبينت خطأ الفوزان الفاحش في فتواه الخاصة بعدم الجزم بكفر بابا
النصارى الهالك لعنه الله، والشهادة له بالنار.
وهذا الكلام الباطل الذي نطق به، والذي من شأنه تشكيك الناس في دينهم
ومعتقدهم؛ يقتضي إغلاظ القول له، والحط الشديد عليه؛ لكنني لم أفعل ذلك - وليتني
فعلت - تأليفاً لمن يعظمونه، ويرونه بقية السلف؛ مع أن بينه وبين السلفية مفاوز.
وإلا فما رأي أتباعه الذين ينافحون عنه بالباطل؛ لو قلنا عن شيخهم بعد
موته: ]ما ندري أنه
مات على الإسلام؛ ما نجزم؛ ما نجزم أنه مات على الإسلام؛ الله أعلم[؟! ومن ثم؛ نصدر فتوى بعدم جواز الترحم
عليه؟!
هذا أبو ثور - وشيخكم لا يساوي شيئاً بالنسبة إليه - يخطئ في مسألة هي أقل
من هذه بكثير؛ فيقول أحمد: أبو ثور كاسمه، وإن شئت فاقلب.
فكيف بمن لا يجزم بكفر الكافر؟!
والعجيب أن السائل لم يسأله عن كفر البابا؛ بل سأله عن مصيره، ومع هذا
تناكد، وقال هذا الكلام.
والحق أنه لم يتناكد؛ بل تكلم بهذا الكلام بناء على أصوله؛ فإنه لو جزم له
بالكفر لجزم له بالنار؛ لذا قدم بهذه المقدمة حتى يتسنى له القول بعدم الشهادة له
بالنار.
وهو ما تغاضيت عنه لظهور خطله وبطلانه؛ لذا اكتفيت بالكلام في مسألة الحكم
على الكافر بالنار.
فهل أرم القوم؟
لا والله؛ بل ذهبوا ذات اليمين وذات الشمال؛ في محاولة بائسة للترقيع له.
فرأينا من يقول: نعم؛ لا نستطيع الجزم بأنه مات على الكفر!!
ومنهم من تجاوز هذه المسألة؛ ستراً على بقيته، وتكلم في مسألة الشهادة على
من مات كافراً؛ بالنار. ولم يجد شيئاً يستدل به إلا فتاوى أناس لم يعرف السلفية
إلا من خلالهم؛ أما آية أو حديث أو أثر عن تابعي أو إمام من الأئمة؛ فلا.
والعجيب أنه قرأ كلام المخالفين ورأى أدلتهم، ومنها قوله صلى الله عليه
وسلم: "حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار"، وقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أهل
النار"، وقبل ذلك: قوله تعالى: }إِنَّهُ مَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
وَمَأْوَاهُ النَّارُ{، وغير ذلك من الآيات والأحاديث.
لكن هؤلاء تعلموا أن الآيات والأحاديث وآثار السلف لا تفهم إلا بفهم
المعاصرين؛ حتى كتب أحدهم - كما أُخبرت - ناصحاً من يريد دراسة العقيدة؛ أن يبدأ
أولاً بكتب ابن باز وابن عثيمين والفوزان والراجحي وغيرهم من المعاصرين؛ ثم يثني
بكتب محمد بن عبدالوهاب؛ ثم بكتب ابن تيمية وابن القيم؛ ثم بكتب السلف؛ كالإبانة،
وشرح أصول الاعتقاد، والسنة لعبدالله، وغيرها؛ بل ويحذر الدارسين من البدء بكتب
السلف قبل المرور على كتب المعاصرين.
هذا الجهل والضلال والخبال؛ أنشأ أجيالاً فاسدة؛ تقدم أقوال الرجال على الدليل؛
بل تطوعه ليوافق كلام من يقدسونهم وينسجون الهالات حولهم ويرونهم فوق النقد.
فترك أعمال الجوارح مسألة خلافية لقول الألباني وربيع فيها، وإعذار المشرك
كذلك.
وهكذا صارت أقوال العلماء؛ أدلة مستقلة بذاتها؛ لا تقبل التأويل حتى،
وأصبحت ثوابت الدين محل نقاش.
بل لقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك؛ فسمعنا من يقول: لو تغلب (شنودة) لصار ولي
أمر. و(بشار) لا يجوز الخروج عليه لأنه ولي أمر شرعي، و(بريمر) ولي أمر شرعي.
وأخيراً: لا نجزم بالكفر لكلب النصارى.
ولا أدري ماذا سيحدث غداً في ظل هذا التضليل الرهيب الذي نعيش فيه.
قال يونس بن عبيد: "يوشك لعينك أن تر ما لم تر،
ويوشك لأذنك أن تسمع ما لم يسمع، ولا تخرج من طبقة إلا دخلت فيما هو دونها؛ حتى
يكون آخر ذلك؛ الجواز على الصراط".
قلت: فلا عجب
أن نرى كثيراً من المصريين لا يكفرون اليهود والنصارى؛ بل ولا يكفرون من ترك دين
الإسلام؛ أليس في القرآن {فَمَن شَآءَ
فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}.
سبب هذا
الضلال:
إهمال كلام السلف، والاكتفاء بكلام المعاصرين.
والمعاصر مهما بلغ؛ لا يقبل كلامه إلا إذا كان موافقاً لكلام السلف؛ فكيف
إذا كان مخالفاً لهم جملة وتفصيلاً؟!
الدليل على ذلك:
ذكر اللالكائي في كتابه (شرح اعتقاد أصول أهل السنة)؛ اعتقاد جماعة من
الأئمة؛ منهم:
الثوري: قال لشعيب بن حرب: "لا تشهد على أحد من أهل القبلة
بجنة، ولا نار".
وعلي بن المديني: قال: "ولا يُشهد على أحد من أهل القبلة بعمل
عمله بجنة، ولا نار".
وأحمد بن حنبل: قال: "ولا نشهد على أهل القبلة بعمل يعمله بجنة،؛
ولا نار نرجو للصالح ونخاف عليه، ونخاف على المسيء المذنب ونرجو له رحمة الله".
وحذا حذوهم محمد بن عبدالوهاب؛ فقال في أصول الدين، وفي رسالته إلى أهل
القصيم: "ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة، ولا نار؛ إلا من شهد له
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء".
فكلامهم بين واضح لا لبس فيه ولا إيهام في أنهم يريدون بالشهادة؛ (أهل
القبلة)؛ (المسلمين).
حتى الطحاوي الذي يحتجون بكلامه؛ لم يطلق بل قيد كلامه بـ أهل القبلة؛ حيث
قال: (ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً).
أي: من أهل القبلة؛ قال شارح الطحاوية: "يريد: أنا لا نقول عن أحد
معين من أهل القبلة؛ إنه من أهل الجنة أو من أهل النار، إلا من أخبر الصادق
صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة كالعشرة رضي الله عنهم".
فماذا فعل المعاصرون، وكيف فهموا الكلام السابق؟
قال ابن باز:
"أهل السنة والجماعة؛ يقولون: لا نشهد لمعين بجنة ولا نار، ولا بالمغفرة، إلا
من شهد له الله أو رسوله عليه الصلاة والسلام".
فأين ذِكرُ (أهل القبلة) في كلامه؟ لا يوجد.
وقال ابن
عثيمين: "من عقيدة أهل السنة والجماعة؛ قالوا: لا نشهد لأحد بالجنة أو بالنار؛
إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم".
فأين ذِكرُ (أهل القبلة) في كلامه؟ لا يوجد.
وقال الفوزان في شرحه لرسالة ابن عبدالوهاب لأهل
القصيم: "هذا معتقد أهل السنة والجماعة؛ أنهم لا يشهدون لأحد معين بجنة، ولو
كان من الصالحين، ولا يشهدون لأحد بالنار، ولو كان من الكافرين".
وقال في شرحه لكتاب التوحيد المسمى بـ (إعانة المستفيد): "ولهذا من
عقيدة أهل السنة والجماعة: أنهم لا يشهدون لأحد بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول
الله صلى الله عليه وسلم".
فأين ذِكرُ (أهل القبلة) في كلامه؟ لا يوجد؛ مع أنه يشرح كلام ابن
عبدالوهاب، وقد مر عليك قوله: (من المسلمين).
ثم أتى بما لم يأت به أحد؛ فقال: "ولو كان من الكافرين". فلم
يسعه الإطلاق - على ما فيه - حتى افترع هذا القول العجيب.
