التبرئة وبيان
سلفية عبارة (فلان وافق قوله قول المرجئة)
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله
وصحبه أجمعين ؛؛؛ أما بعد:
فكنت قد قلت
في مقالتي ]وقفات مع
هشام البيلي[: "بعد ما أثبتَ البيلي؛ أن
عبارة ((العمل شرط كمال))؛ من عبارات المرجئة، وأن الألباني؛ قد صدرت منه هذه
العبارة بالفعل؛ أراد أن يحكم عليه بما يستحقه؛ فقال مقولته تلك «أعني قوله عن
الألباني: وافق المرجئة»؛ فخالف طريق السلف، وأتى بما لم يعرف، وقد سبق، وألزمته
بذكر رجل واحد فقط؛ قال بمثل قول الألباني (الأعمال شرط كمال)؛ فحكم عليه أئمة
السلف؛ بأنه: وافق المرجئة؛ لكنه ليس مرجئاً؛ فإن لم يجد، ولن يجد؛ أعلمته أن
مجموعة كبيرة من العلماء والمحدثين؛ قالوا بنفس قول الألباني في الإيمان - هذا على
فرض أنه لم يخطئ إلا في هذه المسألة فقط - فما كان من أئمة السلف رحمهم الله؛ إلا
أن رموا كل واحد منهم - بعينه - بالبدعة والضلالة، وسموه (مرجئاً)، وحذروا منه، وأمروا بهجره؛ كطلق
بن حبيب، وأبي حنيفة، وحماد بن أبي سليمان، وعمر بن ذر، وعبدالعزيز بن أبي رواد،
وعمرو بن مرة، وشبابة بن سوار، وإبراهيم بن طهمان، وعبدالحميد الحماني، وعمر بن
قيس الماصر، وأبي بكر النهشلي، وعبدالكريم بن أبي المخارق، وأبي معاوية الضرير،
وعاصم بن كليب، وسلم البلخي، وخارجة بن مصعب، وأبي الجويرية، وأيوب بن عائذ، وأبي
عمر البلخي، وبشر السختياني، وسالم الأفطس، وشعيب بن إسحق، وغيرهم؛ فلم يعتذروا
لهم؛ كما لم يلتفتوا إلى إمامتهم في العلم، والحفظ، ولا إلى موافقتهم لمنهج السلف
في بقية الأصول؛ بل بادروهم بالتبديع، والتضليل، وهكذا حالهم مع كل من خالف أصلاً
من الأصول. و"معلوم أنهم
أعظم اهتداء، واتباعاً للآثار النبوية، وأعظم إيماناً، وتقوى، وأنه لا يكون عند المتأخرين
من التحقيق؛ إلا ما هو دون تحقيقهم، وأنه لا يخالفهم أحد؛ إلا وكان الصواب معهم؛
فتعين أن يكون مذهبهم هو المذهب الحق الذي لا عدول عنه؛
وأن من خالفهم لزمه فساد معلوم بصريح المعقول، وصحيح المنقول"؛ قال عمر بن
عبدالعزيز رحمه الله (مناقب عمر بن عبدالعزيز لابن الجوزي ص 83-84): "قف حيث
وقف القوم؛ فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى،
وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم؛ فما أحدثه إلا من خالف هديهم،
ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر،
وما دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين
ذلك لعلى هدى مستقيم"، وقال مالك
رحمه الله: "إن حقاً على العالم أن يكون متبعاً لآثار من مضى قبله"اهـ
(جامع بيان العلم وفضله 1/543-544)؛ فيا هشام: أفي اتباع أئمة السلف تخشى الضلالة؛
أم في غير سنتهم تلتمس الهدى؟!"اهـ
وبينت في مواطن غيرها؛ أن مما يدل على بطلان هذه العبارة: (وافق فلان
المرجئة لكنه ليس مرجئاً) أنها لو طردت؛ لقيل في كل من خالف السنة في مسألة: (فلان
وافق الخوارج لكنه ليس خارجياً) - (وافق فلان الأشاعرة لكنه ليس أشعرياً) - (وافق
فلان الجهمية لكنه ليس جهمياً)، وهكذا؛ فتُهدم السنة، ويُرد منهج السلف، ويُغلق
باب التبديع فلا يُبدع أحد.
فهذه العبارة؛ عبارة فاسدة باطلة؛ عارية عن الدليل؛ افترعها المرجئة
المعاصرون ليحموا بها رموزهم، وهيهات.
وطلبت منه، ومن إخوانه المرجئة؛ أن يأتوا بإمام واحد من أئمة السلف؛ قال
مثل قولهم هذا، أو حتى قريباً منه، وحيث لن يمكنهم هذا؛ فليلزموا إذاً غرز سلفهم،
وليعلموا أن الخير في اتباعهم، والشر في مخالفة هديهم، وإلا فأي فائدة في قولنا:
كتاب وسنة بفهم سلف الأئمة؛ إذا لم نقتف أثرهم، ونتبع سبيلهم؟
وليتهم أخذوا بالنصيحة؛ بل وجدناهم كعادتهم يشاغبون؛ فكتب أحد أذنابه
كتاباً في الترقيع له؛ سماه ]التبرئة وبيان سلفية عبارة (فلان وافق
قوله قول المرجئة)[ ملأه بالثناء على شيخه، والدفاع
عنه بالباطل، ومن ذلك ما ذكره في الفصل الثاني؛ حيث قال:
"أقوال العلماء الثقات في بيان سلفية تلك العبارات (وافق .. قال بقول)"؛
جاء فيه بأقوال: ابن تيمية، وابن عثيمين، والألباني، ومقبل
الوادعي، وربيع المدخلي، وعبيد الجابري، وصالح السحيمي، وعبدالعزيز الراجحي.
فتذكرت قول
الشاعر:
شكونا
اليهم خراب العراق **** فعابوا علينا لحوم البقر
فكانوا كما قيل فيما مضى **** أريها السهى وتريني القمر
فكانوا كما قيل فيما مضى **** أريها السهى وتريني القمر
نقول لهم: ايتونا بإمام واحد من أئمة السلف؛ قال مثل هذا القول المخترع حتى
نقبل كلامكم؛ فيأتونا بكسير، وعوير، وثالث ما فيه خير.
فهل ابن عثيمين، والألباني، ومقبل الوادعي، وربيع
المدخلي، وعبيد الجابري، وصالح السحيمي، وعبدالعزيز الراجحي؛ من السلف أصلاً؛ حتى
يكونوا من أئمته؟
بل هل هم
سلفيون أصلاً حتى تستشهد بكلامهم؟
على أن كلامهم هذا فيه حتفهم؛ لو كنت تدري.
بقي ابن تيمية، وهو أيضاً ليس من السلف.
وعلى كل حال؛ فما نقله عنه يدينه ويدين إمامه الألباني، وشيخه البيلي، وهذا
يدل على أنه حاطب ليل.
فلو كان يعقل؛ لعرف أن ابن تيمية يقرر في هذا النقل؛ أن من وافق طائفة من
طوائف الضلال؛ يُنسب إليهم، وليس بالضرورة أن يوافقهم في جميع أصولهم؛ فمن قال -
مثلاً - القرآن مخلوق؛ فهو جهمي، وإن لم يكن موافقاً لهم في جميع المسائل، وهكذا
يقال فيمن وافق الأشعرية، أو المرجئة في مسألة من مسائلهم.
قال ابن تيمية: "كما أن الأئمة - كأحمد وغيره - كانوا يقولون: افترقت
الجهمية على ثلاث فرق؛ فرقة يقولون: القرآن مخلوق. وفرقة تقف، ولا تقول: مخلوق،
ولا غير مخلوق. وفرقة تقول: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة. ومن المعلوم أنهم إنما أرادوا
بذلك افتراقهم في مسألة القرآن خاصة، وإلا فكثير من هؤلاء؛ يثبت الصفات، والرؤية،
والاستواء على العرش، وجعلوه من الجهمية في بعض المسائل؛ أي أنه وافق الجهمية
فيها؛ ليتبين ضعف قوله؛ لا أنه مثل الجهمية، ولا أن حكمه حكمهم؛ فإن هذا لا يقوله
من يعرف ما يقول"اهـ (مجموع الفتاوى 12/206-207)
أي أن الواقفة واللفظية ليسوا في الأصل جهمية؛ لكن لما وافقوا الجهمية في
مسألة القرآن خاصة؛ حكم عليهم أئمة السلف بأنهم جهمية، وإن كانوا يخالفون الجهمية
في بقية المسائل؛ فقالوا: ]افترقت
الجهمية على ثلاث فرق؛ فرقة يقولون: القرآن مخلوق. وفرقة تقف، ولا تقول: مخلوق،
ولا غير مخلوق. وفرقة تقول: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة[. فكلامه ظاهر جداً في أنهم جعلوا
الكل جهمية.
أما قوله: ((أي أنه وافق الجهمية فيها))؛ فليس كما فهم هذا الجاهل؛ بل
معناه ما ذكرنا؛ من أنهم جهموا الواقفة واللفظية لموافقتهم الجهمية في مسألة
القرآن؛ فجعلوهم جهمية وإن لم يكونوا على أصولهم.
لذلك لم يقل أحد من الأئمة عن اللفظية أو الواقفة: إنهم وافقوا الجهمية؛ بل
قالوا: هم جهمية، وحذروا منهم، وبدعوهم، وهجروهم.
قال الإمام أحمد: «الجهمية على ثلاث ضروب: فرقة قالوا: القرآن مخلوق، وفرقة
قالوا: كلام الله، وتقف، وفرقة قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة؛ فهم عندي في
المقالة واحد».
وقال: «الواقفة واللفظية؛ جهمية».
وقال في الواقفة: «هم شر من الجهمية».
وقال في اللفظية: «لا يجالسون، ولا يكلمون».
وقال: «اللفظية جهمية».
وقال: «اللفظية والواقفة زنادقة عتق».
وقال قتيبة بن سعيد: «الواقفة جهمية».
وقال أبو داود:
«سمعت أبا عبدالله يتكلم في اللفظية، وينكر
عليهم كلامهم، وسمعت إسحاق بن راهويه ذكر اللفظية، وبدعهم».
وقال: «سمعت أحمد يتكلم في اللفظية، وينكر عليهم كلامهم، وقال له هارون: يا
أبا عبدالله هم جهمية؟ فجعل يقول: هم، هم، ولم يصرح بشيء، ولم ينكر عليه قوله: هم
جهمية».
وقال: «سمعت أحمد بن صالح ذكر اللفظية؛ فقال: هؤلاء أصحاب بدعة، ويكثر
عليهم أكثر من البدعة».
وقال محمد بن مقاتل العباداني: «الواقفة شر من الجهمية».
وقال القواريري: «الواقفة شر من الجهمية».
وقال يحيى بن أيوب: «الواقفة شر من الجهمية».
وقال محمد بن عبدالله بن نمير: «الوقف زندقة وكفر».
وقال هارون بن إسحاق: «الواقفة واللفظية؛ جهمية».
وقال: «اللفظية مبتدعة ضلال».
وقال عبدالوهاب الوراق: «الواقفة واللفظية والله جهمية».
وقال عثمان بن أبي شيبة: «الواقفة شر من الجهمية بعشرين مرة».
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: «الواقفة شر من الجهمية».
ومن حيث التعيين؛ لم يقل أحد منهم فيمن قال بالوقف، أو باللفظ: «فلان وافق
الجهمية؛ لكنه ليس جهمياً».
بل قال الإمام أحمد في يعقوب بن شيبة؛ لما وقف: «مبتدع صاحب هوى».
وقال في إسحاق بن أبي إسرائيل، وقد وقف أيضاً: «تجهم بعد سبعين سنة».
وقال: «صار ضالاً شكاكاً».
وقال في الحارث المحاسبي، وقد وافق الجهمية في بعض المسائل: «حذروا عن حارث
الفقير؛ فإنه جهمي».
وقال عن الكرابيسي، وقد قال باللفظ: «جهمي مبتدع».
وهكذا حالهم مع جميع من يخالف السنة، ويوافق أهل البدع في بعض مسائلهم؛
فقالوا عن قتادة: «قدري»؛ لأنه كان يقول: المعاصي ليست بقدر الله.
وقالوا عن مسعر: «مرجئ»؛ لأنه توقف في الاستثناء، ولم يقولوا: وافق المرجئة؛
كما يقوله اليوم المتهوكة، والأمثلة أكثر من تحصر في مثل هذه العجالة؛ فليت
المرجئة يرعوون، ويكفون عن جهلهم، وهرائهم.