منهج السلف الصالح في التعامل مع أخطاء العلماء - 10 -
محمد بن نصر المروزي
محمد بن نصر بن الحجاج المروزي؛ أبو عبدالله؛ الحافظ؛ الإمام؛ شيخ الإسلام.
روى عن: إبراهيم بن المنذر، وأبي مصعب الزهري، ويونس بن عبدالأعلى، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، وهشام بن خالد، ومحمد بن عبدالله بن عبدالحكم، ويحيى بن إسحاق، وشيبان بن فروخ، ويعقوب بن حميد، وعبدالجبار بن العلاء، وهشام بن عمار، وأبي كريب، ومحمد بن مهران، ومحمد بن مقاتل، ومحمد بن عبدالله بن نمير، والمسيب بن واضح، وأحمد بن سعيد، والربيع بن سليمان، وعبدالواحد بن غياث، وأبي الربيع الزهراني، وصدقة بن الفضل، ومخلد بن مالك الرازي، ومحمد بن مروان، وعبدان بن عثمان، ويحيى بن يحيى النيسابوري، ومحمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب، ومحمد بن بشار بندار، ومحمد بن عبيد بن ربيع بن حساب، وعبدالأعلى بن حماد، وعباس بن الوليد، وقطن بن نسير، وعبيدالله بن معاذ، وهدبة بن خالد، وفضيل بن حسين، وهناد بن السري، وابن النمير، وسعيد بن عمرو، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن بحر، ويزيد بن صالح الفراء، وعمرو بن زرارة، ومحمد بن حميد، ومحمد بن مقاتل، وموسى بن نصر، وغيرهم كثير.
روى عنه: ابنه إسماعيل، وأبو حامد بن الشرقي، ومحمد بن يوسف الفربري، وأبو العباس الدغولي، وأبو العباس السراج، ومحمد بن المنذر الهروي، وأبو عبدالرحمن المحمودي، وعبدالله بن شيرويه، ومحمد بن يعقوب الأخرم، ومحمد بن عبدالوهاب الثقفي، ومحمد بن يوسف الطوسي، وأحمد بن محمد بن إبراهيم السمرقندي، وجنيد بن خلف، ومحمد بن النصر بن سلمة الجارودي، وأبو علي عبدالله بن محمد بن علي البلخي، ومحمد بن إسحاق الرشادي، وعثمان بن جعفر اللبان، وغيرهم كثير.
ولد سنة اثنتين ومئتين، ومات سنة أربع وتسعين ومئتين.
من أقوال أهل العلم فيه:
- قال إسحاق بن راهويه: "لو صلح في زماننا أحد للقضاء؛ لصلح أبو عبدالله المروزي".
- وقال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم: "كان محمد بن نصر المروزي عندنا إماماً؛ فكيف بخراسان".
- وقال إسماعيل بن قتيبة: "سمعت محمد بن يحيى غير مرة؛ إذا سئل عن مسألة؛ يقول: سلوا أبا عبدالله المروزي".
- وقال محمد بن يعقوب الأخرم: "ما رأيت أحسن صلاة من أبي عبدالله محمد بن نصر، وكان يقرأ، وكان الذباب يقع على أذنه؛ فيسيل الدم فلا يذبه عن نفسه، ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه وهيئته في الصلاة؛ كان يضع ذقنه على صدره، وينتصب كأنه خشبة منصوبة".
- وقال: "انصرف محمد بن نصر من الرحلة الثانية سنة ستين ومائتين؛ فاستوطن نيسابور، ولم تزل تجارته بنيسابور؛ أقام مع شريك له مضارب، وهو يشتغل بالعلم والعبادة؛ ثم خرج سنة خمس وسبعين إلى سمرقند؛ فأقام بها، وشريكه بنيسابور، وكان وقت مقامه هو المفتي والمقدم بعد وفاة محمد بن يحيى؛ فإن حيكان - يعني يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي - ومن بعده؛ أقروا له بالفضل، والتقدم".