وقال الراجحي في شرحه لأصول السنة لأحمد: "هذه
عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لا يشهدون للمعين بجنة ولا نار؛ لكن يرجون للمحسن،
ويخافون على المسيء".
فأين ذِكرُ
(أهل القبلة) في كلامه؟ لا يوجد؛ مع كونه يشرح كلام أحمد القائل: (من أهل
القبلة).
فلا تحرزوا من
الإطلاق الذميم، ولا تقيدوا بكلام أئمة الدين.
بل أطلقوا،
وجازفوا وقالوا: (هذه عقيدة أهل السنة). وأهل السنة من هذه العقيدة برآء.
فعليك
بالتفصيل والتبيان؛ فالإطلاق والإجمال دون بيان؛ قد أفسدا الوجود، وأفسدا الأذهان
والآراء كل زمان.
وهذا ما حدث؛
فقد انتشر الجهل والضلال بسبب هذا الكلام الذي لا ذمام له ولا خطام، وترسخ في
أذهان الشباب أن من عقيدة أهل السنة عدم الجزم لمعين بالنار. ولم يعلموا أن من قال
ذلك من السلف؛ قد بين بالنص؛ أنه يريد بذلك (أهل القبلة).
أما المسألة
محل النزاع:
فقد دل الكتاب
والسنة والإجماع؛ على أن من دان بغير الإسلام؛ فهو في النار خالداً مخلداً فيها
أبداً.
قال تعالى: }وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ
فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{.
وقال صلى الله
عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده؛ لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا
نصراني؛ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار". أخرجه
مسلم في صحيحه.
وسبق ذكر إجماع الصحابة على ذلك في المقالة السابقة.
وقال ابن جرير: "القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي
قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا
كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}. يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمد صلى الله عليه
وسلم والذين آمنوا به }أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا{ يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو كان المشركون
الذين يستغفرون لهم }أُولِي
قُرْبَى{ ذوي قرابة لهم يقول: }مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ{ من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الأوثان،
وتبين لهم أنهم من أهل النار؛ لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك؛ فلا ينبغي لهم أن
يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله؛ فإن قالوا: فإن إبراهيم قد استغفر
لأبيه، وهو مشرك؟ فلم يكن استغفار إبراهيم لأبيه إلا لموعدة وعدها إياه؛ فلما تبين
له وعلم أنه لله عدو، خلاه وتركه، وترك الاستغفار له، وآثر الله وأمره عليه؛ فتبرأ
منه حين تبين له أمره"اهـ (تفسير الطبري 14/509)
وقال ابن حزم - وأقره ابن تيمية -: "اتفقوا أن دين الإسلام هو الدين
الذي لا دين لله في الأرض سواه، وأنه ناسخ لجميع الاديان قبله، وأنه لا ينسخه دين
بعده أبداً وأن من خالفه ممن بلغه؛ كافر مخلد في النار أبداً"اهـ (مراتب
الإجماع ص 167-168)
وقال ابن القيم: "وقوله «حيثما مررت بقبر كافر فقل أرسلني إليك محمد»؛
دليل على أن من مات مشركاً فهو في النار، وإن مات قبل البعثة"اهـ (زاد المعاد
3/599)
وقال: "الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم
وحميرهم الذين هم معهم تبعاً لهم يقولون: }إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ{، ولنا أُسوة بهم. ومع هذا فهم
متاركون لأهل الإسلام؛ غير محاربين لهم؛ كنساءِ المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين
لم ينصبوا أنفسهم لنا نصب له أُولئك أنفسهم من السعي في إطفاءِ نور الله وهدم دينه
وإخماد كلماته؛ بل هم بمنزلة الدواب. وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار، وإن
كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم؛ إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم
لهؤلاءِ بالنار، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من
أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل
الكلام المحدث في الإسلام"اهـ (طريق الهجرتين ص 411)
وليس هذا من التألي على الله كما يزعم البعض؛ لأننا لم
نشهد له بالنار حال حياته؛ إنما شهدنا بعد موته امتثالاً لقول الله تعالى، وقول
رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما أننا لم
نشهد إلا بما علمنا من كفره، ولسنا مطالبين بالكشف عن سريرته؛ فإن الله لم يتعبدنا
بهذا؛ إنما تعبدنا بالحكم على الظواهر، والبواطن نكلها إليه سبحانه وتعالى،
والنادر لا حكم له.