منهج السلف
الصالح في التعامل مع أخطاء العلماء - 3 -
هشام بن عمار
السلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
هشام بن عمار بن نصير بن ميسرة بن أبان؛ الإمام الحافظ العلامة المقرئ عالم أهل الشام؛ أبو
الوليد السلمي، ويقال: الظفري؛ شيخ أهل دمشق، ومفتيهم، وخطيبهم، ومحدثهم؛ ولد سنة ثلاث وخمسين ومئة،وأكبر
شيوخه مالك، وحدث عنه خلق كثير، وجمع غفير؛ رحلوا إليه في القراءة، والحديث؛ كان
فصيحاً بليغاً مفوهاً؛ صاحب بديهة؛ كثير العلم، وكانت فيه دعابة؛ أخرج له البخاري،
وأصحاب السنن الأربعة. ([1])
روى عن: مالك بن أنس، وإسماعيل بن عياش، وسفيان
بن عيينة، وشهاب بن خراش، وعيسى بن يونس، وصدقة بن خالد، والجراح بن مليح، وعبدالرحمن
بنزيد بن أسلم، وسويد بن عبدالعزيز، وإبراهيم بن أعين، وأيوب بن تميم المقرئ، والدراوردي،
ومؤمل بن إسماعيل، والهيثم بن عمران، ووزير بن صبيح، وابن سميع، والوليد بن مسلم، ويحيى
بن حمزة الحضرمي، والحسن بن يحيى، وسليمان بن عتبة، ويحيى بن سليم، وعبدالله بن
رجاء، وحفص بن سليمان المقرئ، والهيثم بن حميد، وعبدالعزيز بن أبي حازم، وغيرهم.
روى عنه: البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن
ماجة، وبقي بن مخلد، ودحيم، وصالح جزرة، وجعفر الفريابي، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو
زرعة الرازي، والفضل بن العباس الرازي الحافظ المعروف بفضلك، وأبو عبيد القاسم بن
سلام ومات قبله، وأبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي ومات قبله،
وأبو بكر محمد بن سليمان الباغندي، ومحمد بن وضاح القرطبي، ومحمد بن يحيى الذهلي، والحسن
بن محمد بن بكار، وابن أبي عاصم، والوليد بن مسلم وهو من شيوخه، ويحيى بن معين
ومات قبله، وعبدان، وأبي عمران موسى بن سهل الجوني، ويعقوب بن سفيان الفسوي، وغيرهم.
مات سنة خمس وأربعين ومئتين، وله اثنتان وتسعون
سنة.
من أقوال أهل العلم فيه:
1-
قال أحمد بن حنبل رحمه الله: "طياش
خفيف".
2-
وقال يحيى بن معين رحمه الله:"ثقة".
3-
وقال: "هشام بن عمار، وليس بالكذوب".
5-
وقال: "هشام بن عمار كيِّس".
6-
وقال أبو زرعة الرازي رحمه الله:"من
فاته هشام بن عمار؛ يحتاج أن ينزل في عشرة آلاف حديث".
7-
وقال أبو حاتم الرازي رحمه الله:
"صدوق؛ لما كبر تغير، وكل ما دفع إليه قرأه، وكل ما لقن تلقن، وكان قديماً أصح؛
كان يقرأ من كتابه".
8-
وقال أبو داود رحمه الله: "هشام حدث
بأرجح من أربع مئة حديث ليس لها أصل؛ كان فضلك يدور على أحاديث أبي مسهر وغيره؛ يلقنها
هشاماً، ويقول هشام: حدثني؛ قد روي؛ فلا أبالي من حمل الخطأ".
9-
وقال: "كان فضلك يدور بدمشق على أحاديث
أبي مسهر والشيوخ؛ يلقنها هشام بن عمار فيحدثه بها، وكنت أخشى أن يفتق في الإسلام فتقاً".
10- وقال النسائي رحمه الله: "لا بأس به".