- وقال محمد بن عبدالوهاب الثقفي: "كان إسماعيل بن أحمد والي خراسان يصل محمد بن نصر المروزي في كل سنة بأربعة آلاف درهم، ويصله أخوه إسحاق بن أحمد بأربعة آلاف درهم، ويصله أهل سمرقند بأربعة آلاف درهم، وكان ينفقها من السنة إلى السنة؛ من غير أن يكون له عيال؛ فقلت له: لعل هؤلاء القوم الذين يصلونك يبدو لهم؛ فلو جمعت من هذا شيئاً لنائبة؛ فقال: سبحان الله؛ أنا بقيت بمصر كذا وكذا سنة؛ فكان قوتي وثيابي وكاغدي وحبري وجميع ما أنفقه على نفسي في السنة؛ عشرين درهماً؛ فترى إن ذهب هذا؛ لا يبقى ذاك".
- وقال: "جالست أبا عبدالله المروزي أربع سنين؛ فلم أسمعه في طول تلك المدة يتكلم في غير العلم؛ إلا أني حضرته يوماً، وقيل له عن ابنه إسماعيل، وما كان يتعاطاه: لو وعظته أو زبرته؟ فرفع رأسه؛ ثم قال: أنا لا أفسد مروءتي بصلاحه".
- وقال أبو بكر الصبغي: "أدركت إمامين من أئمة المسلمين؛ لم أرزق السماع منهما؛ أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، وأبو عبدالله محمد بن نصر المروزي، فأما أبو عبدالله فما رأيت أحسن صلاة منه، وبلغني أن زنبوراً قعد على جبهته؛ فسال الدم على وجهه، ولم يتحرك".
- وقيل له: ألا تنظر إلى تمكن أبي علي الثقفي في عقله؟ فقال: "ذاك عقل الصحابة والتابعين من أهل المدينة. قيل: وكيف ذاك؟ قال: إن مالك بن أنس كان من أعقل أهل زمانه، وكان يقال: إنه صار إليه عقول من جالسهم من التابعين؛ فجالسه يحيى بن يحيى النيسابوري؛ فأخذ من عقله وسمته؛ حتى لم يكن بخراسان مثله؛ فكان يقال: هذا عقل مالك وسمته؛ ثم جالس يحيى؛ محمد بن نصر سنين؛ حتى أخذ من سمته وعقله؛ فلم يُر بعد يحيى من فقهاء خراسان؛ أعقل منه؛ ثم إن أبا علي الثقفي جالس محمد بن نصر أربع سنين؛ فلم يكن بعده أعقل منه".
- وقال القاضي محمد بن محمد: "كان الصدر الأول من مشايخنا يقولون: رجال خراسان أربعة: ابن المبارك، وإسحاق، ويحيى، ومحمد بن نصر".
- وقال محمد بن محمد بن إسحاق الدبوسي: "سمعت أبي يقول: دخلت سمرقند، ورأيت بها محمد بن نصر المروزي، وكان بحراً في الحديث".
- وقال أبو بكر الصيرفي: "لو لم يصنف المروزي كتاباً؛ إلا كتاب القسامة؛ لكان من أفقه الناس؛ فكيف وقد صنف كتباً أخرى سواه".
- وقال عثمان بن جعفر اللبان: "حدثني محمد بن نصر؛ قال: خرجت من مصر، ومعي جارية لي؛ فركبت البحر أريد مكة؛ قال: فغرقت فذهب مني ألفا جزء؛ قال: وصرت إلى جزيرة أنا وجاريتي؛ قال: فما رأينا فيها أحداً؛ قال: وأخذني العطش؛ فلم أقدر على الماء؛ قال: وأجهدت فوضعت رأسي على فخذ جاريتي مستسلماً للموت؛ قال: فإذا رجل قد جاءني ومعه كوز؛ فقال لي: هاه؛ قال: فأخذت فشربت، وسقيت الجارية؛ قال: ثم مضى؛ فما أدري من أين جاء، ولا من أين ذهب".
- وقال أبو الفضل بن إسحاق بن محمود: "كان أبو عبدالله المروزي يتمنى على كبر سنه أن يولد له ابن؛ فكنا عنده يوماً من الأيام؛ فتقدم إليه رجل من أصحابه فساره في أذنه بشيء؛ فرفع أبو عبدالله يديه؛ فقال: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل)؛ ثم مسح وجهه بباطن كفيه، ورجع إلى ما كان فيه؛ فرأينا أنه استعمل في تلك الكلمة الواحدة ثلاث سنن: إحداها: أنه سمى الولد، والثانية: أنه حمد الله تعالى على الموهبة، والثالثة: أنه سماه إسماعيل لأنه ولد على كبر سنه".
