شَــرْحُ رِسَـالَـةِ الشيخ مُحَمَّدِ بنِ عَبـْدِالوَهّــَابِ إِلَـى أَهْـلِ القـَصِيـمِ

شَــرْحُ رِسَـالَـةِ الشيخ مُحَمَّدِ بنِ عَبـْدِالوَهّــَابِ إِلَـى أَهْـلِ القـَصِيـمِ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ؛؛؛ أما بعد:
فصاحب هذه الرسالة؛ هو الشيخ محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علِي الوِهِيبي التميمي, من بني تميم, وُلِدَ سنة ألف ومئة وخمسة عشر للهجرة؛ أبوه: الشيخ عبدالوهاب؛ كان من علماء نجد وقضاتها, أما جده الشيخ سليمان بن علِي؛ فكان مفتي نجد وممن تُضرب إليه آباط الإبل؛ لطلب العلم وفك المعضلات وحل المشكلات؛ إذاً فقد وُلِد الشيخ محمد في أسرة علمية محضة, أسرة علم وصلاح, فنشأ رحمه الله صالحاً عفيفاً عليه سمات الهداية والصلاح؛ فحفظ القرآن، وهو لم يبلغ بعدُ، وقرأ على والده بعض المتون.
أما مولده؛ فقد وُلد في حاضرة نجد في العُيَيْنَة, وظل يتدرج في طلب العلم حتى عزم على حج بيت الله الحرام؛ فعقد العزم وارتحل إلى مكة وحج البيت؛ ثم عزم على زيارة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وقابل فيها بعض أهل العلم كالشيح محمد حياة السندي فأخذ عنه العلم؛ وكان الشيخ محمد حياة السندي؛ يرى ما يفعله القبوريون عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتكلم؛ لا ينكر؛ فقال الشيخ محمد، وكان صغيراً لبيباً: ماذا تقول في هؤلاء؟ قال: أقول فيهم: إنهم ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
فقال الشيخ محمد: هو كذلك. وقرأ أيضاً على غيره من أهل العلم؛ ثم رجع إلى بلده العيينة, ومكث قليلاً ورجع مرة أخرى إلى الحجاز لطلب العلم على أهلها, وبعد أن رجع من رحلته الثانية من الحجاز؛ بدأ ينشر دعوته للتوحيد, التوحيد الخالص، وأن العبادة حقُ خالصٌ لله سبحانه وتعالى، وأن صرف أي عبادة لغير الله شرك؛ فلا نذر ولا ذبح ولا طواف ولا دعاء ولا توكل ولا خوف ولا إنابة ولا رغبة ولا رهبة إلا لله سبحانه وتعالى, هذه هي خلاصة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
ثم ذهب إلى البصرة لطلب العلم على علمائها, فقابل هناك الشيخ محمد المجموعي البصري وكان عالماً كبيراً, فبدأت دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب في البصرة، وكان الشيخ محمد المجموعي يرتضي ما يقوله الشيخ محمد, حتى يُقال كما ذكر حفيده الشيخ عبدالرحمن بن حسن أنه ألف كتاب التوحيد في البصرة, كتاب التوحيد؛ هذا الكتاب الذي لم يُسبق إلى مثله؛ ألفه في البصرة, وقيل: إنه ألفه في حُريملاء, وسنذكر سبب ذلك؛ ثم إن أهل الشرك والقبور، والخنا والفجور - حيث كانت تنتشر المحرمات من زنا وشرب الخمر وقتل ونهب وسرقات إلخ - ضاقوا ذرعاً بدعوة الشيخ؛ لأنها ستُضَيِّق عليهم، وعلى علماء السوء والأمراء كذلك؛ لأنهم يستفيدون مما عليه العامة من الشرك والفجور؛ فمن ثم طردوه في الهاجرة - من البصرة - في يوم شديد القيظ, فخرج منها على قدميه قاصداً الزبير, وأثناء الطريق أدركه العطش حتى شارف على الهلاك؛ فلقيه رجل يسمى ابن حميدان؛ فسقاه وحمله على دابته، وأرسله إلى الزبير، ومن هناك همَّ أن يذهب إلى الشام لطلب العلم على علماءها؛ لكن قصرت به النفقة فتوجه قاصداً إلى الأحساء، وكانت مدينة كبيرة بها جمع غفير من العلماء؛ فأخذ العلم عن بعضهم، ودارس بعضهم؛ ثم ارتحل من الأحساء إلى العيينة بلدته, فوجد أن أباه قد حصلت بينه وبين أمير العيينة حمد بن معمر مشكلة؛ فترك الشيخ عبدالوهاب - والد الشيخ محمد - على إثرها العيينة، وانتقل إلى حُريملاء، وهي قريبة من العيينة، وظل فيها إلى أن مات أبوه؛ فضاق أعداء الحق ذرعاً من دعوته، وقد رأوا استجابة الناس لدعوته؛ فذهب ثانيةً إلى العيينة موطنه الأصلي، وكان أميرها إذ ذاك عثمان بن معمر، فعرف الأمير عثمان بن معمر أن الشيخ على حق، وأن دعوته هذه هي دعوة الأنبياء والرسل، وهي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والسلف الصالح؛ فناصره وآزره؛ فاشتد عود الشيخ، وطبقت شهرته الآفاق، وجاءه الناس من كل فج عميق يهاجرون إليه، ويجلسون في مجلسه وينهلون من علمه؛ حتى سمع بدعوته ابن عُرَيعِر الخالدي أمير الأحساء, وكانت هذه البوادي في نجد ترتبط مالياً وأدبياً بالأحساء وأميرها ابن عريعر؛ فخاف ابن عريعر الخالدي من دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وظن أنها قاصمة الظهر له، وأيضاً ستمنعه من أخذ المال والإتاوة التي كان يفرضها على أمراء نجد؛ فأرسل إلى عثمان بن معمر يأمره بقتل الشيخ، ولما لم يصل يقين عثمان بن معمر أمير العيينة إلى الحد الذي يعرف به أن ابن عريعر لن يصيبه بشيء لم يكتبه الله عليه؛ خاف على نفسه وسلطانه وخاف من بأس ابن عريعر؛ فأطلع الشيخ على رسالته، وطلب منه الخروج من بلدته؛ فخرج الإمام محمد بن عبدالوهاب قاصداً أحد تلاميذه في قرية تسمى الدرعية، وهذا الرجل اسمه حمد بن سويلم؛ فدخلها ليلاً؛ فسمع الأمير محمد بن سعود أمير الدرعية به فلم يذهب إليه, وكان متزوجاً من امرأة تسمى موضي وكانت امرأة عاقلة, فقالت: إن الله قد أتاك بخير كثير؛ اذهب إلى هذا الشيخ فناصره وبايعه, فلعل الله سبحانه وتعالى  يجعل لك في ذلك خيراً, فذهب إليه ورحب به وهنأه بقدومه إلى الدرعية، وبايعه على الكتاب والسنة، ومقاومة من ناوأ هذه الدعوة، واشترط عليه أنه إذا أظهره الله على أعدائه وأظهر الله دعوته ألا يغادر الدرعية إلى بلد أخرى؛ كالعيينة مثلاً، وأن لا يمنعه من أخذ ما فرضه على أهل الدرعية، فقد كان كجميع أمراء نجد يفرضون الإتاوات من التمر؛ فيبيعونه، ويقتاتون به.
فأجابه الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى الشرط الأول؛ أما الشرط الثاني فلم يجبه إليه، وقال له: لا؛ هذا لا يصح، ولا يحل لك، وعسى الله سبحانه وتعالى أن يبدلك خيراً منه من الفتوحات التي ستأتي.
وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لدعوة الشيخ؛ ففتح الله على ابن سعود، وآتاه الملك، وأورثه لأبنائه من بعده إلى وقتنا هذا، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومما ينبغي أن يعلم؛ أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب والأمير محمد بن سعود؛ لم يبدأوا بقتال أحد من الناس؛ إنما قاتلوا دفاعاً عن أنفسهم وأعراضهم؛ لما بدأهم المناوئون لهذه الدعوة بالقتال خوفاً من ضياع مصالحهم؛ فحاولوا إجهاض الدعوة في مهدها, ومن ثم لم يجدا بداً من القتال دفاعاً؛ لا ابتداء.
وأيضاً فالشيخ رحمه الله حارب بعض الذين لم يذعنوا للدعوة، وظلوا على شركهم الأكبر؛ بعد أن ظهر الحق، وأقيمت عليهم الحجة، وصارت المسألة بالنسبة لهم ظاهرة جلية لا لبس فيها؛ حاربهم حتى يكون الدين كله لله, وهكذا ظل الشيخ إماماً يدعو الناس ويعلمهم ويسوسهم؛ حتى كبُر وضعف؛ فأناط الأمور السياسة للأمير عبدالعزيز بن محمد بن سعود، وهو يُعد من العلماء، وقد تتلمذ على الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وله رسائل تدل على هذا، وعكف الشيخ محمد بن عبدالوهاب في آخر حياته على الصلاة، وقراءة القرآن, وإذا استُفتيَ أفتى بما رآه من صواب إلى أن مات رحمه الله.
واستمرت دعوته من بعده؛ فقد قيض الله سبحانه وتعالى له تلاميذ نجباء نشروا دعوة التوحيد، ونشروا علمه.
هذه باختصار سيرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، ودعوته.
ولما كان لا بد للمصلحين أن تُثار الشُبه حولهم؛ أثاروا الشبه على الشيخ ودعوته، ومنها: مسألة التوسل ومسألة الشفاعة؛ أي: أنه ينكر التوسل، وينكر الشفاعة, وأنه يكفر الآباء والأجداد, ويستحل دماء المسلمين وأموالهم, ويدعي النبوة, وأتى بمذهب خامس جديد, وخرج على الدولة العثمانية, وعقيدته: التشبيه والتجسيم؛ فهذه تسع شبهات وتهم رمي بها الشيخ رحمه الله، ولا شك أن المقام لا يتسع لتفنيد جميع هذه الشبهات، والكلام عليها, إنما نقول: لعل من أعظم الشبهات وهي أساس دعوة ومحنته؛ (التوسل والشرك) ؛ فإن انجلت هذه الشبهة عن أذهاننا ظهرت أمامنا جلية واضحة؛ دعوة الشيخ رحمه الله.
هاتان الشبهتان تنجليان بفضل الله عند دراستنا لكشف الشبهات؛ أما الآن فسنتكلم عما أثاره بعضهم من أنه خرج على الدولة العثمانية؛ فهو خارجي رفع السلاح على الخليفة العثماني.
فنقول: كانت نجد وقت الخلافة العثمانية؛ عبارة عن قرى وهجر وإمارات متناحرة، وكل إمارة تغير على الإمارة التي بجوارها، وكانوا جميعاً في حالة لا توصف من الفقر والخوف والمرض والجهل والظلم؛ لذلك لم تعر الخلافة العثمانية لهذه القرى والإمارات أدنى اهتمام, بل كان اهتمامها منصباً على الحجاز, لذلك كان الشريف الذي كان يتولى أمر الحجاز مكة والمدينة يدين بالولاء للخلافة العثمانية, وكان في زمن الشيخ محمد بن عبدالوهاب عدة أشراف تناوبوا الإمارة على الحجاز حتى كان في زمن أولاد الشيخ محمد بن عبدالوهاب الشريف غالب.
إذن نجد لم تكن تحت ولاية الخليفة العثماني مطلقاً؛ حتى يقال: خرج على الدولة العثمانية. وكما قلنا: لما أظهر الشيخ دعوته؛ ناوأه المناوئون والمغرضون إلى آخر ما ذكرنا, فكان لزاماً عليه أن يدافع عن دعوته، وعن نفسه، وأتباعه وأصحابه، وتلاميذه, فأرسل الرسائل وبعث الكتب وناظر ودرس وفعل ما فعل حتى نشر دعوته, ومن هذه الرسائل ما أرسله إلى أهل القصيم يبين فيها دعوته وأن ما يذكر عنه ليس له أساس من الصحة, فقيض الله سبحانه وتعالى النصرة له وللإمام محمد بن سعود ومن بعده الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود, وهكذا استمروا من نصر إلى نصر ومن فتح إلى فتح حتى فتح الله عليهم وحتى دخلوا الرياض في زمن الأمير سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود.
فمحمد بن عبدالوهاب لم يذهب بجيوشه إلى الحجاز لمناوءة دولة الأشراف هناك التابعة للخلافة العثمانية؛ لا؛ بل كان يراسلهم ويدعوهم بالحسنى ويبين لهم حقيقة دعوته, فمن كثرة رسل الشيخ، ومن كثرة من كان يأتي من نجد من تلاميذه لأداء فريضة الحج؛ خاف الأشراف على دولتهم من قدوم تلاميذ وأتباع الشيخ إلى مكة والمدينة؛ حيث سيختلطون بالحجيج ومن ثم سينشرون دعوتهم, وفي نشر الدعوة ضررٌ وخطرٌ عظيم على مصالح دولة الأشراف؛ فأصدروا قراراً بمنعهم من دخول مكة؛ عندئذٍ حاربوا الشريف غالب وقضوا عليه وعينوا بدلاً منه الشريف زيد؛ عندئذ خافت الخلافة العثمانية على مصالحها في الحجاز بعد أن ظهرت لهم قوة وبأس الدعوة؛ فأمروا خادمهم في مصر (محمد علي) بإرسال الجيوش للقضاء عليها، وقد تم لهم، وقضوا على هذه الدعوة بعد مرور مئة سنة على نشأتها, وهدموا الدرعية على رؤوس قاطنيها, وقتلوا من قتلوا من العلماء، وسجنوا من سجنوا، وأسروا من أسروا إلى مصر؛ ثم إلى الأستانة من أحفاد، وأبناء الشيخ، وتلاميذه.
فالذي قضى على الدولة السعودية الأولى؛ الخلافة العثمانية بواسطة محمد علي، وبمعاونة الفرنسيين والإنجليز الذين رأوا خطر الدعوة على مصالحهم، وعرفوا أن من المصلحة والفائدة تعاونهم مع الخلافة العثمانية؛ حيث عرفوا أن هذه الدعوة السلفية النقية تدعو إلى الدين الصافي؛ إذن فالكفار يعرفون حقيقة الدين؛ لذلك كنا نقول لجماعة التبليغ الذين يتباهون بأن دعوتهم قد دخلت إسرائيل: إسرائيل لو علمت فيكم خيراً ما أدخلتكم, وإلا فهل هل تسمح إسرائيل بدخول سلفي؟! فالكفار من أكثر الناس معرفة لحقيقة الدين، وحقيقة الدعوة السلفية؛ لذلك لا تندهش إذا رأيت الإخوان لهم علاقة بالأمريكان، وأن أمريكا تضغط على مصر حتى تسمح لهم بالمشاركة في الحياة السياسية؛ بل وأحياناً نجدها تدافع عن الجماعات بحجة حقوق الإنسان، وذلك لأنها تعلم تماماً حقيقة دعوتهم.
أما قصة هذه الرسالة؛ فهي أن القصيم كان بها جماعة من كبار العلماء، وهؤلاء العلماء تتلمذوا على علماء الشام - حنابلة الشام - فلما سمعوا بدعوة الشيخ راسلوه، وسألوه: من أنت؟ وإلام تدعو؟ وهذا هو عين العقل والحكمة؛ لأن الإنسان أحياناً يسمع أن فلاناً فيه وفيه، وتصده الشبهات والأقاويل التي أثيرت حوله، وتمنعه من الاستماع له ومعرفة حقيقة ما يدعو له وهذا خطأ, ولنا في قصة الطفيل بن عمرو الدوسي هذا الرجل الجليل السيد؛ عبرة؛ لما ذهب إلى مكة ورآه صناديد قريش؛ قالوا له: لا تستمع لمحمد فإنه كذا وكذا؛ فسمع منهم حتى إنه اشترى كرسفاً وسدّ أذنيه بهذا القطن, ثم فكر ملياً، وقال في نفسه: أنا امرؤ عاقل شاعر لبيب؛ لماذا لا أذهب إلى محمد وأسمع منه؛ فإن كان حقاً قبلته، وإن كان باطلاً رددته، وبالفعل ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه وعلم أن ما يقوله صلى الله عليه وسلم هو الحق فاتبعه وبايعه وأعلن إسلامه، وكان من أوائل من أسلموا.
أحياناً تريد الذهاب إلى شيخ ما؛ فيأتيك شخص، ويقول لك: لا تذهب للشيخ الفلاني؛ لماذا؟ لأنه يطعن في أهل العلم، ويقول كذا وكذا، وأنت للأسف تمتثل قوله، وهذا خطأ؛ فلم لا تذهب إليه، وتقول له: يا فلان بلغني عنك كذا وكذا، ولنا في حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه أسوة؛ فإنه لما جاءه رسول النبي الله صلى الله عليه وسلم؛ ماذا فعل؟ أتى للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: جاءني رسولك - انظر إلى الحكمة - وزعم أن الله أرسلك إلى الناس نبياً .. إلى آخر الحديث.
والآن جاء أوان الشروع في الشرح والتعليق على رسالة الشيخ محمد.
قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في رسالته إلى أهل القصيم لما سألوه عن عقيدته:
بسم الله الرحمن الرحيم؛ أُشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأُشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية, أهل السنة والجماعة.
يقول الشيخ رحمه الله: أُشهد الله: لأن الله شهيد, ومن حضرني من الملائكة: من الحفظة والكتبة {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أُشهد الله، ومن حضرني من الملائكة؛ هذا يدل على صحة عقيدته, وصدق لهجته، وأُشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية: يعني اعتقادي هو اعتقاد الفرقة الناجية، وهي التي تسير على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، وافترقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا فرقة واحدة؛ قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "ما أنا عليه وأصحابي"، وليس معنى ذلك؛ أن بقية الفرق في النار جزماً ويقيناً؟ لا؛ بل هي مستحقة للوعيد - تحت المشيئة - ومنها ما يكون في النار إذا كانت بدعتها مكفرة؛ لأن البدعة قسمان: بدعة مكفرة وبدعة مفسقة, فأصحاب البدعة المكفرة في النار, وأصحاب البدعة المفسقة هؤلاء تحت الوعيد.
 ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة: هذا وصف للفرقة الناجية أنهم أهل السنة والجماعة السائرون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ثم ذكر الشيخ أمثلة لذلك, فقال: من الإيمان بالله: ويدخل في ذلك التوحيد بأنواعه الثلاثة؛ توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات,
وملائكته: الملائكة عالم من العوالم خلقه الله سبحانه وتعالى لا نراهم, خلق لطيف من خلق الله تعالى منهم الحفظة ومنهم حملة العرش ومنهم الموكل بالقطر ومنهم الموكل بالوحي ومنهم الكتبة وهكذا, لأن الله سبحانه وتعالى جعلهم أصنافاً؛ كل صنف له مهمة محددة. هؤلاء الملائكة {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ومن أوصافهم أنهم: لا يتبولون ولا يتغوطون ولا يتناكحون ولا يأكلون ولا يشربون.
وكتبه: نؤمن أن الله سبحانه وتعالى أنزل الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن الكريم، وهو أعظمها، وهذا من الأدلة على أن كلام الله يتفاضل.
ورسله: ونؤمن أن الله أرسل رسلاً له لا نعرف عددهم؛ قد ذكر منهم جملة في القرآن الكريم؛ كما تكلم عن إبراهيم وعيسى وموسى وآدم ونوح وإلياس وهود وأيوب إلى آخر ما ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}.
إذن الإيمان بالكتب؛ ينقسم قسمين: إيمان مجمل، وإيمان مفصل؛ أما المجمل؛ فنؤمن أن الله سبحانه وتعالى أنزل الكتب وأرسل الرسل؛ هذا إجمالاً, أما التفصيل: فنسمي الكتب، ونسمي الرسل, وهذا هو الفرق بين العامي وطالب العلم؛ فالعامي يؤمن في الجملة بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر, لكن تفصيلات هذا الإيمان؛ يعرفه طالب العلم, يفصل؛ ويقول: الملائكة أصنافهم, وأنواعهم, المهام الموكلة إليهم, ويفصل في الرسل، ويفصل في الكتب.
والبعث بعد الموت: أي أن الله سبحانه وتعالى سيبعث الناس بعد موتهم، وهو ما يسمى باليوم الآخر.
والإيمان بالقدر خيره وشره: الشيخ ذكر هاهنا أصول الدين وأركان الإيمان الستة، وهي: (الإيمان بالله, الإيمان بالملائكة, الإيمان بالكتب, الإيمان بالرسل, الإيمان باليوم الآخر, والإيمان بالقدر خيره وشره) هذه هي أركان الإيمان، وأصول الدين, والإيمان له أركان، وله شعب, أركانه ستة, وشعبه؛ روي أنها بضع وسبعون، وروي أنها بضع وستون. والمسألة التي نتوقف أمامها قليلاً الآن مسألة القدر. عقيدة أهل السنة والجماعة في القدر: نؤمن بالقدر خيره وشره، وأن الله قدر مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
هل افترقت الأمة في باب القدر؟ نعم؛ القدرية، وعقيدتهم في القدر أن الأمر أنف؛ أي مستأنف؛ أي أن العبد يستقل بفعله, ومنهم الغلاة الذين قالوا: إن الله لا يعلم فعل العبد إلا بعد وقوعه, وهؤلاء؛ كفرهم السلف, وقد انقرضوا.
والمعتزلة الذين يوجدون بين أظهرنا اليوم؛ قدرية؛ يقولون: إن الله سبحانه وتعالى لم يقدر هذه المقادير, فالقدرية الأول؛ ينكرون المرتبتين الأوليين؛ العلم، والكتابة؛ لذا كفرهم أهل العلم, أما المتأخرون ؛ فينكرون المرتبتين الأخريين؛ المشيئة، والخلق.
ومن لوازم الإيمان بالقضاء والقدر؛ أن نعرف أن الإيمان بالقضاء والقدر على أربع مراتب,
المرتبة الأولى: علم الله الأزلي؛ فهو سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون؛ يعلم الممكنات والمستحيلات.
المرتبة الثانية: الكتابة, أي أنه سبحانه؛ كتب كل شيء في اللوح المحفوظ؛ فأول ما خلق الله القلم؛ قال: اكتب, قال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة.
المرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة؛ فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
المرتبة الرابعة: الإيجاد والخلق, وهي أن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء فقدره تقديراً؛ فهو سبحانه {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}
في مقابل القدرية؛ قامت الجبرية الذين يقولون بالجبر؛ أي أن العبد ليس له اختيار ولا مشيئة؛ فالقدرية يقولون: لا فاعل إلا العبد, والجبرية يقولون: لا فاعل إلا الله, وأهل السنة وسط بينهما.
ومن الإيمان بالله؛ الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل؛ لأنه لا أحد أعرف بالله، من الله، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأوصاف؛ جاء المخلوق العاجز الحقير فنفى هذه الصفات بحجة تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات؛ زعم.
فعقيدة أهل السنة والجماعة في باب الصفات؛ أنهم يؤمنون بها ويمرونها كما جاءت؛ من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
والتحريف يكون في اللفظ، ويكون في المعنى.
في اللفظ: كقولهم: استوى بمعنى استولى؛ في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}؛ فشابهوا اليهود عندما قيل لهم: {َقُولُواْ حِطَّةٌ}؛ فزادوا (نون) وقالوا: حنطة, فهذا تحريف في اللفظ, ودليلهم بيت من الشعر لا يُعرف قائله
استوى بشرٌ على العراق           من غير سيف ودم مهراق
ومن المعلوم أنه لا يُقال: استولى؛ إلا بعد قهر وغلبة؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
أما أهل السنة والجماعة؛ فيعقلون معنى الاستواء، ويقولون: (استوى) يعني: صعد, علا, ارتفع، استقر, هذه ألفاظ يفسرون بها الاستواء؛ فهو سبحانه وتعالى فوق سماواته؛ مستو على عرشه؛ بائنٌ من خلقه.
أما تحريف المعنى؛ فكأن يُقال في تفسير اليد في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} بأنها النعمة أو القدرة. وأهل السنة والجماعة يثبتون لله يداً على الحقيقة؛ لكن ليست كيد المخلوقين؛ لأننا نقول للمخالفين: هل تثبتون لله ذاتاً؟ فيقولون: نعم, فنقول لهم: فهل ذاته تعالى كذات المخلوقين؟ فيقولون: لا؛ فنقول لهم: إذن؛ فأثبتوا لله صفات؛ لكن ليست كصفات المخلوقين؛ فإن قالوا: إن أثبتنا لله الصفات؛ فكأنما أثبتنا له الجسم والجوهر؛ لأن الصفات لا تكون إلا لجسم؛ أو جوهر - هكذا ظنهم - قلنا: لا يوجد خارج الذهن ذات مجردة عن الصفات.
أما التعطيل؛ فهو نفي الصفات وجحدها؛ فالجهمية والمعتزلة والأشاعرة معطلة في هذا الباب؛ على اختلاف بينهم؛ فالجهمية نفوا الأسماء والصفات، والمعتزلة نفوا الصفات، وأثبتوا أسماء مجردة بلا معاني، والأشاعرة أثبتوا بعض الصفات، ونفوا البعض الآخر, فحقيقة المعطل أنه لا يعبد شيئاً؛ فإلهه الذي يعبده ليس سميعاً ولا بصيراً ولا قادراً ولا رازقاً ولا حياً ولا قيوماً، وإن أثبتوا شيئاً من ذلك؛ قالوا: سميع بلا سمع؛ بصير بلا بصر، وهكذا؛ فهم في الحقيقة يعبدون عدماً.
أما التكييف؛ فالمراد به تكييف الصفة، والفرق بينه وبين التمثيل؛ أن التمثيل؛ أن تقول: يد كيدي، ووجه كوجهي، وهكذا؛ أما التكييف؛ فعبارة عن تخيل معين للصفة في الذهن.
فنحن نثبت لله سبحانه تعالى الصفات العليا؛ من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل؛ انطلاقاً من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ففي هذه الآية نفى سبحانه المثلية وأثبت الصفات؛ هذا هو منهج أهل السنة والجماعة باختصار؛ في باب الصفات.
فمحال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ولم يترك خيراً إلا ودلنا عليه، ولا شراً إلا ونهانا وحذرنا منه؛ وعلمنا كل شيء؛ حتى الخراءة؛ فمحال يترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب العظيم؛ الذي هو من أشرف العلوم ومن أهم ما يتوجب على المسلم أن يتعلمه؛ أن يتركه هكذا دون أن يبينه؛ مع حاجة الناس لذلك؛ هذا محال, لكن لما ذهب أقوام ذات اليمين وذات الشمال وركبوا الصعب والذلول وحكموا عقولهم بل إن شئت أهواءهم في نصوص الكتاب والسنة؛ جعلهم هذا يحيدون على الحق، ويؤولون ويحرفون في آيات الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن جئت جابهتهم قالوا لك: هذا من المجاز, أو هذا من المتشابه الذي لا نعلمه, أو هذا من الخطاب الذي لا نفهمه؛ فأضافوا جهلاً إلى جهل, فمحال أيضاً أن يخاطبنا ربنا سبحانه وتعالى بما لا نعرف, محال أن يخاطبنا ربنا سبحانه وتعالى بما لا نعلم, محال أن يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولم يبينه, كيف وقد قال ربنا سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} هذا التخبط الذي حدث في العقود المتأخرة بعد عصر الصحابة رضوان الله عليهم؛ إنما حصل نتيجة تحكيم النصوص إلى العقول وإلى الأهواء.
يدلك على ذلك؛ بعض ما تجد من أقاويل القوم وآرائهم في باب الأسماء والصفات, فمثلاً عند أن تقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح: "لا شخص أغير من الله" ماذا يفعل الذي يريد أن يحرف؛ بل إن شئت قل: يعطل ربنا سبحانه وتعالى عن صفة من صفاته؟
قال ابن بطال: أجمعت الأمة - انظر حتى لا يغتر طالب العلم - قال ابن بطال: أجمعت الأمة على أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأنه (شخص)!
قد تنطلي هذه الجملة على طالب العلم؛ فيعتقد أن في المسألة إجماعاً، ولا إجماع.
لأن الإجماع من زعم ابن بطال, وابن بطال أشعري, أجمعت الأمة على أن الله تعالى يوصف بأنه شخص, والرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم عن ربه؛ فيقول: "لا شخص أغير من الله".
انظر مثلاً في كلام الخطابي في شرحه لحديث اليهودي الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد إن الله يضع السماوات على إصبع ويضع الأرض على إصبع, فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
راوي الحديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ يقول: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديقه لليهودي, يعني ضحك النبي صلى الله عليه وسلم لأن اليهودي؛ قال كلمة الحق؛ قال حقاً، وقال صدقاً, ماذا قال الخطابي؟ الخطابي أشعري؛ قال: لا, هذا بحسبان عبدالله بن مسعود, يعني عبدالله ابن مسعود؛ يحسب أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تصديقاً لليهودي, لا إنما ضحك النبي صلى الله عليه وسلم من تشبيه اليهودي بخلقه؛ بأن له إصبع؛ انظر!
وابن تيمية له كلام طويل الذيل في هذا الباب؛ يقول: لا تتحاكموا إلى النصوص، ولكن تحاكموا إلى الفطر السليمة والعقول القويمة. وهؤلاء: لا فطرة سليمة ولا عقلاً قويماً؛ تركوا الجميع.
فينبغي لطالب العلم أن يعرف أنه لم يحدث تنازع البتة بين الصحابة ولا بين الصدر الأول من التابعين؛ في صفة من صفات الله, لم يحدث مطلقاً؛ إنما كما ذكرنا جاء الخلاف عندما دخلت الأهواء بين المسلمين, وكما قلنا سبب الخلاف؛ إما التحاكم إلى الأهواء، أو التحاكم إلى العقول، أو العجمة بسبب انتشار الموالي بين المسلمين؛ انتشرت العجمة فابتعدوا عن اللسان العربي السليم؛ فلم يعرفوا المعاني المرادة من هذه الألفاظ المذكورة في الكتاب أو في السنة.
ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم, من غير تحريف ولا تعطيل, بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
إذا سألتك وقلت لك: ما اسمك؟ تقول: أحمد؛ فأقول لك: لا لست بأحمد!
هكذا يفعل الملاحدة الذين يلحدون في أسماء الله وصفاته؛ الله سبحانه وتعالى يقول عن نفسه: إنه سميع بصير؛ يصف نفسه بأوصاف، ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوصاف، وجاءوا هم فنفوا هذه الصفات.
لذلك قال أئمة السلف: نمرها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ولم يقولوا: تشبيه. وهذه دقة منهم رحمهم الله؛ لأن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}؛ فالمثلية هي الواردة.
ومن القواعد الهامة أيضاً في هذا الباب: أنه إن اتفقت الصفات في اللفظ وأصل المعنى؛ فلا يلزم أن تتفق في الحقيقة؛ فاليد مثلاً؛ الله تعالى له يد، والمخلوق له يد, الله سبحانه وتعالى له سمع والمخلوق له سمع, له بصر، والمخلوق له بصر؛ وجه, قدم, رجل, وهكذا؛ هل من لازم ذلك الاتفاق في أصل المعنى، والاتفاق في اللفظ؛ أن يتفق في الكيف ويتفق في الحقيقة؟ لا.
وانظر إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن في الجنة من المآكل والمشارب ما هو موجود بنفس اللفظ في الدنيا، وليس منها في الدنيا شيء "ليس في الجنة مما في دنياكم إلا الأسماء".
فهناك خمر في الدنيا، وهناك خمر في الآخرة؛ فاتفقا في اللفظ وأصل المعنى, لكن خمر الآخرة ليست كخمر الدنيا, وهكذا في جميع المآكل والمشارب.
أيضاً عندما نقول ونصف الأسد بأنه شجاع، ونصفك أنت بأنك شجاع، وشجاعتك تختلف عن شجاعة الأسد, نصف الخيل بأن له ساق، ونصفك أنت بأن لك ساق، وساقك تختلف عن ساق الخيل, وهكذا, فهذا باب كما ذكرنا طويل.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وهذه كما ذكرنا فيها نفي وفيها إثبات, نفي وإثبات, ينفي الله سبحانه وتعالى عن نفسه المثلية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ويثبت الصفات {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وهذه الآية هي عمدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب، ومعها آيات أخر؛ كسورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} معنى الأحد: الذي استحق جميع صفات الكمال بلا نقص ولا عيب, والصمد: الذي لا جوف له وهذا قول أكثر السلف، والتفسير الثاني: يصمد إليه الخلائق, نعم؛ وآية الكرسي, والآيات التي تكلمت عن الصفات في "مريم" وفي "الحديد" وفي سورة "الحشر"؛ فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه.
لكن هناك ضابط؛ لأن هناك بعض الأحاديث التي ذكرت الصفات؛ ضعيفة لا تصح. الضابط: أن ما ثبت من الصفات في كلام الله وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم نثبته ولا ننفيه؛ لأنه ليست كل الأحاديث التي وردت في الصفات أحاديث ثابتة صحيحة؛ فمنها ما هو ضعيف, بل منها ما هو موضوع؛ فلنكن على حذر من هذه الأحاديث.
ليست كل الأحاديث التي تكلمت عن الصفات ثابتة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا ما ثبت الحديث نثبت الصفة, فليس لنا أن ننفي صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى وصفه بها أعلم الخلق بالله سبحانه وتعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا معنى كلام الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
ولا أحرف الكلم عن مواضعه.
الملحد قد لا يستطيع أن ينفي صفة من الصفات؛ لأن هذه الصفة في القرآن، أو في حديث ثابت لا يستطيع الطعن فيه؛ فيعمد إلى طريقة أخرى لنفيها، وهي تحريفها كما حرفوا صفة الاستواء, وكما حرفوا صفة الكلام، والصفات إما أن تثبت بالكتاب أو تثبت بالسنة, بعض الصفات وردت في الكتاب ووردت في السنة، وبعضها لم يرد إلا في السنة, والذي ورد في السنة نفوه نفياً مطلقاً, والذي ورد في الكتاب لم يستطيعوا نفيه؛ فلجأوا إلى التحريف, مثل "الكلام" وارد في الكتاب ووارد في السنة, فالسنة نفوها, والكتاب قالوا: نعم نثبت له صفة الكلام؛ لكن كلام نفسي قائم بذاته سبحانه وتعالى
ولا ألحد في أسمائه وآياته.
ما الإلحاد؟ الإلحاد في اللغة: الميل {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} الميل؛ فيميلون عن مراد الله، ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بتفاسير لم يردها الله سبحانه وتعالى، ولم يردها رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: هذا هو مراد الله, مع أن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم على النقيض من ذلك؛ كما يقولون في اليد: هي القدرة. فنقول لهم: أنتم تقولون بقدرة، أم قدرتين؟ فما قولكم في قول الله سبحانه وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فأنتم إذاً أثبتم قدرتين, ثم كيف تُبسط القدرة؟ سبحان الله! والله سبحانه يقول: {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} هذا تأكيد لصفة اليد.
ولا أكيف.
التكييف: أن تتخيل في الذهن كيفية لهذه الصفة, بخلاف التشبيه, التشبيه أن تقول: يد كيدي, ورجل كرجلي, وسمع كسمعي, بصر كبصري, هذا هو التشبيه؛ لكن التكييف أن تتخيل وتكيف الصفة في ذهنك؛ فالله سبحانه وتعالى لا كيف له.
ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفء له.
لا سمي له: من قول الله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} وهذه الآية جمعت أنواع التوحيد الثلاثة توحيد الربوبية "رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، وتوحيد الألوهية "فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ"، وتوحيد الأسماء والصفات "هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً". فالله تعالى لا سمي له ولا كفء له.
ولا ند له ولا يُقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً, فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل.
وأنت تقرأ في الفرق التي نبغت في الأمة؛ تجد أنه ما من قول قيل؛ خالف به أصحاب هذا القول أصول أهل السنة والجماعة؛ إلا وقام بإزائه قول آخر يُضاده، ويخالفه.
فأول ما نبغت القدرية؛ قامت بإزائها الجبرية؛ القدرية قالوا: لا فاعل إلا العبد، والجبرية قالوا: لا فاعل إلا الله؛ المعطلة نفوا الصفات؛ فقامت بإزائهم المجسمة.
لذلك دائماً أهل السنة وسط بين الفرق؛ فهؤلاء غلوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه؛ كما يقول الشيخ محمد.
وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل؛ فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى؛ بين القدرية، والجبرية.
ذكرنا قبل ذلك أصول القدرية وأصول المرجئة؛ من أول من قال بالقدر؟ معبد الجهني, والذي قال بالجبر الجهم بن صفوان, الجهمية جبرية والمعتزلة قدرية والأشاعرة جبرية, والأشاعرة في الحقيقة عند أن تتمعن في قراءة نصوصهم ونصوص أئمتهم؛ يتضح لك أنهم لا يتفقون مع أهل السنة والجماعة إلا في أمور يسيرة جداً.
والقول بالجبر عقيدة مفسقة، ليست مكفرة؛ لأن كل من ذهب إلى قول من الأقوال المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة، وكان عماده التأويل؛ نظرنا: فإذا كان هذا التأويل سائغاً؛ كان هذا من موانع التكفير, لأن من شروط التكفير عدم التأويل غير السائغ.
فما تأويل الجبرية السائغ الذي حدا بهم أن يقولوا: إنه لا فاعل إلا الله؟
قوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}.
وهذه قاعدة: قلما تجد فرقة من الفرق التي خالفت أهل السنة والجماعة إلا واعتمدت على ظواهر من الكتاب أو من السنة؛ لذلك دائماً نقول: ليس الشأن في الدليل؛ إنما الشأن في صحة الدليل, بل أحياناً تجد الجميع: أهل السنة والجماعة، وبقية الفرق؛ تعتمد على دليل واحد, يعني مثلاً عند ما ذكرنا في شرح البربهاري مبحث الرؤية؛ الجميع غالباً يعتمدون على: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فالذين نفوا الرؤية اعتمدوا على هذه الآية، والذين أثبتوا الرؤية اعتمدوا على هذه الآية أيضاً؛ بيد أن الله تعالى؛ هدى أهل السنة والجماعة لفهم الآية فهماً صحيحاً.
وهم في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية.
جاء ذكر الوعد والوعيد في نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ أما الوعد: فهو ما وعد الله سبحانه وتعالى به الطائعين من النعيم المقيم, والوعيد: ما توعد الله سبحانه وتعالى به العاصين من العذاب الأليم.
فأخذ أقوام بالنصوص التي جاءت في الوعد، كقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً }, وقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وأغفلوا النصوص التي جاءت في الوعيد.
وفي المقابل: اعتمد أقوام النصوص التي جاءت في الوعيد، وأغفلوا النصوص التي جاءت في الوعد؛ الوعيدية وهم الخوارج والمعتزلة؛ اعتمدوا آيات الوعيد فقط، ولم يلتفتوا إلى آيات الوعد، والفارق بين الخوارج والمعتزلة: أن مرتكب الكبيرة عند الخوارج، وعند المعتزلة مخلد في النار, لكن في الدنيا: الخوارج يكفرونه، والمعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين.
فلا توجد فرقة قالت بقول، إلا وقامت بإزائها فرقة تقول بضده؛ فالخوارج والمعتزلة أغفلوا نصوص الوعد وأخذوا نصوص الوعيد, فقامت المرجئة: أغفلوا نصوص الوعيد التي أخذ بها الخوارج والمعتزلة، وأخذوا بنصوص الوعد, وأن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان, ولا يضر مع الإيمان ذنب أو معصية.
وأهل السنة: وسط بين الوعيدية الخوارج والمعتزلة, وبين أهل الوعد المرجئة، والمرجئة عماد مذهبهم كما ذكرنا: مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان, هؤلاء هم المرجئة؛ ثم افترقوا إلى أصناف, وهذه أيضاً قاعدة: لا توجد فرقة نبغت في الأمة الإسلامية؛ إلا وتشعبت تشعب الباطل؛ لأنه لا يوجد حق؛ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} سبحان الله! فانقسموا إلى فرق.
أول فرقة: مرجئة الفقهاء الذين اعتبروا العمل شرط كمال في الإيمان, ثم الأشاعرة الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، ولو لم ينطق باللسان, والفرقة الثالثة الكرامية نسبة لعبدالله بن كرام السجستاني؛ قالوا: الإيمان قول باللسان فقط, ثم الفرقة الرابعة والأخيرة وهي أخبث فرق المرجئة وهي الجهمية الذين قالوا: إن الإيمان هو المعرفة فقط، ولو لم يحصل التصديق, مجرد المعرفة هي الإيمان, إذاً فرق المرجئة أربعة.
مرجئة الفقهاء, أخرجوا العمل من مسمى الإيمان؛ مع أن كل آية ذكر الله سبحانه وتعالى فيها الإيمان؛ ذكره مقروناً بالعمل {الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فقرن الإيمان بالعمل؛ فالعمل من الإيمان، ولا إيمان إلا بعمل، وعلى هذا إجماع السلف؛ قال الأوزاعي: كنا والتابعون متوافرون؛ نقول: إن الإيمان قول وعمل, وكذا قال الشافعي وغير واحد من أئمة السلف.
ونرد على الأشاعرة الذين قالوا: إن الإيمان التصديق بالقلب فقط، ولو لم ينطق باللسان؛ بقول الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} يعني: لا ينطقون بكلمة التوحيد؛ ثم على قولهم؛ فإن أبا طالب مؤمن من أهل الجنة.
ونرد على الكرامية؛ بأن عبدالله بن أبي بن سلول وبقية المنافقين الذين يقولون: (لا إله إلا الله) ويصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويصومون معه، ويضحون معه، ويحجون معه، بل ويجاهدون معه؛ هم في الدرك الأسفل من النار.
والجهم بما سبق.
وعقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان؛ أنه: قول وعمل؛ يزيد وينقص, يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
والقول: قول القلب وقول اللسان, والعمل: عمل القلب وعمل الجوارح, وقول القلب: إقراره وتصديقه, وعمل القلب: جميع الأعمال القلبية؛ كالخشية والإنابة والتوكل والرهبة والرغبة والحب, وقول اللسان: هو القول المخصوص؛ النطق بـ (لا إله إلا الله), وعمل الجوارح هو ما ظهر على الجوارح من أعمال؛ كالصلاة والصيام والحج، وغيرها من أركان، وواجبات الإسلام.
فمن نطق بالشهادتين, فهو مسلم في الظاهر؛ لكن لمَّا يدخل في الإيمان بعد, له ما للمسلمين؛ فإن تُرك زمناً، ولم يأت بعمل ظاهر واجب بأصل الشرع؛ فهو كافر.
وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية.
أهل السنة والجماعة - الطائفة المنصورة والفرقة الناجية - جعلهم الله سبحانه وتعالى وسطاً بين الفرق؛ فهم في باب الإيمان - مثلاً - وسط بين الحرورية والمعتزلة, وبين المرجئة والجهمية. والإيمان في اللغة: ليس له تعريف مطرد، والمشهور التصديق, وفيه قصور كبير، وقيل نفس التصديق, وقيل التصديق الذي ضد التكذيب؛ لكن ذكر المحققون من أهل العلم أن الإيمان في اللغة يأتي على خمسة أوجه:
الوجه الأول: يأتي بمعنى التوحيد؛ قال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}.
ويأتي بمعنى الصلاة: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}.
ويأتي بمعنى التصديق: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أي بمصدق لنا.
ويأتي بمعنى الإيمان الشرعي الذي هو قول وعمل واعتقاد: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ}.
الخامس: يأتي بمعنى الإقرار باللسان، ولو لم يكن معه تصديق: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ}؛ آية أخرى: {ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} يعني: آمنوا بألسنتهم.
إذاً لا يصلح أن تقول: الإيمان هو التصديق؛ يقول ابن تيمية: التصديق اسم متعدي يتعدى بنفسه؛ إما بمعنى آمنت له؛ فهذا لا يتعدى بنفسه؛ إنما يحتاج حرف جر؛ فإذا كلمك أحد، وقال: لقد حدث كذا وكذا؛ فتقول له: أنا مصدقك, ولا يصلح أن تقول: أنا مؤمنك؛ بل لابد أن تقول: أنا آمنت لك، أو آمنت بكلامك.
فهذا هو الفرق بين التصديق، وبين الإيمان.
وهناك فارق آخر قاله، وهو أن التصديق يشمل كل خبر؛ بخلاف الإيمان فلا يشمل إلا خبر مخصوص. وهذا الخبر هو خبر الغيب, إذا أخبرك إنسان عن شيء غيبي؛ هنا يصح أن تقول: آمنت بما جئت به، ولا تقل: قد صدقتك, فهذا هو الفارق بين الإيمان، والتصديق.
نأتي إلى تعريف الإيمان اصطلاحاً، أو كما يذكرون: شرعاً. فتعريف الإيمان شرعاً؛ افترقت فيه الفرق؛ فأهل السنة والجماعة يقولون: إن الإيمان قول باللسان وعمل بالجوارح والأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, وأحياناً يقولون: قول وعمل, وأحياناً يقولون: الإيمان قول وعمل ونية, أو: قول وعمل ونية واتباع للسنة؛ هذه كلها أربعة أقوال سلفية تدور حول تعريف الإيمان شرعاً أو اصطلاحاً، وكل هذه التعريفات تؤدي إلى معنى واحد.
وهذا التعريف الشرعي هو الذي عليه إجماع السلف, ذكر هذا الإجماع؛ الشافعي وعبدالله بن المبارك وابن تيمية والآجري وغيرهم؛ أن الإيمان قول وعمل.
ودليل قول القلب من الكتاب؛ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}، وقوله: {قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
ومن السنة؛ قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه دخل الجنة".
ودليل قول اللسان: قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}.
ومن السنة: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله، عز وجل".
دليل عمل القلب: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}، وقوله: {وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ}, وقوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }, و{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}
ودليل عمل الجوارح: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}, {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}.
ومن السنة: "بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت".
والإيمان يزيد بالطاعة؛ قال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ}، وقال: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، وقال تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً}، وقال عمر رضي الله عنه: "هيا بنا نؤمن ساعة"، وهذا مركوز في الفطر؛ فإن الإنسان يعلم من نفسه إذا فعل طاعة؛ أنه ازداد إيماناً، وإذا فعل معصية؛ أن إيمانه نقص.
وهناك إجماع من السلف على أن الإيمان يزيد؛ أما النقصان فقد خالف فيه مالك, لم يخالف في المعنى؛ فالإيمان ينقص عنده؛ إنما خالف في اللفظ؛ كأنه كره أن يقال: الإيمان ينقص؛ لكن له كلام آخر يفيد رجوعه إلى قول السلف، وموافقته لهم.
وإذا كان يقبل الزيادة؛ فلا شك أنه يقبل النقصان؛ فإنه ما زاد إلا بعد أن نقص, وفي الحديث: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من خير, أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال برة من خير, أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من خير"، وهناك أصرح من ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"؛ إذاً الإيمان: يزيد وينقص.
والإيمان والعمل متلازمان؛ فلا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان, فإذا أخرجت العمل من الإيمان وقعت في الإرجاء شئت أم أبيت.
والإسلام غير الإيمان, الإسلام يفيد الأعمال الظاهرة، أما الإيمان فيفيد الأعمال الباطنة، وهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
والإيمان أفضل من الإسلام، والجنة لا يدخلها إلا مