منهج السلف - 4 - علي بن عبدالله بن المديني

منهج السلف الصالح في التعامل مع أخطاء العلماء - 4 -
علي بن عبدالله بن المديني
بسم الله الرحمن الرحيم
أبو الحسن علي بن عبدالله بن جعفر بن نجيح بن بكر بن سعد؛المعروف بابن المديني؛ أحد الأئمة الأعلام؛ الحافظ الناقد الجهبذ؛ أحد صيارفة الحديث، والمبرز في هذا الشأن.
روى عن: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وجعفر بن سليمان، وعبدالعزيز الدراوردي، ومعتمر بن سليمان، وهشيم بن بشير، وسفيان بن عيينة، وجرير بن عبدالحميد، والوليد بن مسلم، وبشر بن المفضل، ويحيى بن سعيد القطان، وعبدالرحمن بن مهدي، ويزيد بن زريع، وإسماعيل بن علية، وخالد بن الحارث، وغندر، وعبدالأعلى بن عبدالأعلى، ومعاذ بن معاذ، وعبدالوهاب الثقفي، وحرمي ابن عمارة، وأبي داود الطيالسي،وأزهر بن سعد السمان، وبشار بن عيسى، وعبدالله بن وهب، وعبدالله بن يزيد المقرئ، وعبدالوارث بن سعيد، وأبي نعيم الفضل بن دكين، ومحمد بن عبدالله الأنصاري، وأبي معاوية الضرير، وهشام بن يوسف، وعبدالرزاق بن همام، وأبي عاصم النبيل، وغيرهم.
روى عنه: أحمد بن حنبل، وابنه صالح، وابن عمه حنبل بن إسحاق، والحسن بن محمد الزعفراني، وأحمد بن منصور الرمادي، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وأبو قلابة الرقاشي، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأبو يحيى صاعقة، والفضل بن سهل الأعرج، ومحمد بن إسحاق الصاغاني، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأبو حاتم الرازي، وعلي بن أحمد بن النضر الأودي، وأبو شعيب الحراني، ومحمد بن أحمد بن البراء، وأبو علي المعمري، وعباس بن عبدالعظيم العنبري، ومحمد بن عثمان بن أبى شيبة، ويعقوب بن شيبة، وأبو يعلى الموصلي، وأبو داود السجستاني، وإبراهيم الجوزجاني، والحسن بن على الخلال، وغيرهم.
من أقوال أهل العلم فيه:
1-            قال سفيان بن عيينة - وهو أحد شيوخه-: "يلومونني على حب علي، والله لقد كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني".
2-            "وكان يسميه حية الوادي، وكان إذا سُئل عن شيء؛ يقول: لو كان حية الوادي".
3-            وقال: "إني لأرغب بنفسي عن مجالستكم منذ ستين سنة، ولولا علي بن المديني ما جلست".
4-            وقال الإمام أحمد: "كان أعلمنا بالرجال يحيى بن معين، وأحفظنا للأبواب سليمان الشاذكوني، وكان علي بن المديني أحفظنا للطوال".
5-            وقال يحيى بن سعيد القطان: "نحن نستفيد من ابن المديني؛ أكثر مما يستفيد منا".
6-            وقال: "يلومونني في حب علي ابن المديني، وأنا أتعلم منه".
7-            وقال عبدالرحمن بن مهدى: "علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة بحديث ابن عيينة".
8-            وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: "انتهى العلم إلى أربعة: أبو بكر بن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له".
9-            وقال:"ربانيو الحديث أربعة؛ فأعلمهم بالحلال والحرام: أحمد بن حنبل، وأحسنهم سياقاً للحديث، وأداء له: علي بن المديني، وأحسنهم وضعاً لكتاب: ابن أبي شيبة، وأعلمهم بصحيح الحديث وسقيمه: يحيى ابن معين".
10-      وقال يحيى بن معين: "كان علي بن المديني إذا قدم علينا أظهر السنة؛ وإذا ورد إلى البصرة أظهر التشيع". ([1])
11-      وبلغه أن علياً روى حديث بسر بن راعي العير؛ فقال: بشر بن راعي العنز؛ فحلف ألا يروي حديثاً بعد ما غلط علي بن المديني؛ فلم يحدث حتى مات".
12-      وقال:"علي من اهل الصدق".
13-      وقال البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد قط؛ إلا عند علي بن المديني".
14-      وقال: "كان أعلم أهل عصره".
15-      وقال أبو داود: "علي بن المديني خير من عشرة آلاف مثل الشاذكوني".
16-      وقيل له: "أحمد أعلم؛ أم علي؟ قال: علي أعلم باختلاف الحديث من أحمد".
17-      وقال النسائي: "كأن الله خلق علي بن المديني لهذا الشأن".
18-      وقال: "ثقة مأمون أحد الأئمة في الحديث".
19-      وقال: "خلق للحديث".
20-      وقال حفص بن محبوب: "كنت عند ابن عيينة، ومعنا علي بن المديني، وابن الشاذكوني؛ فلما قام ابن المديني؛ قال سفيان: إذا قامت الخيل؛ لم نجلس مع الرجالة".
21-      وقال محمد بن يحيى: "رأيت لعلي بن المديني كتاباً على ظهره مكتوب: المئة والنيف والستون من علل الحديث".
22-      وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: "سألت أبي؛ عن أحمد بن حنبل، وعلي ابن المديني؛ أيهما كان أحفظ؟ قال: كانا في الحفظ متقاربين، وكان أحمد أفقه، وكان علي أفهم بالحديث".
23-      وقال: "سألت أبا زرعة عن علي؛ فقال: لايرتاب في صدقه".