- وقال الحاكم: "إمام الحديث في عصره بلا مدافعة".
- وقال ابن حزم: "أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن، وأضبطهم لها، وأذكرهم لمعانيها ولأحوال الصحابة. ولا نعلم هذه الصفة أتم منها في محمد بن نصر المروزي؛ فلو قال قائل: ليس لرسول صلى الله عليه وسلم حديث، ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر؛ لما بعد عن الصدق".
- وقال الخطيب: "صاحب التصانيف الكثيرة، والكتب الجمة؛ ولد ببغداد، ونشأ بنيسابور، ورحل إلى سائر الأمصار في طلب العلم، واستوطن سمرقند، وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم في الأحكام".
- وقال ابن الجوزي: "كان أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم في الأحكام، ورحل إلى الأمصار في طلب العلم".
- وقال ابن عساكر: "أحد الأئمة المشهورين، والمصنفين المذكورين".
- وقال النووي: "هو الإمام البارع؛ العلامة في فنون العلم".
- وقال ابن كثير: "كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة الإسلام، وكان عالماً بالأحكام، وقد رحل إلى الآفاق، وسمع من المشايخ الكثير النافع، وصنف الكتب المفيدة الحافلة النافعة، وكان من أحسن الناس صلاة، وأكثرهم خشوعاً فيها".
- وقال: "ذكروا أنه أحسن أهل زمانه؛ رحمه الله".
- وقال الذهبي: "الإمام أبو عبدالله؛ أحد الأعلام في العلوم والأعمال؛ كان رأساً في الفقه؛ رأساً في الحديث؛ رأساً في العبادة".
- وقال ابن السبكي: "الإمام الجليل أبو عبدالله؛ أحد أعلام الأمة، وعقلائها، وعبادها".
- وقال اليافعي: "أحد الأعلام؛ كان رأساً في الفقه، والحديث، والعبادة".
- وقال ابن العماد الحنبلي: "الإمام أبو عبدالله؛ أحد الأعلام؛ كان رأساً في الفقه؛ رأساً في الحديث؛ رأسا في العبادة؛ ثقة عدلاً خيراً".
- وقال الإسنوي: "محمد بن نصر المروزي؛ أحد أئمة الإسلام؛ قال فيه الحاكم: هو الفقيه العابد العالم؛ إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة".
- وقال السليماني: "محمد بن نصر إمام الأئمة؛ الموفق من السماء؛ سكن سمرقند؛ سمع: يحيى بن يحيى، وعبدان، والمسندي، وإسحاق؛ له كتاب «تعظيم قدر الصلاة»، وكتاب «رفع اليدين»، وغيرهما من الكتب المعجزة".
ما نقمه أهل العلم على محمد بن نصر:
قوله: "الإيمان مخلوق".
قال أبو عبدالله بن منده: "صرح محمد بن نصر في كتاب الإيمان؛ بأن الإيمان مخلوق، وأن الإقرار، والشهادة، وقراءة القرآن بلفظه مخلوقة، وهجره على ذلك علماء وقته، وخالفه أئمة خراسان، والعراق".
قال الذهبي: "الخوض في ذلك لا يجوز، وكذلك لا يجوز أن يقال: الإيمان، والإقرار، والقراءة، والتلفظ بالقرآن غير مخلوق؛ فإن الله خلق العباد، وأعمالهم، والإيمان: فقول وعمل، والقراءة والتلفظ: من كسب القارئ، والمقروء الملفوظ: هو كلام الله، ووحيه، وتنزيله، وهو غير مخلوق، وكذلك كلمة الإيمان، وهي قول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) داخلة في القرآن، وما كان من القرآن؛ فليس بمخلوق، والتكلم بها من فعلنا، وأفعالنا مخلوقة، ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له؛ قمنا عليه، وبدعناه، وهجرناه؛ لما سلم معنا؛ لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين؛ فنعوذ بالله من الهوى، والفظاظة".
قلت:
نعت الذهبي لأئمة خراسان، والعراق؛ بالهوى، والفظاظة؛ لأنهم تكلموا في المروزي، وهجروه؛ لا يخلو من أن يكون مصيباً فيه؛ أو مخطئاً كعادته؛ فقد دأب على تخطئة أئمة السلف، والطعن فيهم، والاستدراك بجهل عليهم؛ مع أنه نقل عن ابن منده؛ أنهم تكلموا فيه بسبب قوله: (الإيمان مخلوق). فلننظر ماذا قال أئمة السلف في هذه المسألة؟
وهل هي زلة يسيرة كما صورها الذهبي؟
أم أنهم كانوا على حق؛ في موقفهم من ابن نصر؟
قال الإمام أحمد: "من قال: (الإيمان) مخلوق؛ فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق؛ فقد ابتدع، ويهجر حتى يرجع".
وفي رواية أبي بكر الخلال: "من قال: إن الإيمان مخلوق فقد كفر؛ لأن في ذلك إيهاماً وتعريضاً بالقرآن، ومن قال: إنه غير مخلوق فقد ابتدع؛ لأن في ذلك إيهاماً وتعريضاً أن إماطة الأذى عن الطريق وأفعال الأركان؛ غير مخلوقة".
وقال حنبل: "سمعت أبا عبدالله، وسئل عن من قال: الإيمان مخلوق؛ فقال: هذا كلام سوء رديء، وأي شيء بقي، والنبي صلى الله عليه وسلم؛ يقول: «الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله»، فلا إله إلا الله مخلوق؟ من قال هذا، فهو قول سوء، يدعو إلى كلام جهم، يحذر عن صاحب هذا الكلام، ولا يجالس، ولا يكلم حتى يرجع، ويتوب، وهذا عندي يدعو إلى كلام جهم، الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله؛ مخلوق هو؟ قال الله تعالى {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}؛ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ}، فهذه صفاته وأسماؤه غير مخلوقة وصف الله بها نفسه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله» فمن قال: لا إله إلا الله مخلوق، فقد قال بقول الجهمية، يحذر عن صاحب هذه المقالة، وصفات الله وأسماؤه غير مخلوقة، وهذه من صفات الله تعالى، ولم يزل الله عالماً؛ فمن قال: لا إله إلا الله مخلوق؛ فقد قال مقالة الجهمية".
وقال أحمد بن إسحاق بن عيسى البزاز: "سمعت أبي؛ يقول: قدم علينا رجل من صور؛ معروف بالصوري متكلم؛ حسن الهيئة كأنه راهب؛ فأعجبنا أمره؛ ثم إنما لقي سائلاً؛ فجعل يقول لنا: الإيمان مخلوق، والزكاة مخلوقة، والحج مخلوق، والجهاد مخلوق؛ فجعلنا لا ندري ما نرد عليه؛ فأتينا عبدالوهاب الوراق؛ فقصصنا عليه أمره؛ فقال: ما أدري ما هذا؟ ائتوا أبا عبدالله أحمد بن حنبل؛ فإنه جهبذ هذا الأمر؛ قال أبي: فأتينا أبا عبدالله؛ فأخبرناه بما أخبرنا عبدالوهاب من المسائل التي ألقاها علينا؛ فقال لنا أبو عبدالله: «هذه مسائل الجهم بن صفوان، وهي سبعون مسألة؛ اذهبوا فاطردوا هذا من عندكم»".