11- وقال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله: "إذا حدثت في بلد فيه مثل هشام؛
يجب للحيتي أن تحلق".
12- وقال أبو بكر أحمد بن المعلى رحمه الله: "رأيت هشام بن عمار في النوم،
والمشايخ متوافرون؛ سليمان بن عبدالرحمن وغيره، وهو يكنس المسجد؛ فماتوا وبقي هو آخرهم".
13- وقال معاوية بن أوس رحمه الله: "رأيت هشام بن عمار إذا مشى أطرق
إلى الأرض؛ لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله عز وجل".
14- وقال محمد بن خريم العقيلي رحمه الله: "سمعت هشام بن عمار يخطب:
قولوا الحق ينزلكم الحق منازل أهل الحق؛ يوم لا يقضى إلا بالحق".
15- وقال صالح بن محمد جزرة رحمه الله: "سمعت هشام بن عمار؛ يقول: دخلت
على مالك؛ فقلت له: حدثني؛ فقال: اقرأ؛ فقلت: لا؛ بل حدثني؛ فقال: اقرأ؛ فلما أكثرت
عليه؛ قال: يا غلام؛ تعال اذهب بهذا فاضربه خمسة عشر؛ فذهب بي فضربني خمس عشرة درة؛
ثم جاء بي إليه؛ فقال: قد ضربته؛ فقلت له: لم ظلمتني؟ ضربني خمس عشرة درة بغير جرم؛
لا أجعلك في حل؛ فقال مالك: فما كفارته؟ قلت: كفارته أن تحدثني بخمسة عشر حديثاً؛ قال:
فحدثني بخمسة عشر حديثاً؛ فقلت له: زد من الضرب، وزد في الحديث؛ فضحك مالك، وقال: اذهب".
16- وقال: "كنت شارطت هشاماً أن أقرأ عليه كل ليلة بانتخابي ورقة؛ فكنت
آخذ الكاغد الفرعوني، وأكتب مقرمطاً ([3])
فكان إذا جاء الليل أقرأ عليه إلى أن يصلي العتمة؛ فإذا صلى العتمة يقعد، وأقرأ عليه؛
فيقول: يا صالح ليس هذه ورقة؛ هذه شقة".
17- وقال محمد بن عوف رحمه الله: "أتينا هشام بن عمار في مزرعة له، وهو
قاعد على مَوْرج له، وقد انكشفت سوءته؛ فقلنا: يا شيخ؛ غطِّ عليك؛ فقال: رأيتموه! لن
ترمد عينكم أبداً؛ يعني: يمزح".
18- وقال عبدان رحمه الله: "كنا لا نصلي خلف هدبة بن خالدمن طول صلاته؛
يسبح في الركوع والسجود نيفاً وثلاثين تسبيحة، وكان من أشبه خلق الله بهشام بن عمار؛
لحيته ووجهه وكل شيء؛ حتى في صلاته".
19-
وقال: "ما كان في الدنيا؛ مثل هشام بن
عمار".
20-
وروى عنه؛ قال: "ما أعدت خطبة منذ عشرين سنة.
قال عبدان: ما كان في الدنيا مثله".
22-
وقال: "جاء رجل من قرية الحُرْجُلَّة؛ يطلب
لعرس أخيه لعَّابين؛ فوجد الوالي قد منعهم؛ فجاء يطلب مغبرين - يعني: مزمزمين يغبرون
بالقضيب - قال: فلقيه صوفي ماجن؛ فأرشده إلى ابن ذكوان، وهو خلف المنبر؛ فجاءه وقال:
إن السلطان قد منع المخنثين؛ فقال: أحسن والله؛ فقال: فنعمل العرس بالمغبرين، وقد دللت
عليك؛ فقال: لنا رفيق؛ فإن جاء جئت، وهو ذاك، وأشار إلى هشام بن عمار؛ فقام الرجل إليه،
وهو عند المحراب متكئ؛ فقال الرجل لهشام: أبو من أنت؟ فرد عليه رداً ضعيفاً؛ فقال:
أبو الوليد؛ فقال: يا أبا الوليد؛ أنا من الحرجلة؛ قال: ما أبالي من أين كنت؛ قال:
إن أخي يعمل عرسه؛ فقال: فماذا أصنع؟ قال: قد أرسلني أطلب له المخنثين؛ قال: لا بارك
الله فيهم ولافيك؛ قال: وقد طلب المغبرين؛ فأرشدت إليك؛ قال: ومن بعثك؟ قال: ها ذاك
الرجل؛ فرفع هشام رجله، ورفسه، وقال: قم؛ وصاح بابن ذكوان: أقد تفرغت لهذا! قال: إي
والله؛ أنت رئيسنا؛ لو مضيت مضينا".
24- وقال: باع أبي بيتا له بعشرين ديناراً، وجهزني للحج، فلما صرت إلى المدينة، أتيت
مجلس مالك بن أنس، ومعي مسائل أريد أن أسأله عنها، فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك
وغلمان قيام والناس يسألونه وهو يجيبهم، فلما انقضى المجلس، قال لي بعض أصحاب
الحديث: سل عن ما معك، فقلت له: يا أبا عبدالله ما تقول في كذا وكذا؟ فقال: حصلنا
على الصبيان، يا غلام احمله! فحملني كما يحمل الصبي وأنا يومئذ غلام مدرك؛ فضربني
بدرة مثل درة المعلمين سبع عشرة درة، فوقفت أبكي، فقال لي مالك بن أنس: ما يبكيك؟
أوجعتك هذه، يعني الدرة؟ قلت: إن أبي باع منزله، ووجه بي أتشرف بك وبالسماع منك، فضربتني،
فقال: اكتب؛ فحدثني سبعة عشر حديثاً، وسألته عما كان معي من المسائل فأجابني".
25- وقال أحمد بن محمد الأصبهاني المقرئ رحمه الله: "لما توفي أيوب بن تميم في سنة بضع وتسعين ومئة؛ رجعت
الإمامة حينئذ إلى رجلين: أحدهما مشتهر بالقراءة والضبط، تلاوة ورواية، وهو
عبدالله بن ذكوان؛ فأتم الناس به بعد أيوب، والآخر: مشتهر بالنقل والفصاحة
والرواية والعلم والدراية وهو هشام بن عمار، وكان خطيباً بدمشق، وقد رزق كبر السن،
وصحة القعل والرأي، فارتحل الناس إليه في نقل القراءة وأخبار الرسول صلى الله عليه
وسلم، نقل القراءة عنه أبو عبيد القاسم بن سلام قبل وفاة هشام بنحو من أربعين سنة،
وحدث عنه هو والوليد بن مسلم، ومحمد بن شعيب بن شابور، وكان عبدالله بن ذكوان
يفضله، ويرى مكانه لكبر سنه، لأنه ولد قبل عبدالله بعشرين سنة في سنة ثلاث وخمسين
ومئة، فأخذ القراءة عن أيوب بن تميم تلاوة؛ كما أخذها ابن ذكوان وزاد عليه بأخذه
القراءة عن الوليد بن مسلم، وسويد بن عبدالعزيز، وصدقة بن هشام، وعراك بن خالد،
وصدقة بن يحيى، ومدرك بن أبي سعد، وعمر بن عبدالواحد، وكل هؤلاء أئمة قرأوا على
يحيى بن الحارث، فلما توفي عبدالله بن ذكوان في سنة اثنتين وأربعين ومئتين اجتمع
الناس على إمامة هشام بن عمار في القراءة والنقل، وتوفي بعده بثلاث سنين؛ في سنة
خمس وأربعين ومئتين".