24-      وقال جعفر بن درستويه: "ما رأيت علي بن المديني يروي من كتاب قط؛ إلا أن يسأل أن يروي ألفاظ سفيان بن عيينة على وجهه كما سمع؛ قال: وكنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر؛ اليوم لمجلس غد؛ فنقعد طول الليل مخافة أن لا يلحق من الغد موضعاً يسمع فيه، ورأيت شيخا في المجلس يبول في طيلسانه، ويدرج الطيلسان حتى فرغ مخافة أن يؤخذ مكانه إن قام للبول".
25-      وقال: "سمعت محمد بن مسلم، وسئل عن علي ابن المديني، ويحيى بن معين؛ أيهم كان أحفظ؟قال: كان علي أسرد، وأتقن".
26-      وقال عباس العنبري: "كانوا يكتبون قيام ابن المديني، وقعوده، ولباسه، وكل شيء يقول، ويفعل؛ أو نحو هذا، وكان ابن المديني إذا قدم بغداد تصدر بالحلقة، وجاء أحمد، ويحيى، وخلف،والمعيطي، والناس؛ يناظرون؛ فإذا اختلفوا في شيء؛ تكلم فيه علي".
27-      وقال: "كان علي بن المديني بلغ ما لو قضي له أن يتم على ذاك؛ لعله كان تقدم على الحسن البصري".
28-      وقال: "كان يحيى بن سعيد القطان؛ ربما قال: لا أحدث شهراً، ولا أحدث كذا؛ فذكر رجلمن أصحاب الحديث نسيته؛ قال: بلغني أن يحيى حدثه - يعني لابن المديني - قبل انقضاء المدة التي كان ذكرها؛ قال: فأتيت يحيى؛ فقلت له إنه بلغني أنك حدثت علياً، ولم تنقض المدة التي ذكرت؟ فقال: إني كلما قلت: لا أحدث إلا كذا؛ استثنيت علياً، ونحن نستفيد من علي أكثر مما يستفيد منا".
29-      وقال محمد بن سهل:"سمعت على ابن المديني؛ يقول: دخلت على أمير المؤمنين؛ فقال لي: أتعرف حديثا مسنداً فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيقتل؛ فقلت: نعم؛ فذكرت له حديث عبدالرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل عن عروة بن محمد عن رجل من بلقين؛ قال: كان رجل يشتم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يكفيني عدواً لي؛ فقال خالد بن الوليد: أنا؛ فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليه فقتله؛ فقال أمير المؤمنين: ليس هذا مسنداً؛ هو عن رجل؛فقلت: يا أمير المؤمنين؛ هكذا يعرف هذا الرجل، وهو اسمه، وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فبايعه؛: هو مشهور معروف ([2]) قال فأمر لي بألف دينار".
30-      وقال أبو بكر الأعين: "رأيت ابن المديني مستلقياً، وأحمد بن حنبل عن يمينه، ويحيى بن معين عن يساره، وهو يملى عليهما".
31-      وقال أبو العباس السراج:"قلت للبخاري ما تشتهى؟ قال: أن أقدم العراق وعلي بن عبدالله حي؛ فأجالسه". وقال إبراهيم بن عبدالله بن الجنيد: "سمعت يحيى بن معين؛ يقول: علي بن المديني من أروى الناس عن يحيى بن سعيد؛ إني أرى عنده أكثر من عشرة آلاف؛ قلت ليحيى: أكثر من مسدد؟ قال: نعم؛ إن يحيى بن سعيد كان يكرمه ويدنيه وكان صديقه - يعني علياً - وكان علي يلزمه".
32-      وقال أبو قدامة السرخسي: سمعت علي بن المديني؛ يقول: رأيت فيما يرى النائم؛ كأن الثريا تدلت حتى تناولتها؛ قال أبو قدامة: فصدق الله رؤياه؛ بلغ في الحديث مبلغاً لم يبلغه أحد، أو لم يبلغه كبير أحد".
33-      وقال عبدالرحمن بن يعقوب بن أبي عباد القلزمي: "جاءنا علي بن المديني يوماً؛ فقال: رأيت هذه الليلة كأني مددت يدي فتناولت أنجماً من نجوم السماء؛ قال: فمضينا معه إلى بعض المعبرين؛ فقص عليه فقال: يا هذا ستنال علماً فانظر كيف تكون؛ فقال له بعض أصحابنا: لو نظرت في شيء من الفقه  -كأنه يريد الرأي - فقال: إن اشتغلت بذاك انسلخت مما أنا فيه".
34-      وقال أبو بشر بكر بن خلف: "قدمت مكة وبها شاب حافظ؛ فكان يذاكرني المسند بطرقه؛ فقلت له: من أين لك هذا؟ قال: أخبرك؛ طلبت إلى علي أيام سفيان أن يحدثني بالمسند؛ فقال: قد عرفت أنك إنما تريد بما تطلب المذاكرة؛ فإن ضمنت لي أنك تذاكر ولا تسميني فعلت؛ قال: فضمنت له واختلفت إليه؛ فجعل يحدثني بذا الذي أذاكرك به حفظاً".
35-      وقال العباس بن سورة: "سئل يحيى بن معين عن علي بن المديني، وعن الحميدي؛ أيهما أعلم؟ فقال: ينبغي للحميدي أن يكتب عن آخر؛ عن علي بن المديني".
36-      وقال أبو بكر الإسماعيلي: "سئل الفرهياني عن يحيى، وعلي، وأحمد، وأبي خيثمة؛ فقال: أما علي؛ فأعلمهم بالحديث والعلل، ويحيى أعلمهم بالرجال، وأحمد بالفقه، وأبو خيثمة من النبلاء".
37-      وقال عبدالمؤمن بن خلف النسفي: "سألت أبا علي صالح بن محمد؛ قلت: يحيى بن معين؛ هل كان يحفظ؟ فقال: لا؛ إنما كان عنده معرفة؛ فقلت لأبي علي: فعلي بن المديني؛ كان يحفظ؟ فقال: نعم، ويعرف".
38-      وقال صالح بن محمد جزرة: "أعلم من أدركت بالحديث وعلله؛ علي بن المديني، وأفقههم في الحديث؛ أحمد بن حنبل، وأقهرهم بالحديث؛ سليمان الشاذكوني".
39-      وقال: "سمعت علي بن المديني؛ يقول: "ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة".
40-      وقال خلف بن الوليد الجوهري: "خرج علينا ابن عيينة يوماً، ومعنا علي بن المديني؛ فقال: لولا علي لم أخرج إليكم".
41-      وقال محمد بن يونس: "سمعت علي بن المديني؛ يقول: تركت من حديثي مئة ألف حديث؛ فيها ثلاثون ألفاً لعباد بن صهيب".
42-      وقال هارون بن إسحاق الهمداني: "الكلام في صحة الحديث وسقيمه؛ لأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني".
43-      وقال أحمد بن سعيد الرباطي: "قال ابن المديني: ما نظرت في كتاب شيخ؛ فاحتجت إلى السؤال به عن غيري".
44-      وقال ابن حبان: "كان من أعلم أهل زمانه بعلل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ رحل وجمع وكتب وصنف وذاكر وحفظ".
45-      وقال الخطيب: "أحد أئمة الحديث في عصره، والمقدم على حفاظ وقته".
46-      وقال: "كان علي بن المديني فيلسوف هذه الصنعة، وطبيبها، ولسان طائفة الحديث، وخطيبها؛ رحمة الله عليه، وأكرم مثواه لديه".
47-      وقال عبدالغني بن سعيد المصري: "أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثلاثة: على بن المديني في وقته، وموسى بن هارون في وقته، والدارقطني في وقته".
48-      وقال ابن الأثير: "كان من أعلم أهل زمانه بعلل حديث رسول اللهصلى الله عليه وسلم".
49-      وقال النووي: "كان علي أحد أئمة الإسلام المبرزين في الحديث؛ صنف فيه مئتي مصنف لم يسبق إلى معظمها، ولم يُلحق في كثير منها".
50-      وقال: "أجمعوا على جلالته، وإمامته، وبراعته في هذا الشأن، وتقدمه على غيره".
51-      وقال الذهبي: "إليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبوي؛ مع كمال المعرفة بنقد الرجال، وسعة الحفظ، والتبحر في هذا الشأن؛ بل لعله فرد زمانه في معناه، وقد أدرك حماد بن زيد، وصنف التصانيف، وهو تلميذ يحيى بن سعيد القطان".
52-      وقال: "حافظ العصر، وقدوة أرباب هذا الشأن"
53-      وقال ابن السبكي: "أحد أئمة الحديث ورفعائهم، ومن انعقد الإجماع على جلالته وإمامته، وله التصانيف الحسان".
54-      وقال ابن أبي يعلى: "الحافظ المبرز".
55-      وقال ابن حجر: "أعلم أهل عصره بالحديث، وعلله".
56-      وقال: "ثقة ثبت إمام".
ما أخذه أهل العلم على ابن المديني:
مدخل:
"الذي يجب على الإنسان اعتقاده (في القرآن)؛ هو ما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتفق عليه سلف المؤمنين الذين أثنى الله تعالى عليهم، وعلى من اتبعهم، وذم من اتبع غير سبيلهم، وهو أن القرآن الذي أنزله الله على عبده ورسوله؛ كلام الله تعالى، وأنه منزل غير مخلوق؛ منه بدأ، وإليه يعود، وأنه قرآن }كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ{، وأنه {قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}، وأنه كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}، وأنه في الصدور؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استذكروا القرآن؛ فلهو أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم في عقلها) }، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن؛ كالبيت الخرب)، وأن ما بين لوحي المصحف الذي كتبته الصحابة رضي الله عنهم؛ كلام الله؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو؛ مخافة أن تناله أيديهم)؛ فهذه الجملة؛ تكفي المسلم في هذا الباب".
هذه هي عقيدة السلف كلهم؛ على اختلاف أعصارهم وأقطارهم، وقد عد اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة؛ أكثر من خمس مئة، وخمسين نفساً؛ من التابعين، وأتباع التابعين؛ عدا الصحابة رضوان الله عليهم، "وفيهم نحو من مئة إمامممن أخذ الناس بقولهم، وتدينوا بمذاهبهم؛كلهم يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق؛ فهو كافر ([3]) لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه، أو أمروا بقتله، أو نفيه، أو صلبه".
وما زال الناس على هذا؛ حتى جاءت الجهمية، وقالت: القرآن كلام الله مخلوق؛ فوقف أمامهم أهل السنة، وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله؛ فأوذي في سبيل ذلك أشد الإيذاء؛ فصبر على الحق هو وطائفة من العلماء والفقهاء ([4]) وأظهر السنة، وقمع البدعة؛ في الوقت الذي أجاب فيه غيره؛فلما نمى ذلك إليه؛ تمنى أن لو صبروا، وقاموا لله؛ حتى لا يجترأ على ذلك غيرهم؛ لا سيما وهم رؤوس الناس ([5]) فمن ثم اتخذ موقفاً متشدداً ممن أجاب، وكان يقول: إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل؛ فمتى يظهر الحق؟
قال صالح بن أحمد: "ضرب أبي على حديث كل من أجاب".
وقال أبو زرعة: "كان أحمد لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمار ([6]) ولا عن أبي معمر ([7]) ولا عن يحيى بن معين، ولا عن أحد ممن امتحن؛ فأجاب".
وقال أبو حاتم الرازي: "جاء إبراهيم بن المنذر الحزامي إلى أحمد بن حنبل؛ فاستأذن عليه؛ فلم يأذن له، وجلس حتى خرج؛ فسلم عليه؛ فلم يرد عليه السلام".
وقال صالح: "جاء الحزامي إلى أبي - وقد كان ذهب إلى ابن أبي دؤاد - فلما خرج إليه ورآه؛ أغلق الباب في وجهه، ودخل".
وقال أبو بكر المروزي: "جاء يحيى بن معين؛ فدخل على أحمد بن حنبل وهو مريض؛ فسلم؛ فلم يرد عليه السلام، وكان أحمد قد حلف بالعهد؛ أن لا يكلم أحداً ممن أجاب حتى يلقى الله؛فما زال يعتذر، ويقول حديث عمار، وقال الله تعالى: }إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ{ فقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر؛ فقال يحيى: لا تقبل عذراً؛ فخرجت بعده، وهو جالس على الباب؛ فقال: أيش قال أحمد بعدي؟ قلت: قال يحتج بحديث عمار، وحديث عمار: مررت بهم وهم يسبونك فنهيتهم؛ فضربوني، وأنتم قيل لكم: نريد أن نضربكم؛ فسمعت يحيى بن معين؛ يقول: مر يا أحمد غفر الله لك؛ فما رأيت والله تحت أديم سماء أفقه في دين الله منك".
وقال حجاج بن الشاعر: "قلت: لأحمد أكتب عمن أجاب في المحنة؟ فقال: أنا لا أكتب عنهم".
ومن هؤلاء الذين أجابوا؛ علي بن المديني غفر الله له؛ أجاب مكرهاً ([8]) وليته اقتصر على ذلك؛ لكان عُذر؛ بل استماله ابن أبي دؤاد؛ فتقرب إليه علي، وصحبه وعظمه، وانحرف عن الإمام أحمد من أجله ([9]) فهجره الإمام أحمد، وترك الرواية عنه، وعظمت الشناعة عليه؛ حتى صار عند الناس كأنه مرتد!
قال ابن رجب: "تقرب إلى ابن أبي دؤاد، حيث استماله بدنياه، وصحبه وعظمه؛ فوقع بسبب ذلك في أمور صعبة؛ حتى أنه كان يتكلم في طائفة من أعيان أهل الحديث؛ ليرضي بذلك ابن أبي دؤاد؛ فهجره الإمام أحمد لذلك".
وقد كان ابن المديني - قبل أن يظهر ذلك منه - مفخماً معظماً عند الناس؛ حتى كانوا يكتبون قيامه وقعوده، وكل شيء يقوله، ويفعله ([10]) كما كان صديقاً لأحمد؛ يعظمه ويجله، ويعرف فضله، وله في ذلك أقوال معروفة؛ منها:
1-            قوله: "قال لي سيدي أحمد بن حنبل: لا تحدثني إلا من كتاب".
2-            وقال: "عهدي بأصحابنا، وأحفظهم أحمد بن حنبل؛ فلما احتاج أن يحدث؛ لا يكاد يحدث إلا من كتاب".
3-            وقال: "لأن أسأل أحمد بن حنبل عن مسألة فيفتيني؛ أحب إلي من أن أسأل أبا عاصم النبيل، وابن داود؛ إن العلم ليس بالسن؛ إن العلم ليس بالسن".
4-            وقال: "أعز الله هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة". ([11])
5-            وقال: "ما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما قام أحمد بن حنبل؛ فقيل له: يا أبا الحسن، ولا أبو بكر الصديق؟ قال: ولا أبو بكر الصديق؛ إن أبا بكر الصديق؛ كان له أعوان وأصحاب، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان، ولا أصحاب".
6-            وقال: "هو عندي أفضل من سعيد بن جبير في زمانه؛ لأن سعيداً كان له نظراء، وإن هذا ليس له نظير".
وكذلك كان أحمد؛ يجل ابن المديني ويقدره؛ من ذلك:
1-            قال ابن المديني: "قال لي أحمد بن حنبل: إني لأحب أن أصحبك إلى مكة؛ فما يمنعني إلا أني أخاف أن أملك، أو تملني؛ فلما ودعته؛ قلت: يا أبا عبدالله؛ توصيني بشيء؟ قال: نعم؛ ألزم التقوى قلبك، واجعل الآخرة أمامك".
2-            وقال أبو حاتم الرازي: "كان علي علماً في الناس في معرفة الحديث والعلل، وكان أحمد لا يسميه؛ إنما يكنيه تبجيلاً له؛ قال: وما سمعت أحمد سماه قط".
ومع هذا؛ لما حدث من ابن المديني ما حدث، وزاد على ذلك؛ تردده على ابن أبي دؤاد ([12]) جفاه أحمد، وهجره، ولم يرو عنه شيئاً حتى مات. ([13])
قال أبو بكر الخلال: "أما علي بن المديني: فأفسد نفسه، وخرج عن الحد، وتابع ابن أبي دؤاد على أشياء؛ لا يسمح بذكرها عنه وإعادتها؛ فمات أمره البتة، وقد كان أحمد يذكره عند مذاكرة الأحاديث، وكتب عن أحمد بن حنبل شيئاً كثيراً من حديث شعبة وغيره، ومات أمره بما أحدث من أمر إجابته".