وقال أبو بكر المروذي: "قلت لأبي عبدالله: إن رجلاً قد تكلم في ذلك الجانب، وقد قعد الناس يخوضون فيه، وقد ذهبوا إلى عبدالوهاب فسألوه، فقال: اذهبوا إلى أبي عبدالله، وقد ذهبوا إلى غير واحد من المشيخة، فلم يدروا ما يقولون، وقد جاءوا بكلامه على أن يعرضوه عليك. وهذه الرقعة؛ فقال: هاتها؛ فدفعتها إليه، فكان فيها: خلق الله عز وجل لنا عقولاً، وألهمنا الخير والشر، وألهمنا الرشد، وأوجب علينا فيما أنعم به علينا الشكر. فقال له رجل: وهكذا إيماننا قول وعمل، ويزيد وينقص ونية واتباع السنة، وإنما قلت: إنه مخلوق على الحركة والفعل، إذ كان في هذا الموضع لا على القول، فمن قال: «إن الإيمان مخلوق يريد القول فهو كافر»، وبعد هذا يعرض كلامي على أبي عبدالله، فإن كان خطأ رجعت، وتبت إلى الله، وإن كان صواباً؛ فالحمد لله، فقرأها أبو عبدالله حتى انتهى إلى قوله: وإنما قلت: إنه مخلوق على الحركة والفعل، فرمى أبو عبدالله بالرقعة من يده، وغضب غضباً شديداً، ثم قال: هذا أهل أن يحذر عنه، ولا يكلم؛ هذا كلام جهم بعينه، وإنما قلت مخلوق على الحركة؛ هذا مثل قول الكرابيسي، إنما أراد: الحركات مخلوقة، هذا قول جهم، ويله إذا قال: إن الإيمان مخلوق، فأي شيء بقي؟ النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله»، فلا إله إلا الله مخلوق؟ قال: من أين هذا الرجل؟ وعلى من نزل؟ ومن يجالس؟ قلت: هو غريب، قال: حذروا عنه، ليس يفلح أصحاب الكلام. ثم غضب غضباً شديداً، وأمر بمجانبته، ثم قال أبو عبدالله: انظر كيف قد قدم التوبة أمامه: إن أنكر علي أبو عبد الله تبت، ولم يرد أن يتكلم بكلام أنكره عليه".
قال الخلال: "وأصله الذي بنى عليه مذهبه: أن القرآن إذا لم ينطق بشيء، ولا روي في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء، وانقرض عصر الصحابة، ولم ينقل فيه عنهم قول؛ فالكلام فيه حدث في الإسلام؛ فلأجل ذلك أمسك عن القول في خلق الإيمان، وأن لا يقطع على جواب في أنه مخلوق، أو غير مخلوق؛ وفسق الطائفتين وبدعهما".
وقال ابن بطة: "باب القول فيمن زعم أن الإيمان مخلوق .. القول في هذا ما كان عليه أهل العلم، والتسليم؛ لما قالوه، فمن قال: إن الإيمان مخلوق؛ فهو كافر بالله العظيم؛ لأن أمل الإيمان وذروة سنامه شهادة أن لا إله إلا الله، ومن قال: إنه غير مخلوق، فهو مبتدع لأن القدرية؛ تقول: إن أفعال العباد وحركاتهم غير مخلوقة، فالأصل المعمول عليه من هذا: التسليم لما قالته العلماء، وترك الكلام فيما لم يتكلم فيه الأئمة؛ فهم القدوة، وهم كانوا أولى بالكلام منا؛ نسأل الله عصمة من معصيته، وعياذاً من مخالفته".
وقال قوام السنة الأصبهاني حاكياً مذهب السلف: "قال علماء السلف: أول ما افترض الله على عباده الإخلاص، وهو معرفة الله والإقرار به، وطاعته بما أمر ونهى، وأول الفرض: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الله تبارك وتعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش؛ كما وصف نفسه؛ فهو بجميع صفاته، وجميع كلامه لم يزل، ولا يزال، ولا يخلو من علمه شيء، ولا مكان وهو المتكلم السميع البصير؛ يراه المؤمنون في الآخرة، ويسمعون كلامه، وينظرون إليه كما ينظرون إلى الشمس والقمر ليلة البدر إذا لم يكن دونه سحاب، وعلم الله وصفاته كلها غير مخلوقة، وهو واحد بجميع أسمائه وصفاته، والقرآن كلامه غير مخلوق، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: الإيمان مخلوق فهو مبتدع".
وقال محمد بن إسحاق بن منده: "رأس الإيمان التوحيد، وهو قول: لا إله إلا الله؛ فمن زعم أن الإيمان مخلوق؛ فقد زعم أن الله تعالى لم يكن موحداً حتى خلق التوحيد فوحد به، وهذا من أقاويل الزنادقة خذلهم الله".
وقال عبدالغني المقدسي: "روي عن إمامنا أحمد: أنه قال: من قال: الإيمان مخلوق؛ فهو كافر, ومن قال: قديم؛ فهو مبتدع. وإنما كفَّر من قال بخلقه؛ لأن الصلاة من الإيمان، وهي تشتمل على قراءة وتسبيح، وذكر الله عز وجل، ومن قال بخلق ذلك؛ كفر. وتشتمل على قيام، وقعود، وحركة، وسكون، ومن قال بقدم ذلك؛ ابتدع".
فتلخص من كلامهم:
- أن هذا القول من أقاويل الزنادقة، وأنه عين قول الجهمية.
- اتفاق علماء السلف على أن قائله: إما كافر؛ كما نقل ابن بطة؛ أو: مبتدع؛ كما نقل التيمي.
- الأمر بهجره، وطرده، والتحذير منه
فما سار عليه أئمة خراسان والعراق؛ هو منهج أحمد بن حنبل، ووصيته لطلبته، وهو نص كلامه المنقول عنه. وموقفه من اللفظية، وكلامه الشديد فيهم لا يخفى على أحد؛ فكان ينبغي للذهبي أن يتأدب مع أئمة السلف الذين هم بحق أئمة؛ لا سيما، وهو يعرف ذلك جيداً؛ فقد قال في ترجمة فضلك الصائغ: "رحل وطوف، وحدث عن: عيسى بن مينا قالون، وقتيبة بن سعيد، وعبدالعزيز بن عبدالله الأويسي، وخلق كثير. وعنه: محمد بن مخلد العطار، وأبو عوانة، ومحمد المطيري، وأبو بكر الخرائطي، وجماعة؛ توفي في صفر سنة سبعين. قال المروذي: ورد علي كتاب من ناحية شيراز؛ أن فضلك قال ببلدهم: إن الإيمان مخلوق؛ فبلغني أنهم أخرجوه من البلد بأعوان الوالي. وقال لي أحمد بن أصرم المزني: كنت بشيراز، وقد أظهر فضلك: أن الإيمان مخلوق، وأفسد قوماً من المشيخة؛ فحذرت عنه، وأخبرتهم أن أحمد بن حنبل جهَّم من قال بالعراق: الإيمان مخلوق، وبينا أمره حتى أخرج، ودخلت أصبهان؛ فإذا قد جاء إليهم، وأظهر عندهم أن الإيمان مخلوق؛ فأخرج منها. وقال المروذي: ما زلنا نهجر فضلك حتى مات، ولم يظهر توبة، ولا رجوعاً".
فظهر بهذا؛ أن موقف الأئمة من ابن نصر ليس خاصاً به وحده دون غيره؛ بل هو منهج عام لهم؛ ساروا عليه، وطبقوه مع كل من يقول بذلك، وأئمة السلف لم يؤثر عنهم الكلام في هذه المسائل.
قال عبدالوهاب الوراق: "أبو عبدالله إمامنا، وهو من الراسخين في العلم؛ يقول: ما سمعت عالماً يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ غير هؤلاء عند أبي عبدالله الذين خالفوا قوله؛ إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألني: بمن اقتديت؟ أي شيء أقول؟ وأي شيء ذهب على أبي عبدالله من أمر الإسلام؟ وأبو عبدالله عالم هذه المسألة، وقد بلى منذ عشرين سنة في الأمر؛ فمن لم يصر إلى قول أبي عبدالله؛ فنحن نظهر خلافه، ونهجره، ولا نكلمه". وقال على بن مسلم الطوسي: القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا قول أبي عبدالله، وبه نقتدي إذ كنا لم ندرك في عصره أحداً يتقدمه في العلم والمعرفة والديانة، وهو وإن كان مقدماً عند من أدركنا من علمائنا؛ فما علمت أحداً بلي بمثل ما بلي به؛ فصبر؛ فهو حجة وقدوة لأهل هذا العصر، ومن بلي بعدهم فنحن متبعون لمقالته، وموافقون له؛ فمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فقد ابتدع، وليس هو من كلام العلماء، وهذا مما أحدث أصحاب الكلام المبتدع".
وقال إسحاق بن إبراهيم: "من قال: أن لفظه بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي، ومن قال: لفظه بالقرآن غير مخلوق فقد ابتدع وأحدث في الإسلام أمراً لا نعرفه؛ أدركنا مشايخنا وأئمتنا؛ مثل: معاذ، ويزيد؛ فما أدركنا أشد منهما على أهل البدع؛ فما سمعناهما ولا غيرهما ممن شهدنا؛ يقول هذا القول، وقد صح عندنا عن إمامنا، وإمام المسلمين في زمانه أحمد بن محمد بن حنبل؛ أنه نهى أن يقال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وقال: ما سمعت عالماً قال هذا. ونحن لم نسمع عالماً قال هذا، ولا بلغنا عن عالم أنه قاله منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وإلى زماننا هذا، وإنما نحن أصحاب اتباع وتقليد لأئمتنا وأسلافنا الماضين رحمهم الله؛ لا نحدث بعدهم حدثاً ليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا قاله إمام؛ فمن خالف أبا عبدالله في هذا؛ هجرناه وحذرنا عنه حتى يرجع إلى قول أبي عبدالله، والعلماء".
وقال العباس الدوري: "القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: أنه مخلوق؛ فهو كافر، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي، ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ فقد أحدث حدثاً لم نسمعه ممن أدركنا من العلماء، وأبو عبدالله عندنا؛ الإمام الذي نقتدي به؛ فمن خالف أبا عبدالله فنحن نهجره".
قلت: ومسألة الإيمان، وهل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ نشأ النزاع فيها لما ظهرت محنة الجهمية في القرآن؛ هل هو مخلوق، أو غير مخلوق؟
قال ابن تيمية: "هذه المسألة نشأ النزاع فيها لما ظهرت محنة الجهمية في القرآن، وهي محنة الإمام أحمد وغيره من علماء المسلمين، وقد جرت فيها أمور يطول وصفها؛ لكن لما ظهر القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأطفأ الله نار الجهمية المعطلة؛ صارت طائفة يقولون: إن كلام الله الذي أنزله مخلوق، ويعبرون عن ذلك باللفظ؛ فصاروا يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، أو تلاوتنا أو قراءتنا مخلوقة، وليس مقصودهم مجرد كلامهم وحركاتهم؛ بل يدخلون في كلامهم نفس كلام الله الذي نقرأ بأصواتنا وحركاتنا. وعارضهم طائفة أخرى؛ فقالوا: ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة؛ فرد الإمام أحمد على الطائفتين، وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع. وتكلم الناس حينئذ في الإيمان؛ فقالت طائفة: الإيمان مخلوق، وأدرجوا في ذلك ما تكلم الله به من الإيمان؛ مثل: قول لا إله إلا الله؛ فصار مقتضى قولهم أن نفس هذه الكلمة مخلوقة، ولم يتكلم الله بها؛ فبدع الإمام أحمد هؤلاء، وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله)؛ أفيكون قول لا إله إلا الله مخلوقاً؟ ومراده أن من قال: هي مخلوقة مطلقاً؛ كان مقتضى قوله إن الله لم يتكلم بهذه الكلمة؛ كما أن من قال: إن ألفاظنا وتلاوتنا وقراءتنا للقرآن مخلوقة؛ كان مقتضى كلامه أن الله لم يتكلم بالقرآن الذي أنزله، وأن القرآن المنزل ليس هو كلام الله، وأن يكون جبريل نزل بمخلوق ليس هو كلام الله، والمسلمون يقرؤون قرآناً مخلوقاً ليس هو كلام الله".
قلت: وقد نقل إبراهيم بن الحكم القصار عن الإمام أحمد رحمه الله؛ أنه سئل عن الإيمان؛ مخلوق، أم لا؟
فقال: "أما ما كان من مسموع؛ فهو غير مخلوق، وأما ما كان من عمل الجوارح؛ فهو مخلوق".
والمقصود هنا: بيان موقف أئمة السلف؛ من أناس بلغوا مبلغاً عظيماً في العلم والتقى والورع؛ تكلموا بكلام لم يتكلم به أسلافهم، وهو في نفسه يحتمل حقاً، وباطلاً؛ فما كان منهم إلا أن نسبوهم إلى البدعة، وهجروهم، وحذروا منهم، وفي هذا يقول ابن تيمية حاكياً مذهبهم: "طريقة السلف والأئمة؛ أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية؛ فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة؛ ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً؛ نسبوه إلى البدعة أيضاً".