منهج السلف - 2 - أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي

منهج السلف الصالح في التعامل مع أخطاء العلماء - 2 -

أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي

أبو ثور إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي الإمام الحبر البحر المجتهد؛ صاحب الإمام الشافعي، وناقل الأقوال القديمة عنه ([1]) كنيته أبو عبدالله، وأبو ثور لقب؛ كان أول اشتغاله بمذهب أهل الرأي ([2]) على عادة أهل العراق؛ ولما قدم الإمام الشافعي بغداد اختلف إليه، ورجع عن مذهبه.
روى عن إسماعيل ابن علية، وأبي معاوية الضرير، والشافعي، وسفيان بن عيينة، وعبدالرحمن بن مهدي، ووكيع بن الجراح، ويزيد بن هارون، وموسى بن داود، ومحمد بن عبيد الطنافسي، ومعاذ بن معاذ، وروح بن عبادة، وأبي قطن عمرو بن الهيثم، وغيرهم.
روى عنه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وأبو القاسم البغوي، وأبو حاتم الرازي، وعبيد بن محمد بن خلف البزار، والقاسم بن زكريا المطرز، وإدريس بن عبدالكريم الحداد، وأحمد بن الحسن الصوفي، ومحمد بن إسحاق السراج، ومحمد بن صالح بن ذريح العكبري، وأحمد بن محمد البراثي، وعبيدة بن حميد، وغيرهم.
من أقوال أهل العلم فيه:
1-              قال أحمد بن حنبل: "هو عندي في مسلاخ سفيان الثوري؛ أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة".
2-              وسئل رحمه الله عن مسألة؛  فقال: "سل غيرنا؛ سل أبا ثور".
3-              وقال عبدالله بن أحمد: "انصرفت من جنازة أبي ثور؛ فقال لي أبي: أين كنت؟ فقلت: صليت على أبي ثور؛ فقال: رحمه الله؛ إنه كان فقيهاً".
4-              وقال النسائي: "ثقة مأمون؛ أحد الفقهاء".
5-              وقال ابن حبان: "أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وفضلاً وورعاً وديانة صنف وفرع على السنن وذب عنها".
6-              وقال: "كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وورعاً وفضلاً وديانة وخيراً؛ ممن صنف الكتب، وفرع على السنن، وذب عن حريمها، وقمع مخالفيها".
7-              وقال الخطيب: "كان أحد الثقات المأمونين، ومن الأئمة الأعلام في الدين".
8-              وقال: "اعلم أن أحواله الجميلة، ومناقبه الظاهرة، وفضائله ومحاسنة المتظاهرة؛ أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تشهر".
9-              وقال الحاكم: "كان فقيه أهل بغداد، ومفتيهم في عصره، واحد أعيان المحدثين المتقنين بها".
10-       وقال ابن عبدالبر: "كان حسن الطريقة فيما روى من الأثر؛ إلا أن له شذوذاً فارق فيه الجمهور، وعدوه أحد أئمة الفقهاء". ([3])
11-       وقال أبو حاتم الرازي: "يتكلم بالرأي فيخطئ ويصيب، وليس محله محل المتسعين في الحديث". ([4])
12-       وقال مسلمة بن قاسم: "ثقة جليل فقيه البدن".
13-       وقال ابن الجوزي: "كان من الفقهاء الأخيار، والثقات الأعلام، وصنف كتباً في الأحكام جمع فيها بين الحديث والفقه".
14-       وقال اليافعي: "الفقيه الإمام أحد العلماء الأعلام".
15-       وقال النووي: "الإمام الجليل الجامع بين علمي الحديث والفقه؛ أحد الأئمة المجتهدين، والعلماء البارعين، والفقهاء المبرزين؛ المتفق على إمامته، وجلالته، وتوثيقه، وبراعته".
16-       وقال: "هو أحد أصحاب الشافعي البغداديين؛ الأئمة الأجلة".
17-       وقال الذهبي: "برع في العلم، ولم يقلد أحداً".
18-       وقال: "أحد الفقهاء الأعلام؛ وثقه النسائي، والناس".
توفي سنة أربعين ومئتين؛ قبل الإمام أحمد بسنة.
ما أخذه أهل العلم على أبي ثور:
أخذ عليه رحمه الله مأخذان:
الأول: قوله بحل ذبائح المجوس:
وهذا القول اشتهر عنه وأنكره عليه الأئمة، وبالغوا في الإنكار عليه؛ قال الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه - يعني في هذه المسألة - أو إن شئت فاقلب.
وقد استدل أبو ثور بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، والمجوس إنما أخذت منهم الجزية تبعاً، وإلحاقاً لأهل الكتاب، وليس معنى هذا أن تؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم.
قال أحمد: ها هنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأساً؛ ما أعجب هذا؟ يُعَرِّض بأبي ثور.
وقال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، وما رأينا أحداً من العلماء تكلم في هذه المسألة، إلا ويذكر تحريم ذبائح ما عدا أهل الكتاب، ولا يذكر في ذلك مخالفاً، إلا مخالفة أبي ثور في المجوس، ومخالفة إسحاق ([5]) في المرتد إلى دين أهل الكتاب خاصة.
وقال محمد بن جعفر: سألت عبدالوهاب الوراق عن أبي ثور فقال: أتدين فيه بما حدثني به أبو طالب عن أبي عبدالله أنه سأله عنه؛ فقال: يُجفى، ويُجفى من أفتى برأيه.
الثاني: قوله في حديث الصورة بقول الجهمية:
حيث قال: إن الضمير في حديث: (خلق الله آدم على صورته) ([6]) يعود على آدم ([7]) مخالفاً بذلك ما اتفق عليه أئمة السلف الصالح؛ من أن الضمير يعود على الله؛ أي: أنه سبحانه خلق آدم على صورته ذا وجه وسمع وبصر، وهكذا، ولا يلزم من ذلك؛ أن يكون الوجه كالوجه، والسمع كالسمع، والبصر كالبصر، والصورة كالصورة؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته. ([8])
فحديث الصورة من أحاديث الصفات التي مضى أهل السنة والجماعة على إمرارها على ظاهرها - كما جاءت - من غير تحريف ولا تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل. ([9])
وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة ابن باز: "هو حديث صحيح، ولا غرابة في متنه؛ فإن له معنيان:
الأول: أن الله لم يخلق آدم صغيراً قصيراً كالأطفال من ذريته؛ ثم نما وطال حتى بلغ ستين ذراعاً؛ بل جعله يوم خلقه طويلاً على صورة نفسه النهائية طوله ستون ذراعاً.
والثاني: أن الضمير في قوله: (على صورته) يعود على الله؛ بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة: (على صورة الرحمن) وهو ظاهر السياق ولا يلزم على ذلك التشبيه؛ فإن الله سمى نفسه بأسماء سمى بها خلقه، ووصف نفسه بصفات وصف بها خلقه، ولم يلزم من ذلك التشبيه، وكذا الصورة، ولا يلزم من إثباتها لله تشبيهه بخلقه؛ لأن الاشتراك في الاسم وفي المعنى الكلي لا يلزم منه التشبيه فيما يخص كلاً منهما؛ لقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)".
وقد شنع أئمة السلف رحمهم الله على من قال بعود الضمير على غير الله، ورموه بالتجهم.
قال أحمد رحمه الله: "من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه".
وقال رحمه الله: "لقد سمعت الحميدي بحضرة سفيان بن عيينة؛ فذكر هذا الحديث (خلق الله آدم على صورته) فقال: من لا يقول بهذا فهو كذا وكذا - يعني من الشتم - وسفيان ساكت لا يرد عليه".
وقال حرب الكرماني رحمه الله: "سمعت إسحاق بن راهويه؛ يقول: صح أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، وقال: لا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي".
وقال أبو بكر المروذي رحمه الله: "قلت لأبي عبدالله: كيف تقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم على صورته)؟ قال: أما الأعمش؛ فيقول: عن حبيب بن أبي ثابت - وساق حديث ابن عمر بسنده - ثم قال: فنقول كما جاء الحديث - يعني: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن".
وقال رحمه الله: "أظن أني ذكرت لأبي عبدالله عن بعض المحدثين بالبصرة؛ أنه قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم (خلق الله آدم على صورته) قال: صورة الطين؛ قال: هذا جهمي، وقال: نسلم الخبر كما جاء".
وقال عبدالله بن أحمد رحمه الله: "قال رجل لأبي: إن فلاناً يقول في حديث رسول الله: إن الله خلق آدم على صورته.؛ فقال: على صورة الرجل؛ فقال أبى: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا".
وقال حمدان بن علي الوراق رحمه الله: "سألت أبا ثور عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق آدم على صورته؛ فقال: على صورة آدم - وكان هذا بعد ضرب أحمد بن حنبل والمحنة - فقلت: لأبي طالب: قل لأبي عبدالله؛ فقال: أبو طالب: قال لي أحمد بن حنبل: صح الأمر على أبي ثور؛ من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه".
وقال ابن قتيبة الدينوري رحمه الله: "والذي عندي والله أعلم؛ أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد".
وقال الآجري رحمه الله: "هذه من السنن التي يجب على المسلمين الإيمان بها، ولا يقال فيها: كيف؟ ولم؟ بل تستقبل بالتسليم والتصديق وترك النظر؛ كما قال من تقدم من أئمة المسلمين".
وقال أبو يعلى رحمه الله: "ليس في حمله على ظاهره ما يزيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه؛ لأننا نطلق تسمية الصورة عليه لا كالصور؛ كما أطلقنا تسمية ذات ونفس؛ لا كالذوات والأنفس".
وقال ابن تيمية رحمه الله: "لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله؛ فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك .. لكن لما انتشرت الجهمية في المئة الثالثة؛ جعل طائفة الضمير فيه عائداً إلى غير الله تعالى؛ حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم؛ كأبي ثور وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم ([10]) ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين، وغيرهم من علماء السنة".
ومن ها هنا شنع الإمام أحمد والعلماء على أبي ثور رحمه الله؛ على الرغم مما عرف به من العلم والسنة.
قال أحمد رحمه الله: "هذا جهمي لا تقربوه".
وقال يعقوب الدورقي رحمه الله: "سألت أحمد عن أبي ثور، وحسين الكرابيسي؛ فقال: متى كان هؤلاء من أهل العلم، ومتى كان هؤلاء من أهل الحديث؛ متى كان هؤلاء يضعون للناس الكتب".
وقال إبراهيم بن أبان الموصلي رحمه الله: "سمعت أبا عبدالله، وجاءه رجل؛ فقال: إني سمعت أبا ثور يقول: إن الله خلق آدم على صورة نفسه؛ فأطرق طويلاً ثم ضرب بيده على وجهه؛ ثم قال: هذا كلام سوء، هذا كلام جهم؛ هذا جهمي لا تقربوه".
وقال حمدويه بن شداد رحمه الله: "سمعت أحمد بن حنبل - وذكروا عنده أبا ثور - فقال: لا تؤذوني بمجالسته".
وقال زكريا بن الفرج رحمه الله: "سألت عبدالوهاب الوراق غير مرة عن أبي ثور؛ فأخبرني أن أبا ثور جهمي، وذلك أنه قطع بقول أبي يعقوب الشعراني؛ حكى أنه سأل أبا ثور عن خلق آدم على صورته؛ فقال: إنما هو على صورة آدم؛ ليس هو على صورة الرحمن؛ قال زكريا: فقلت بعد ذلك لعبدالوهاب: ما تقول في أبي ثور؟ فقال: ما أدين فيه إلا بقول أحمد بن حنبل؛ يهجر أبو ثور، ومن قال بقوله؛ قال زكريا وقلت: لعبدالوهاب مرة أخرى، وقد تكلم قوم في هذه المسألة - خلق الله آدم على صورته - فقال: من لم يقل: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن؛ فهو جهمي".
قلت: قد تراجع أبو ثور عن هذا القول، وتاب منه؛ بعد أن قال له الإمام أحمد: أي صورة كانت لآدم يخلقه عليها؟ كيف تصنع بقوله: (خلق الله آدم على صورة الرحمن)؟ فاعتذر إليه، وتاب بين يديه.
وثمة مأخذ ثالث أخذه عليه الإمام أحمد رحمه الله، وإن كان ليس بذاك، وهو أن أبا ثور رحمه الله كان يدون مسائل الفقه، والإمام أحمد كان يكره ذلك، ويحض على كتابة الأثر.
قال ابن خاقان رحمه الله: "سألت أحمد بن حنبل عن أبي ثور؛ فقال: لم يبلغني إلا خيراً؛ إلا أنه لا يعجبني الكلام الذي يصيرونه في كتبهم".


الفوائد:
1-                  تعظيم أئمة السلف الصالح رحمهم الله لهذا الدين، وحماية جنابه من الزلات والأخطاء؛ فضلاً عن البدع والأهواء.
2-                   أن من أخطأ من أهل العلم - كائناً من كان - قالوا له أخطأت. ونوهوا عن خطأه، وحذروا من هذا الخطأ إذا اقتضى الأمر. وشددوا في النكير عليه، والحط منه إذا كان الخطأ فادحاً. فهذه ثلاث مراتب للخطأ، وطريقة تعاملهم معه، ولكل مقام مقال.
3-                  ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة؛ قال ابن تيمية رحمه الله: "من تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً"؛ فمكانة أبي ثور في الدين والعلم لم تمنع الإمام أحمد من النكير الشديد عليه؛ بل وتجهيله؛ حتى قال رحمه الله: متى كان من أهل العلم، ومتى كان من أهل الحديث، ومتى كان يضع للناس الكتب؟!
4-                   أن أبا ثور قبل الحق من الإمام أحمد، ورجع عن قوله، ولم يستنكف من الاعتراف بخطأه؛ مع من ناله من تقريع وتوبيخ؛ قال ابن قتيبة رحمه الله: "القاصد لوجه الله لا يخاف أن ينقد عليه خلل في كلامه، ولا يهاب أن يدل على بطلان قوله، بل يحب الحق من حيث أتاه، ويقبل الهدى ممن أهداه، بل المخاشنة بالحق والنصيحة أحب إليه من المداهنة على الأقوال القبيحة"، وهذا الموقف المشرف من أبي ثور؛ جعل الإمام أحمد يثي عليه؛ بخلاف الكرابيسي الذي أصر على خطأه وجادل وعاند؛ فسقط ولم تقم له قائمة؛ قال أبو بكر الصيرفي رحمه الله: "اعتبروا بهذين النفسين؛ حسين الكرابيسي وأبو ثور؛ فالحسين في حفظه وعلمه؛ وأبو ثور لا يعشره ([11]) في علمه؛ فتكلم فيه أحمد ابن حنبل في باب اللفظ فسقط، وأثنى على أبي ثور في ملازمته للسنة؛ فارتفع".
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم




[1]- هو وأحمد بن حنبل، والحسين الكرابيسي، والحسن بن محمد الزعفراني.
[2]- قال رحمه الله: "كنت من أصحاب محمد بن الحسن (صاحب أبي حنيفة) فلما قدم الشافعي علينا جئته إلى مجلسه شبه المستهزئ؛ فسألته عن مسألة من الدور فلم يجبني، وقال لي: كيف ترفع يديك في الصلاة؟ قلت هكذا. قال لي: أخطأت. فقلت: كيف أصنع؟ فقال: حدثني ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع. قال أبو ثور: فوقع في قلبي من ذاك، فجعلت أزيد في المجيء إلى الشافعي، وأقصر في الاختلاف إلى محمد بن الحسن. فقال لي ابن الحسن يوماً: يا أبا ثور أحسب هذا الحجازي قد غلب عليك. قلت: أجل؛ الحق معه. قال: وكيف ذاك؟ فقلت: كيف ترفع يديك في الصلاة؟ فأجابني على نحو ما أجبت الشافعي؛ فقلت: أخطأت. قال: كيف أصنع؟ قلت حدثني الشافعي عن ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع وإذا رفع. قال أبو ثور: فلما كان بعد شهر قال: يا أبا ثور، خذ مسألتك في الدور؛ فإنما منعني أن أجيبك يومئذ أنك كنت متعنتاً".
وقال رحمه الله: "كنت أنا، وإسحاق بن راهويه، وحسين الكرابيسي، وجماعة من العراقيين؛ ما تركنا بدعتنا حتى رأينا الشافعي".
والبدعة ها هنا هي اختلافهم إلى أصحاب الرأي الذي كان منتشراً في العراق، والمنسوب إلى أبي حنيفة وأصحابه، وسبق أن أبا ثور رحمه كان قبل قدوم الشافعي إلى بغداد يختلف إلى محمد بن الحسن، وهو من أكابر تلاميذ أبي حنيفة ووجوه أصحابه؛ قال رحمه الله: لما ورد الشافعي العراق جاءني حسين الكرابيسي - وكان يختلف معي إلى أصحاب الرأي - فقال: قد ورد رجل من أصحاب الحديث يتفقه؛ فقم بنا نسخر به. فقمت وذهبنا حتى دخلنا عليه، فسأله الحسين عن مسألة؛ فلم يزل الشافعي يقول: قال الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أظلم علينا البيت؛ فتركنا بدعتنا واتبعناه.
ومما ينبغي ذكره؛ أنه رغم تلمذته على الشافعي وانتفاعه به؛ إلا أنه صاحب مذهب مستقل؛ خلافاً للشيرازي الذي عده من أصحابه، وأنه صاحب وجه في المذهب، ولو أن كل من استفاد من الشافعي عد من أصحابه؛ لعد أحمد ابن حنبل وغيره، فإنه أخذ عن الشافعي؛ فمن هذا الوجه لا يعد أبو ثور من أصحاب الشافعي؛ كما لا يعد تفرده وجهاً في المذهب، وعلى هذا جرى الأئمة المصنفون في اختلاف مذاهب العلماء؛ كابن جرير، وابن المنذر، وزكريا الساجي، وغيرهم؛ فإنهم يذكرون أبا ثور تارة موافقاً للشافعي، وتارة مخالفاً له؛ قال الرافعي: "أبو ثور وإن كان معدوداً وداخلاً في طبقة أصحاب الشافعي؛ فله مذهب مستقل، لا يُعد تفرده وجهاً".
[3]- قلت: أقواله في الفقه منثورة مشهورة في كتب الفقهاء؛ وقصد ابن عبدالبر بشذوذه؛ اختياراته الفقهية التي فارق بها جمهور الفقهاء.
[4]- قال الذهبي رحمه الله: "وأما أبو حاتم فتعنت، وقال: .. ؛ فهذا غلو من أبى حاتم سامحه الله؛ بل هو حجة بلا تردد".
[5]- جاء في الشرح الكبير: "لا تباح ذبيحة المرتد، وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب، وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال إسحاق: إن تدين بدين أهل الكتاب حلت ذبيحته، ويحكى ذلك عن الأوزاعي؛ لأن علياً رضي الله عليه عنه؛ قال: (من تولى قوماً فهو منهم) ولنا أنه كافر لا يقر على دينه؛ فلم تحل ذبيحته كالوثني، ولأنه لا تثبت له أحكام أهل الكتاب إذا تدين بدينهم؛ فإنه لا يقر بالجزية، ولا يسترق، ولا يحل له نكاح المرتدة. وأما قول علي: (فهو منهم) لم يرد أنه منهم في جميع الأحكام؛ بدليل ما ذكرنا، ولأنه لم يكن يرى حل ذبائح نصارى بني تغلب ولا نكاح نسائهم مع توليهم للنصارى ودخولهم في دينهم، ومع إقرارهم على ما صولحوا عليه؛ فلا يعتقد ذلك في المرتدين".
[6]- قال ابن القاسم رحمه الله: "سألت مالكاً عمن يحدث بالحديث الذي قالوا: (إن الله خلق أدم على صورته)؛ فأنكر ذلك إنكاراً شديداً، ونهى أن يتحدث به أحد؛ فقيل له: كأن ناساً من أهل العلم يتحدثون به؛ فقال: من هم؟ فقيل: محمد بن عجلان، وأبي الزناد؛ فقال: لم يكن يعرف ابن عجلان هذه الأشياء، ولم يكن عالماً، وذكر أبا الزناد؛ فقال: إنه لم يزل عاملاً لهؤلاء حتى مات، وكان صاحب عمال يتبعهم".
قال الذهبي: "الحديث في أن الله خلق آدم على صورته؛ لم ينفرد به ابن عجلان .. قال حرب الكرماني: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آدم خلق على صورة الرحمن. وقال الكوسج: سمعت أحمد بن حنبل يقول: هذا الحديث صحيح. وهو مخرج في الصحاح، وأبو الزناد فعمدة في الدين، وابن عجلان صدوق من علماء المدينة وأجلائهم ومفتيهم، وغيره أحفظ منه .. وأنكر الإمام مالك ذلك؛ لأنه لم يثبت عنده، ولا اتصل به فهو معذور".
[7]- روي هذا عن الإمام أحمد، ولا يصح؛ لأن ناقل ذلك عنه؛ حمدان بن الهيثم لم يوثقه إلا أبو الشيخ؛ قال الذهبي: أتى بشيء منكر عن أحمد بن حنبل في معنى قوله عليه السلام: (إن الله خلق آدم على صورته)؛ فقد زعم أنه قال: صور الله صورة آدم قبل خلقه؛ ثم خلقه على تلك الصورة؛ فأما أن يكون خلق الله آدم على صورته؛ فلا؛ فقد قال تعالى: (ليس كمثله شيء)؛ قال يحيى بن منده في مناقب أحمد: قال المظفر بن أحمد الخياط في كتاب السنة: وحمدان بن الهيثم يزعم أن أحمد قال: صور الله صورة آدم قبل خلقه، وأبو الشيخ فوثقه في كتاب الطبقات. ويدل على بطلان روايته؛ ما رواه حمدان بن على الوراق الذي هو أشهر من حمدان بن الهيثم، وأقدم؛ أنه سمع أحمد بن حنبل، وسأله رجل عن حديث خلق آدم على صورته على صورة آدم، فقال أحمد: فأين الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة الرحمن؛ ثم قال أحمد: وأي صورة لآدم قبل أن يخلق. وقيل: إن أبا عمر بن عبدالوهاب هجر أبا الشيخ لمكان حكاية حمدان، وقال: إن أردت أن أسلم عليك فأخرج من كتابك حكاية حمدان بن الهيثم. وقال الشيخ حمود التويجري رحمه الله: "هذا القول الذي ذكره حمدان بن الهيثم عن أحمد؛ لا شك أنه مفترى على أحمد بن حنبل، وجميع الروايات التي تقدم ذكرها عن أحمد رحمه الله تعالى في الرد على من أعاد الضمير في حديث الصورة على المضروب، وعلى من أعاده على آدم؛ كلها صريحة في الرد على من افترى على الإمام أحمد، ونسب إليه القول الذي قد نص على أنه من أقوال الجهمية".
[8]- قال ابن باز: "ثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق آدم على صورته)، وجاء في رواية أحمد وجماعة من أهل الحديث: (على صورة الرحمن) فالضمير في الحديث الأول يعود إلى الله؛ قال أهل العلم كأحمد رحمه الله، وإسحاق بن راهويه، وأئمة السلف: يجب أن نمره كما جاء على الوجه الذي يليق بالله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، ولا يلزم من ذلك أن تكون صورته سبحانه مثل صورة الآدمي؛ كما أنه لا يلزم من إثبات الوجه لله سبحانه واليد والأصابع والقدم والرجل والغضب وغير ذلك من صفاته أن تكون مثل صفات بني آدم؛ فهو سبحانه موصوف بما أخبر به عن نفسه أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه".
[9]- كقول المؤولة، ومن وافقهم: إن الضمير في قوله: (صورته) راجع إلى آدم، أو راجع على الرجل المضروب، أو غير ذلك من ضروب التأويل؛ كقول ابن منده: "اختلف أهل التأويل في معنى هذا الحديث، وتكلموا على ضروب شتى، والأحسن منها؛ أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام على صورته؛ معناه: لم يخلقه طفلاً ثم صبياً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً". والكلاباذي؛ حيث قال: "(خلق الله آدم على صورته) أي التي كان عليها يوم قبض؛ فلم يكن علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم مكسواً لحماً ثم طفلاً ثم بالغاً أشده ثم شيخاً؛ أي لم يخلق أطواراً، بل خلق على الصورة التي كان بها، ويقال: خلق على صورته؛ فكان في الأرض حين أهبط إليها على صورته التي كان في الجنة عليها؛ لم تتغير صورته التي أهبط فيها إلى الأرض، ولم ينتقص طوله، ولا سلب نوره". وابن حجر؛ حيث ذكر حديث: (خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً؛ فلما خلقه؛ قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس؛ فاستمع ما يحيونك؛ فإنها تحيتك وتحية ذريتك؛ فقال: السلام عليكم؛ فقالوا: السلام عليك ورحمة الله؛ فزادوه: ورحمة الله؛ فكل من يدخل الجنة على صورة آدم؛ فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن)، وقال: "وهذه الرواية تؤيد قول من قال: إن الضمير لآدم، والمعنى: أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها؛ لم ينتقل في النشأة أحوالاً، ولا تردد في الأرحام أطواراً كذريته؛ بل خلقه الله رجلاً كاملاً سوياً من أول ما نفخ فيه الروح". وهذه كلها من تأويلات الجهمية، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله؛ كما في رواية يعقوب بن بختان: (خلق الله آدم على صورته)؛ لا نفسره، ونص على إبطال هذه التأويلات.
[10]- أما أبو ثور؛ فقد مضى كلامه. وأما ابن خزيمة؛ فقد قال: "توهم بعض من لم يتحر العلم؛ أن قوله: (على صورته) يريد: صورة الرحمن عز وجل؛ عن أن يكون هذا معنى الخبر،؛بل معنى قوله: (خلق آدم على صورته) الهاء في هذا الموضع؛ كناية عن اسم المضروب والمشتوم؛ أراد صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب". فأنكر عليه العلماء تأويله للحديث، وقوله بأن الضمير يعود على غير الله تعالى؛ قال محمد بن عبدالملك الكرجي الشافعي رحمه الله: "فأما تأويل من لم يتابعه عليه الأئمة فغير مقبول، وإن صدر ذلك التأويل عن إمام معروف غير مجهول؛ نحو ما ينسب إلى أبي بكر محمد بن خزيمة تأويل الحديث (خلق الله آدم على صورته)؛ فإنه يفسر ذلك بذلك التأويل، ولم يتابعه عليه من قبله من أئمة الحديث؛ لما روينا عن أحمد ولم يتابعه أيضاً، من بعده؛ حتى رأيت في كتاب (الفقهاء) للعبادي الفقيه، أنه ذكر الفقهاء، وذكر عن كل واحد منهم مسألة تفرد بها؛ فذكر الإمام ابن خزيمة وأنه تفرد بتأويل هذا الحديث .. فهذا وأمثال ذلك من التأويل لا نقبله، ولا نلتفت إليه بل نوافق ونتابع ما اتفق الجمهور عليه. وأما أبو الشيخ؛ فليس هناك ما يدل صراحة على نسبة هذا القول إليه؛ بل غاية ما هنالك أنه وثق حمدان بن الهيثم الذي نسب إلى الإمام أحمد ما يخالف ما استفاض عنه رحمه الله من أن من لم يقل: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن؛ فهو جهمي. وأما غيرهم؛ فكابن منده محمد ابن إسحاق؛ حيث قال: "إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام؛ أن الله عز وجل خلق بني آدم على صورة آدم عليه السلام؛ فإذا شتم أحد من ولده، ومن يشبه وجهه؛ فقد شتم آدم عليه السلام؛ فنهى عن ذلك". وابن  حبان؛ حيث قال: "والهاء راجعة إلى آدم". والخطابي؛ حيث قال: "(خلق الله آدم على صورته) الهاء: وقعت كناية بين اسمين ظاهرين؛ فلم تصلح أن تُصرف إلى الله عز وجل لقيام الدليل على أنه ليس بذي صورة؛ سبحانه ليس كمثله شيء؛ فكان مرجعها إلى آدم عليه السلام". والبيهقي؛ فقد قال: "لا يجوز أن يكون الباري تعالى مصوَّراً، ولا أن يكون له صورة، لأن الصورة مختلفة والهيئات متضادة، ولا يجوز اتصافه بجميعها لتضادها، ولا يجوز اختصاصه ببعضها إلا بمخصص؛ لجواز جميعها على من جاز عليه بعضها؛ فإذا اختص ببعضها اقتضى مخصصاً خصصه به، وذلك يوجب أن يكون مخلوقاً، وهو محال؛ فاستحال أن يكون مصوَّراً، وهو الخالق البارئ المصور". ومن المعاصرين؛ محمد نسيب الرفاعي، والألباني؛ فقد أرجع الضمير إلى آدم؛ حيث قال: "الضمير لا يعود إلى الله، وإنما على آدم"، وقال في صحيح الأدب المفرد: "لقد أساء الشيخ التويجري إلى العقيدة والسنة الصحيحة معاً بتأليفه الذي أسماه عقيدة أهل الايمان في خلق آدم على صورة الرحمن؛ فإن العقيدة لا تثبت إلا بالحديث الصحيح". وقد رد عليه الشيخ حمود التويجري؛ قال رحمه الله: "لم يذكر عن أحد من أكابر العلماء النجديين أنه أنكر شيئاً مما قرره الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبا بطين في جوابه عن حديث الصورة؛ لا من كان منهم معاصراً للشيخ، ولا من كان بعد زمانه إلى زماننا؛ بل إنهم كانوا متفقين على إثبات الحديث، وإمراره كما جاء؛ وإنما ظهر الخلاف في زماننا من بعض الوافدين على المملكة العربية السعودية من البلاد التي قد فشت فيها البدع، وظهرت فيها أقوال أهل الكلام الباطل في تأويل آيات الصفات وأحاديث الصفات وصرفها عن ظاهرها، وقد حصل من بعضهم قصور شديد، وامتعاض قبيح من بيان مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تابعهم بإحسان في حديث الصورة، وأنهم متفقون على الإيمان به، وإمراره كما جاء من غير تأويل؛ مع اعتقاد أن الله ليس كمثله شيء، وقد أكثر المشار إليه من الشغب والصخب، واللجاج والسعي بالفساد؛ لينصر ما هو مفتون به من إعادة الضمير في حديث الصورة إلى غير الله، وقد نص الإمام أحمد على أن إعادة الضمير فيه إلى آدم؛ هو قول الجهمية". وممن رد عليه أيضاً الشيخ عبدالله بن محمد الدويش؛ حيث قال رحمه الله: "ولما تأملته - يعني كلام الألباني - وجدته عارياً عن التحقيق والبرهان؛ بعيداً عن قول أهل السنة والجماعة؛ موافقاً لقول أهل الضلال الجهمية؛ فنبهت عليه نصحاً للأمة، وخوفاً من الاغترار به، وجعلته فصولاً؛ الفصل الأول: في رد تضعيفه للحديث؛ الفصل الثاني في رد تأويله للحديث؛ الفصل الثالث: في أن هذا الحديث موافق لقول أهل السنة والجماعة، وتأويله هو قول أهل البدع والضلال؛ الفصل الرابع: في بيان ما في كلامه من الأخطاء". وأخطأ مقبل الوادعي؛ في قوله: "لخلاف في حديث الصورة؛ الظاهر أنه يعد من اختلاف الأفهام الذي لا إنكار فيه". وأخطأ كذلك ربيع المدخلي؛ حيث قال لما سئل عن حديث الصورة: "لا تسألوا عن هذا يا أهل السنة؛ اتركوا هذه الأشياء .. هذا فيه شيء من الخلاف بين بعض العلماء اتركوها، اتركوها بارك الله فيكم". وهذا كلام باطل قطعاً. وممن أبعد وأغرب؛ حمد بن عبدالمحسن التويجري؛ حيث ذكر في بحثه الموسوم بـ (المسائل العقدية التي تعددت فيها آراء أهل السنة والجماعة)؛ والذي نشرته جامعة الملك سعود، عمادة البحث العلمي، مركز بحوث كلية التربية؛ هذه المسألة على أنها من المسائل التي اختلف فيها أهل السنة والجماعة، وهذا باطل قطعاً؛ فإن هذه الأقوال المنحرفة والمخالفة لما اتفق عليه سلف الأمة، والتي نسبها الباحث إلى أهل السنة واعتبرها من الآراء المقبولة - وإن اعتبرها مرجوحة -  ما انتشرت إلا بسبب انتشار الجهمية، كما قال ابن تيمية: لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله.
[11]- أي: لا يبلغ معشاره في العلم والحفظ.

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

كافة الحقوق محفوظة 2012 © site.com مدونة إسم المدونة