وقال المروذي: "وسمعت أحمد؛ كذبه - أي: ابن المديني - وسمعت رجلاً من أهل العسكر؛ يقول لأبي عبدالله: علي ابن المديني يقرئك السلام؛ فسكت".
في الوقت الذي تسمح فيه مع غيره؛ ممن لم يجب؛ كعفان بن مسلم، والفضل بن دكين، ولسان حاله يقول: ليس من قارف الذنب كمن لم يقارفه؛ فاحتمل لهما أشياء؛ من أجل موقفهما المحمود في المحنة.
قال حنبل بن إسحاق: "سمعت أبا عبدالله يقول: شيخان كان الناس يتكلمون فيهما، ويذكرونهما؛ وكنا نلقى من الناس في أمرهما ما الله به عليم؛ قاما لله بأمر لم يقم به أحد - أو كبير أحد - مثل ما قاما به؛ عفان، وأبو نعيم - يعني بالكلام فيهما - لأنهما كانا يأخذان الأجرة من التحديث، وبقيامهما؛ عدم الاجابة في المحنة".
وقال سلمة بن شبيب: قلت لأحمد بن حنبل: طلبت عفان في منزله؛ قالوا: خرج؛ فخرجت أسأل عنه؛ فقيل: توجه هكذا؛ فجعلت أمضي أسأل عنه؛ حتى انتهيت إلى مقبرة، وإذا هو جالس يقرأ على قبر بنت أخي ذي الرياستين؛ فبزقت عليه، وقلت: سوأة لك؛قال: يا هذا، الخبز الخبز؛ قلت: لا أشبع الله بطنك؛ قال: فقال لي أحمد: لا تذكرن هذا؛ فإنه قد قام في المحنة مقاما محموداً عليه، ونحو هذا من الكلام".
ومع هذا؛ فلم يكن هجر الإمام أحمد لابن المديني وغيره؛ ممن أجاب في المحنة؛ إلا على وجه التأديب والتعزير؛ ليس إلا، وشدد على ابن المديني؛ دون غيره ممن أجاب؛ لأنه خرج عن الحد، وأفسد نفسه، وقبل المال، وتردد على القوم.
قال أبو بكر المروذي: "دخلنا العسكر إلى أن خرجنا؛ ما ذاق أبو عبدالله طبيخاً، ولا دسماً، وقال: كم تمتع أولئك؛ يعني ابن أبي خيثمة، وابن المديني، وعبدالأعلى ([14]) إني لأعجب من حرصهم على الدنيا؛ فكيف يطوفون على أبوابهم".
وقال حجاج بن الشاعر: "سمعت أحمد بن حنبل؛ يقول: لو حدثت عن أحد بحديث من أجاب في المحنة؛ لحدثت عن اثنين: أبو معمر، وأبو كريب؛  أما أبو معمر: فلم يزل بعدما أجاب يذم نفسه على إجابته، ويحسن أمر من لم يجب، ويغبطهم، وأما أبو كريب: فأجري عليهم دينارين، وهو محتاج؛ فتركهما لما علم أنه أجري لذلك".
فقول الذهبي: "هذا أمر ضيق، ولا حرج على من أجاب في المحنة؛ بل ولا على من أكره على صريح الكفر عملاً بالآية، وهذا هو الحق".
مردود لأن الإمام أحمد؛ لم يرد رواية من أجاب، ولا قال: لا تقبل روايتهم؛ بل حتى لم يجرحهم بذلك؛ إنما غاية ما هنالك؛ أنه كره الكتابة عنهم. ولا يلام على ذلك.
وبالنسبة لابن المديني؛ فقد كان بإمكانه أن يعرض؛ كما فعل ابن أبي الحواري؛ فإنه أبى أن يجيب؛ فحبس؛ فوجه إلى امرأته وأولاده ليأتوا إليه، ويبكوا أمامه؛ عله يرجع عن رأيه، وقيل له: ما في القرآن من الجبل، والشجر مخلوق؟ فأجاب على هذا؛ فإن قيل: لم يتسن لعلي ذلك؛ قيل: فما الذي أكرهه على الميل إلى ابن أبي دؤاد، والتردد عليه، وإظهار الموافقة له، وأكثر من ذلك؛ يحدثه بالخطأ - وهو يعلم - ليرضيه.
قال أبو بكر المروذي: "قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: إن علي بن المديني يحدث عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن أنس عن عمر:كلوه إلى خالقه؛ فقال أبو عبدالله: كذب؛ حدثنا الوليد بن مسلم مرتين؛ ما هو هكذا؛ إنما هو:كلوه إلى عالمه؛ قلت لأبي عبدالله: إن عباساً العنبري قال لما حدث به بالعسكر: قلت لعلي بن المديني: إنهم قد أنكروه عليك؟ فقال حدثتكم به بالبصرة، وذكر أن الوليد أخطا فيه؛ فغضب أبو عبدالله وقال: فنعم؛ قد علم - يعني علي بن المديني - أن الوليد أخطا فيه؛ فلم أراد أن يحدثهم به؟ يعطيهم الخطأ؟ ([15]) وكذبه أبو عبدالله".
الفوائد:
1-            أنه وعلى الرغم من أن من أجاب في المحنة؛ أجاب مكرهاً؛ إلا أن الإمام أحمد والأئمة معه؛ لم يقبلوا منهم ذلك؛ فهجروهم على جهة التأديب؛ ليعلم الناس عظم القول الذي أجابوا عليه؛ فلا يقتدي بهم أحد؛ بل وقلت منزلتهم عند الناس؛ فضلاً عن طلبة العلم. قال عباس العنبري ([16]): "ذكر علي بن المديني رجلاً؛ فتكلم فيه؛ فقلت له: إنهم لا يقبلون منك؛ إنما يقبلون من أحمد بن حنبل؛ قال: قوي أحمد على السوط، وأنا لا أقوى".
2-            أن بعض من أجاب؛ زاد على ذلك فأخذ الأموال، وتردد إلى ابن أبي دؤاد؛ فعظمت الشناعة عليه؛ لأنه إن كان قد أكره على الإجابة؛ فما الذي أكرهه على التقرب منهم، والتودد إليهم؛ لهذا وقف الإمام أحمد والأئمة؛ بل والناس كافة؛ من ابن المديني؛ موقفاً متشدداً؛ حتى إنه كان بينهم كالمرتد. قال إبراهيم بن عبدالله بن الجنيد: "سمعت يحيى ابن معين - وذكر عنده علي ابن المديني فحملوا عليه - فقلت ليحيى: يا أبا زكريا؛ ما علي عند الناس إلا مرتد؛ فقال: ما هو بمرتد؛ هو على إسلامه؛ رجل خاف فقال ما عليه"، وقال الذهبي: "مناقب هذا الإمام جمة؛ لولا ما كدرها بتعلقه بشيء من مسألة خلق القرآن، وتردده إلى أحمد ابن أبي دؤاد؛ إلا أنه تنصل وندم، وكفر من يقول بخلق القرآن؛ فالله يرحمه، ويغفر له".
3-            أنه لا حرج مطلقاً على من تحاشى من وقع في شيء حط به منزلته عند أهل الحق ([17]) وجفاه لذلك، وترك الأخذ عنه؛ كما هو صنيع الإمام أحمد مع من أجاب. قال حجاج بن الشاعر: "قلت لأحمد: أكتب عمن أجاب في المحنة؟ فقال: أنا لا أكتب عنهم".
4-            أن هذا الموقف من الإمام أحمد؛ لم يكن خاصاً به وحده دون غيره من أهل العلم؛ بل وافقه على ذلك؛ طائفة منهم. قال أبو داود رحمه الله: "كان محمد بن داود بن صبيح يتفقد الرجال، ولم يكتب عن أبي كريب؛ لحال المحنة، ولم يحدث عن سعدويه ([18]) ولا عن أبي نصر التمار. وما رأيت رجلاً قط؛ أعقل من محمد بن داود". وكذلك ترك التحديث عن علي؛ جماعة؛ منهم: إبراهيم الحربى، وأبو زرعة الرازي، ومسلم صاحب الصحيح.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.



[1] - قال الذهبي: "كان يظهر ذلك بالبصرة؛ ليؤلفهم على حب علي رضى الله عنه؛ فإنهم كانوا عثمانية".
[2] - قال ابن حزم: "هو حديث صحيح مسند"، وقال ابن السبكي: "لا يريد ابن المديني بقوله: وهو اسمه؛ أن اسم هذا الرجل المجهول (رجل من بلقين) وأن هذا اللفظ علم عليه، وإنما يريد أنه بذلك يعرف؛ لا يعرف له اسم علم؛ بل إنما يعرف بقبيلته، وهى القين؛ فيقال: رجل من بنى القين؛ يدل عليه - مع وضوحه - قوله: هكذا يعرف هذا الرجل، وقوله: وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه؛ جواب سؤال مقدر؛ تقديره: إذا كان مجهولاً؛ فكيف يحتج به؟ فأجاب: بأن جهالة العين، والاسم - مع العلم بأنه صحابي - لا يقدح؛ لأن الصحابة كلهم عدول، وهذا الرجل - كما ذكر ابن المديني - لا يعرف له اسم. وقد روى البيهقي هذا الحديث في سننه من حديث معمر؛ هكذا، وهو إسناد صحيح".
[3] - ومن هؤلاء؛ صاحب الترجمة؛ فقد كان سلفي المعتقد، وكان يقول: "من زعم أن القرآن مخلوق؛ فهو كافر، ومن زعم أن الله لم يكلم موسى على الحقيقة؛ فهو كافر"؛ قالمحمد بن عثمان بن أبي شيبة: "سمعت علي بن المديني؛ يقول قبل موته بشهرين: من قال: القرآن مخلوق؛ فهو كافر"، وقال عثمان بن سعيد الدارمي: "سمعت ابن المديني؛ يقول: هو كفر؛ يعنى من قال: القرآن مخلوق"، وقال علي بن الحسين بن الوليد: "قال لي علي بن المديني: بلغ قومك عني أن الجهمية كفار، ولم أجد بداً من متابعتهم؛ لأني حبست في بيت مظلم، وفي رجلي قيد حتى خفت على بصري؛ فإن قالوا: يأخذ منهم؛ فقد سبقت إلى ذاك؛ قد أخذ من هو خير مني".
[4] - قال ابن السبكي: "لم يصبر في المحنة إلا أربعة؛ كلهم من أهل مرو؛ أحمد بن حنبل أبو عبدالله، وأحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، ومحمد بن نوح بن ميمون المضروب، ونعيم بن حماد، وقد مات في السجن مقيداً".
قلت: بل صبر غيرهم؛ كعفان بن مسلم، والحارث بن مسكين، وعاصم بن علي، والفضل بن دكين، والبويطي، وأبي مسهر، وإسماعيل بن أبي أويس، وفضل الأنماطي، وأبي صالح، وغيرهم. 
[5] - قال رحمه الله: "هم أول من ثلم هذه الثلمة"، وقال بشر الحافي: "وددت أن رؤوسهم خُضبت بدمائهم، وأنهم لم يجيبوا".
[6] - عبدالملك بن عبدالعزيز القشيري النسوي؛ أبو نصر التمار الدقيقي؛ قال أبو حاتم: "ثقة يعد من الأبدال". قال الخطيب: "كان أبو نصر؛ ممن امتحن في أمر القرآن فأجاب". قال الميموني: "صح عندي أنه لم يحضره حين مات - يعني أحمد بن حنبل - فحسبت أن ذاك لما كان أجاب في المحنة".
[7] - إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر الهذلي القطيعي الهروي نزيل بغداد، روى عنه البخاري ومسلم، وكان من شدة إدلاله بالسنة؛ يقول: "لو نطقت بغلتي لقالت: أنا سنية"، وأخذ في المحنة؛ فأجاب، وقال: (كفرنا وخرجنا)".
[8] - كغيره ممن أجاب؛ قال محمد بن عبدالله بن عمار: "قال ابن المديني: خفت القتل، ولو أنى ضربت سوطاً لمت"، وقال مسدد بن أبي يوسف: "سمعت أبي يقول: قلت لعلي بن المديني: مثلك في علمك؛ يجيب إلى ما أجبت إليه؟ فقال لي: يا أبا يوسف ما أهون عليك السيف"؛ لذا قال ابن معين: "هو رجل خاف؛ فقال ما عليه"، وقال ابن عمار: "ما أجاب إلى ما أجاب ديانة؛ إلا خوفاً"، وقال الذهبي: "أجاب تقية، وخوفاً من النكال".
[9] - قيل لإبراهيم الحربي: "أكان علي بن المديني يتهم بشيء من الكذب؟ فقال: لا، إنما كان حدث بحديث؛ فزاد في خبره كلمة يرضي بها ابن أبي دؤاد، وسئل؛ فقيل له: كان يتكلم علي بن المديني في أحمد بن حنبل؟ فقال: لا، إنما كان إذا رأى في كتاب حديثاً عن أحمد؛ قال: اضرب على ذا؛ ليرضي به ابن أبي دؤاد، وكان قد سمع من أحمد، وكان في كتابه: سمعت أحمد، وقال أحمد، وحدثنا أحمد".
[10]- ومع هذا؛ فلم يقبل الناس منه إجابته في المحنة؛ رغم أنه أجاب فرقاً من السيف، ولم يعتذروا له، أو يغضوا الطرف عنه؛ بل جفوه، وتكلموا فيه.
[11] - قال ابن الجوزي: "إنما عرف المذهب به؛ لتفرده بالقيام في وقته، وسكوت أترابه عن ذلك؛ إما لخوف البعض؛ أو عرفان من آخرين بأنه أولاهم بما قام به؛ لتقدمه عليهم في خصال الخير".
[12] - قال ابراهيم الحربي: "لقيت علي بن المديني يوماً، وبيده نعله، وثيابه في فمه؛ فقلت له: إلى أين؟ فقال: ألحق الصلاة خلف أبي عبدالله - وظننته يعني أحمد بن حنبل - فقلت: من أبو عبدالله؟ قال: ابن أبي دؤاد؛ فقلت: والله لا حدثت عنك بحرف واحد". وقال زكريا بن يحيى الساجي: "قدم علي بن المديني البصرة؛ فصار إليه بندار؛ فجعل علي يقول: قال أبو عبدالله؛ قال أبو عبدالله؛ فقال له بندار على رؤوس الملأ: من أبو عبدالله؛ أحمد بن حنبل؟ قال: لا؛ أحمد بن أبي دؤاد؛ قال بندار: عند الله أحتسب خطاي؛ شبه علي هذا؛ وغضب وقام".
[13] - قال عبدالله بن أحمد - في المسند - بعد أن روى عن أبيه عن علي؛ حديثاً: "لم يحدث أبي بعد المحنة عنه بشيء".
[14] - إن كان المقصود: عبدالأعلى بن مسهر؛ فهو لم يجب في المحنة؛ بل وقف موقفاً محموداً؛ فإن قيل: بل أجاب. فقد قال أبو عبدالله أحمد بن الخليل الكندي: قال المأمون لأبي مسهر: يا أبا مسهر، والله لأحبسنك في أقصى عملي، أو تقول القرآن مخلوق؛ فقال أبو مسهر: يا أمير المؤمنين؛ القرآن كلام الله غير مخلوق؛ فدعا له بالسيف والنطع ليضرب عنقه؛ فلما رأى ذلك؛ قال: مخلوق؛ فتركه من القتل.قيل: قال أبو داود: "كان من ثقات الناس؛ رحم الله أبا مسهر؛ لقد كان من الإسلام بمكان؛ حمل على المحنة فأبى، وحمل على السيف فمد رأسه وجرد السيف؛ فأبى أن يجيب؛ فلما رأوا ذلك منه حمل إلى السجن فمات". وقال: "سمعت أحمد؛ يقول: رحم الله أبا مسهر؛ ما كان أثبته. وجعل يطريه"؛ فهذا يدل على أنه لم يجب، وعلى فرض أنه أجاب؛ فقد حمل إلى السجن،وبقي فيه حتى مات؛ فقد قال له المأمون: أما إنك لو قلت ذلك قبل أن أدعو لك بالسيف؛ لقبلت منك، ورددتك إلى بلادك، وأهلك، ولكنك تخرج الآن؛ فتقول: قلت ذلك فرقاً من القتل؛ أشخصوه إلى بغداد فاحبسوه بها حتى يموت؛ فحبس؛ فأخرج ليدفن؛ فشهده قوم كثير من أهل بغداد. فمتى - إذن - تمتع بأموال هؤلاء، وأكل طعامهم؟! وإن كان غيره؛ فلا أعرفه.
[15] - قال الخطيب: "والذي يحكى عن علي بن المديني؛ أنه روى لابن أبي دؤاد حديثاً عن الوليد بن مسلم في القرآن؛ كان الوليد أخطأ في لفظة منه؛ فكان أحمد بن حنبل ينكر على علي روايته ذلك الحديث". والحديث رواه الوليد بن مسلم؛ قال: حدثنا الأوزاعي حدثنا الزهري؛ قال: حدثني أنس بن مالك؛ قال: (بينا عمر جالس في أصحابه إذ تلا هذه الآية: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلا. وَحَدَائِقَ غُلْبًا. وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} ثم قال: هذا كله قد عرفناه؛ فما الأب؟ قال: وفي يده عصية يضرب بها الأرض؛ فقال: هذا لعمر الله التكلف؛ فخذوا أيها الناس بما بين لكم فاعملوا به، وما لم تعرفوه؛ فكلوه إلى ربه).
أما ما ذكر من أن ابن أبي دؤاد؛ للمعتصم: يا أمير المؤمنين؛ هذا يزعم - يعني أحمد بن حنبل - أن الله تعالى يرى في الآخرة، والعين لا تقع إلا على محدود، والله تعالى لا يحد؛ فقال له المعتصم: ما عندك في هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين عندي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: وما قال عليه السلام؟ قال: حدثني محمد بن جعفر غندر حدثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير عن عبدالله البجلي قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أربع عشرة من الشهر فنظر إلى البدر؛ فقال: (أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا البدر لا تضامون في رؤيته) فقال لأحمد بن أبي دؤاد: ما عندك في هذا؟ قال: أنظر في إسناد هذا الحديث، وكان هذا في أول يوم؛ ثم انصرف فوجه ابن أبي دؤاد إلى علي بن المديني، وهو ببغداد مملق ما يقدر على درهم؛ فأحضره فما كلمه بشيء حتى وصله بعشرة آلاف درهم، وقال له: هذه وصلك بها أمير المؤمنين، وأمر أن يدفع إليه جميع ما استحق من أرزاقه، وكان له رزق سنتين؛ ثم قال له: يا أبا الحسن؛ حديث جرير بن عبدالله في الرؤية ما هو؟ قال: صحيح قال: فهل عندك فيه شيء؟ قال: يعفيني القاضي من هذا؛ فقال: يا أبا الحسن هذه حاجة الدهر؛ ثم أمر له بثياب وطيب ومركب بسرجه ولجامه، ولم يزل حتى قال له: في هذا الإسناد من لا يعمل عليه ولا على ما يرويه، وهو قيس بن أبي حازم؛ إنما كان أعرابياً بوالاً على عقبيه؛ فقبل ابن أبي دؤاد ابن المديني واعتنقه؛ فلما كان الغد وحضروا؛ قال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين يحتج في الرؤية بحديث جرير، وإنما رواه عنه قيس بن أبي حازم، وهو أعرابي بوال على عقبيه؛ فقال أحمد بن حنبل بعد ذلك: فحين أطلع لي هذا؛ علمت أنه من عمل علي بن المديني. فكان هذا وأشباهه من أوكد الأمور في ضربه.فقد قال الخطيب: "أما ما حكي عن علي بن المديني في هذا الخبر من أن قيس بن أبي حازم لا يعمل على ما يرويه لكونه أعرابياً بوالاً على عقبيه؛ فهو باطل، وقد نزه الله علياً عن قول ذلك؛ لأن أهل الأثر - وفيهم علي - مجمعون على الاحتجاج برواية قيس بن أبي حازم وتصحيحها؛ إذ كان من كبراء تابعي أهل الكوفة، وليس في التابعين من أدرك العشرة المقدمين، وروى عنهم؛ غير قيس مع روايته عن خلق من الصحابة سوى العشرة، ولم يحك أحد ممن ساق خبر محنة أبي عبدالله أحمد بن حنبل أنه نوظر في حديث الرؤية؛ فإن كان هذا الخبر محفوظاً؛ فأحسب أن ابن أبي دؤاد تكلم في قيس بن أبي حازم بما ذكر في الحديث؛ وعزا ذلك إلى علي بن المديني، والله أعلم".قلت: وهو الصواب؛ فإن ابن المديني نفسه؛ قال عن قيس بن أبي حازم: "سمع من أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد ابن أبي وقاص، والزبير، وطلحة بن عبيدالله، وأبي شهم، وجرير بن عبدالله البجلي، وأبي مسعود البدري، وخباب ابن الأرت، والمغيرة بن شعبة، ومرداس بن مالك الأسلمي، والمستورد بن شداد الفهري، ودكين بن سعيد المزني، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وأبي سفيان بن حرب، وخالد بن الوليد، وحذيفة بن اليمان، وعبدالله بن مسعود، وسعيد بن زيد، وأبي جحيفة؛ فقيل له: هؤلاء كلهم سمع منهم قيس بن أبي حازم سماعاً؟ قال: نعم سمع منهم سماعاً، ولولا ذلك لم نعزه له سماعاً".
[16] - وقد مر معنا قوله: "كان علي بن المديني بلغ ما لو قضي له أن يتم على ذاك؛ لعله كان تقدم على الحسن البصري".
[17] - فكيف بمن تلبس ببدعة؛ بل ودعا إليها، ونافح عنها؟!
[18] - سعيد بن سليمان؛ أبو عثمان الواسطي المعروف بسعدويه البزاز؛ قال أبو حاتم: "ثقة مأمون، ولعله أوثق من عفان".قال الخطيب: "كان سعدويه من أهل السنة، وامتحن فأجاب في المحنة"؛قيل له بعد ما انصرف من المحنة ما فعلتم؟ قال: "كفرنا ورجعنا".

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

كافة الحقوق محفوظة 2012 © site.com مدونة إسم المدونة