26- وقال عبدالله
بن محمد بن سيار رحمه الله: "كان هشام بن عمار يلقن، وكان يلقن كل شيء؛ ما
كان من حديثه. وكان يقول: أنا قد أخرجت هذه الأحاديث صحاحاً. وقال الله: (فمن بدله
بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه) وكان يأخذ على كل ورقتين درهماً،
ويشارط، ويقول: إن كان الخط دقيقاً فليس بيني وبين الدقيق عمل. فقلت له: إن كنت
تحفظ فحدث، وان كنت لا تحفظ فلا تلقن ما تلقن. فاختلط من ذلك، وقال: أنا أعرف هذه
الأحاديث. ثم قال لي بعد ساعة: إن كنت تشتهي أن تعلم فأدخل إسناداً في شيء. فتفقدت
الأسانيد التي فيها قليل اضطراب، فجعلت أسأله عنها، فكان يمر فيها يعرفها".
27- وقال الدارقطني رحمه الله: "صدوق كبير المحل".
28- وقال ابن حبان: "كانت أذناه لاصقتين برأسه، وكان يخضب بالحناء".
29- وقال العجلي رحمه الله: "ثقة".
30- وقال في موضع آخر: "صدوق".
31- وقال ابن عساكر:"خطيب دمشق ومقرئ أهلها؛ أحد المكثرين الثقات".
32- وقال: "كان هشام بن عمار؛ ثقة صدوقاً كبير المحل، وكان يأخذ على
الحديث، ولا يحدث ما لم يأخذ".
33- وقال الذهبي: "الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام خطيب دمشق ومقرئها
ومحدثها وعالمها ومفتيها؛ صدوق مكثر؛ له ما ينكر".
34- وقال: "كان طلابة للعلم؛ واسع الرواية من أوعية العلم؛ عظيم القدر؛
بعيد الصيت؛ وغيره أتقن منه وأعدل؛ رحمه الله تعالى".
35- وقال: "كان هشام مشتهراً بالنقل والفصاحة والعلم والرواية والدراية؛
رزق كبر السن وصحة العقل والرأي؛ فارتحل الناس إليه في القراءة والحديث".
36- وقال:"لما مات ابن ذكوان؛ أجمع الناس على إمامة عمار في القراءة
والنقل".
37- وقال ابن حجر: "صدوق مقرئ؛ كبر فصار يتلقن؛ فحديثه القديم أصح",
38- وقال: "قال مسلمة: تُكلم فيه، وهو جائز الحديث صدوق، وقال القزاز:
آفته أنه ربما لقن أحاديث فتلقنها".
المآخذ
التي أخذها أهل العلم على هشام:
أخذ عليه مأخذان:
الأول: أنه كان
يأخذ الأجرة على التحديث:
قال محمد بن مسلم بن وارة رحمه الله: "عزمت
زماناً أن أمسك عن حديث هشام بن عمار؛ لأنه كان يبيع الحديث".
وقال أبو أحمد بن عدي رحمه الله: "سمعت قسطنطين
بن عبدالله الرومي مولى المعتمد؛ يقول: حضرت مجلس هشام بن عمار؛ فقال المستملي: من
ذكرت؟ فقال: حدثنا بعض مشايخنا؛ ثم نعس. ثم قال: من ذكرت؟ فنعس؛ فقال المستملي: لا
تنتفعوا به؛ فجمعوا له شيئاً فأعطوه؛ فكان بعد ذلك؛ يملي عليهم حتى يملوا".
وقال صالح بن محمد جزرة رحمه الله: "كان
هشام بن عمار يأخذ على الحديث ولا يحدث ما لم يأخذ، فدخلت عليه يوماً فقال: يا أبا
علي حدثني بحديث لعلي بن الجعد، فقلت: حدثنا علي بن الجعد، حدثنا أبو جعفر الرازي
عن الربيع بن أنس عن أبي العالية؛ قال: علم مجاناً، فقال: تعرضت بي يا أبا علي؛
فقلت: ما تعرضت بك بل قصدتك".
قال الذهبي: "العجب من هذا الإمام
مع جلالته؛ كيف فعل هذا، ولم يكن محتاجاً، وله اجتهاده".
قلت: أخذ الأجرة على الرواية رخص فيه أقوام؛
منهم أبو نعيم الفضل بن دكين، وعلى بن عبدالعزيز البغوي، وعفان بن مسلم، ويعقوب بن
إبراهيم الدورقي، واحتجوا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: (إن أحق
ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)؛ قالوا: فكما تؤخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ تؤخذ
كذلك على الحديث؛ لا سيما عند الفقر والحاجة.
قال أبو نعيم رحمه الله: "يلومونني على الأخذ،
وفي بيتي ثلاثة عشر نفساً، وما فيه رغيف".
وشدد فيه أقوام؛ كشعبة بن الحجاج، وأحمد بن
حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي حاتم الرازي؛ حيث كانوا يمنعون من ذلك، ويعدونه من
خوارم المروءة.
قال الخطيب: "وإنما منعوا من ذلك تنزيهاً
للراوي عن سوء الظن به؛ فإن بعض من يأخذ الأجرة على الرواية عثر على تزيده، وادعائه
ما لم يسمع لأجل ما كان يُعطى، ومن هنا بالغ شعبة، وقال: لا تكتبوا عن الفقراء
شيئاً فإنهم يكذبون".
وسئل الإمام أحمد رحمه الله: أيكتب عمن يبيع
الحديث؟ فقال: "لا، ولا كرامة".
والصواب إن شاء الله؛ أنه لا بأس على من فرغ
نفسه ووقته للتحديث، وليس لديه ما يقوته وأولاده؛ أن يشترط شيئاً، وإن كان الأولى
ترك ذلك.
وقد وثق أحمد والأئمة؛ أبا نعيم، وعفان، ويعقوب
الدورقي، وغيرهم ممن كانوا يأخذون الأجر على التحديث؛ فدل على أن المنع ها هنا
للكراهة؛ لذا قال الذهبي: "العجب من هذا الإمام مع جلالته؛ كيف فعل هذا، ولم
يكن محتاجاً"؛ فعلق الأخذ على الحاجة، وهشام لم يكن محتاجاً؛ فمن ها هنا نقم
أهل العلم عليه هذه المسألة.
الثاني: قوله: ألفاظ
القرآن مخلوقة:
قال أبو بكر المروذي رحمه الله: "ورد علينا
كتاب من دمشق: سل لنا أبا عبدالله؛ فإن هشام بن عمار؛ قال: لفظ جبريل ومحمد عليهما
السلام بالقرآن مخلوق؛ فسألت أباعبدالله؛ فقال: أعرفه طياشاً قاتله الله؛ لم يجتر الكرابيسي
أن يذكر جبريل، ولا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ هذا قد تجهم، وفي الكتاب؛ أنه قال في
خطبته: الحمد لله الذي تجلى لخلقه بخلقه؛ فسألت أبا عبدالله؛ فقال: هذا جهمي؛ الله
تجلى للجبال! يقول: هو تجلى لخلقه بخلقه؛ إن صلوا خلفه؛ فليعيدوا الصلاة".
قال الذهبي: "لقول هشام اعتبار ومساغ،
ولكن لا ينبغي إطلاق هذه العبارة المجملة، وقد سقت أخبار أبي الوليد رحمه الله في
تاريخي الكبير وفي طبقات القراء أتيت فيها بفوائد، وله جلالة في الإسلام، وما زال
العلماء الأقران يتكلم بعضهم في بعض بحسب اجتهادهم، وكل أحد يؤخذ منقوله ويترك؛
إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال: "أما قول الإمام فيه: طياش؛ فلأنه
بلغه عنه أنه قال في خطبته: (الحمد لله الذي تجلى لخلقه بخلقه)؛ فهذه الكلمة لا
ينبغي إطلاقها، وإن كان لها معنى صحيح لكن يحتج بها الحلولي والاتحادي، وما بلغنا
أنه سبحانه وتعالى تجلى لشيء إلا لجبل الطور؛ فصيره دكاً، وفي تجليه لنبينا صلى
الله عليه وسلم اختلاف أنكرته عائشة، وأثبته ابن عباس؛ وبكل حال كلام الأقران
بعضهم في بعض يُحتمل، وطيه أولى من بثه إلا أن يتفق المتعاصرون على جرح شيخ فيعتمد
قولهم، والله أعلم".
وقال: "كان الإمام أحمد يسد الكلام في هذا الباب ولا يجوزه، وكذلك كان يبدع من يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ويضلل من يقول: لفظي بالقرآن قديم، ويكفر منيقول: القرآن مخلوق؛ بل يقول: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وينهى عن الخوض في مسألة اللفظ، ولا ريب أن تلفظنا بالقرآن من كسبنا، والقرآن الملفوظ المتلو كلام الله تعالى غير مخلوق، والتلاوة والتلفظ والكتابة والصوت به من أفعالنا، وهي مخلوقة".
وقال: "كان الإمام أحمد يسد الكلام في هذا الباب ولا يجوزه، وكذلك كان يبدع من يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ويضلل من يقول: لفظي بالقرآن قديم، ويكفر منيقول: القرآن مخلوق؛ بل يقول: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وينهى عن الخوض في مسألة اللفظ، ولا ريب أن تلفظنا بالقرآن من كسبنا، والقرآن الملفوظ المتلو كلام الله تعالى غير مخلوق، والتلاوة والتلفظ والكتابة والصوت به من أفعالنا، وهي مخلوقة".
قلت: ليس كلما تكلم القرن في قرنه؛ قلنا: كلام
أقران يطوى ولا يروى؛ بل ينظر في قرائن الحال، ودلالة الأحوال؛ فإن كان الكلام قد خرج
مخرج الحمية والعصبية؛ فحينئذ ساغ أن يقال: كلام أقران لا يلتفت إليه؛ كالذي جرى
بين مالك، ومحمد بن إسحاق، وبين النسائي، وأحمد بن صالح، وغيرهم، وفي هذا يقول
الذهبي: "كلام الأقران بعضهم في بعض؛ لا يعبأ به؛ لا
سيما إذا لاح لك أنه لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد".
أما إن خرج بدافع الغيرة على الدين، والذب على السنة؛
فهو معتبر ولا شك، وإن صدر من قرن في قرنه؛ كهذا الكلام الذي صدر من الإمام أحمد
في حق هشام؛ فليس هو من كلام الأقران الذي يطوى ولا يروى؛ بل هو نقد معتبر سببه
مخالفة هشام بن عمار رحمه الله؛ لطريقة السلف الذين كانوا
"يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع
والعقل، ويراعون أيضا الألفاظ الشرعية؛ فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً".
فهشام أخطأ ولا شك، وقد قابل الإمام أحمد هذا
الخطأ؛ بما يتناسب مع حجم الخطأ، ومكانة هشام عند الناس؛ فلم يبدعه تبديعاً
صريحاً؛ لأن الخطأ لا يرقى لذلك، وفي نفس الوقت لم يسكت عنه؛ فيُغتر بكلامه؛ فأنكر
عليه، وبالغ في ذلك؛ إذ كان إمام الناس في زمانه؛ فضلاً عن أن فتنة القول بخلق
القرآن كانت قد خمدت أو كادت؛ فخشي الإمام أحمد أن تثار مرة أخرى، ويتعلق الجهمية بكلام
هشام؛ فمن ثم؛ رأى سد هذا الباب.
وقد أقر الذهبي بخطأ هشام؛ فقال: "لا ينبغي
إطلاق هذه العبارة المجملة". وقال: "هذه الكلمة لا ينبغي إطلاقها، وإن
كان لها معنى صحيح؛ لكن يحتج بها الحلولي، والاتحادي". وقال: "كان
الإمام أحمد يسد الكلام في هذا الباب، ولا يجوزه".
على أنه ينبغي التنبيه على أن هشاماً - رغم ما
نقل عنه - لم يقل قط: إن القرآن مخلوق، أو إن لفظه بالقرآن مخلوق؛ فغاية ما في
الأمر؛ أنه أساء التعبير فحسب.
قال أبو منصور الهروي البزار رحمه الله: "سمعت
هشام بن عمار: وبلغه أن ناساً ينسبونه إلى اللفظية، فغضب، وخطب خطبة أثنى فيها على
الله تعالى، ووصفه بالآيات الست من أول الحديد؛ وتلاها علينا، وذكر من عظمة الله
ما عجب منه السامعون، من حسنه، ثم ذكر القرآن فقال: القرآن كلام الله، وليس
بمخلوقٍ، ومن قال: القرآن - أو قدرة الله أو عزة الله - مخلوق؛ فهو من
الكافرين.فقيل له: ما تقول فيمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق؟ فقال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) هذا الذي قرأت كلام الله،
فقيل له: تحدث الناس ببغداد أنك كتبت إلى الكرابيسي! فقال: ومن الكرابيسي؟ ما
رأيته قط، ولا أدري من هو، والله ما كتبت إليه".
الفوائد:
1-
أن الإمام أحمد شنع على هشام بن عمار؛ لمجرد خطأ
في التعبير؛ غير ملتفت لمكانته وجلالته؛ كما هو صنيع بعض أهل العلم اليوم؛ الذين
ينظرون إلى القائل؛ لا إلى القول.
2-
أنهم عابوا عليه؛ أخذه الأجرة على الحديث؛ فلم
يتغافلوا عن هذا الأمر الهين؛ بحجة أن المسألة خلافية؛ أو لأنه عالم كبير فيُغتفر
له ما لا يُغتفر لغيره؛ أو لأن أتباعه كثر؛ أو لأنه لا يثني على أهل البدع
والأهواء؛ أو لأنه يظهر السلفية ويدعو لها وينتسب إلى رؤوسها؛ أو لأنه على ثغرة؛ أو
لأنه معهم في جرح فلان وفلان؛ إلى آخر ما هنالك من ترهاتهم.
3-
أن من سكت منهم؛ لم يعب على من انتقده؛ فضلاً
عن رميه بتنقص العلماء، وازدرائهم، وعدم مراعاة حرمتهم، ولم يقل أحد منهم: أقلوا
عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم، أو سدوا المكان الذي سدوا؛ إلى آخر ما هنالك مما نسمعه؛
حتى رأينا من يدافع عمن صدرت منه مخالفات صريحة لمنهج السلف، وفي الأصول؛ فالله
المستعان.
4-
أن ما نستهين به اليوم، ومن ثم أصبح الكلام فيه
تشدداً وحماقة؛ كان عندهم مما يُتوقف أمامه، ويُرد على المخالف بسببه.
5-
أن ترك الرد على من
أخطأ؛ بحجة الأدب مع أهل العلم؛ شنشنة صوفية قبيحة مخالفة لمنهج السلف الصالح.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
وسلم
[1]- قال الذهبي: "حدث عنه من أصحاب الكتب؛ البخاري، وأبو داود،
والنسائي، وابن ماجه، ولم يخرج له الترمذي سوى حديث سوق الجنة رواه عن محمد بن إسماعيل
البخاري عنه، ولم يلقه مسلم، ولا ارتحل إلى الشام، ووهم من زعم أنه دخل
دمشق".
[2]- هو يزيد بن عبدالرحمن بن أبي مالك قاضي دمشق؛ أرسل عن أبي أيوب
الأنصاري، وروى عن واثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك، وجبير بن نفير، وسعيد
بن المسيب، وأبي إدريس الخولاني، وسالم مولى ابن عمر، وخالد بن
معدان، وسليمان بن يسار، وعدة.
روى عنه: الأوزاعي، وسعيد بن عبدالعزيز، وآخرون. وثقه أبو حاتم، والدارقطني،
والبرقاني، وابن حبان.
[5] - قال الذهبي: "حج هشام، وسمع مالكاً قبل أن يوجد ابن
ذكوان".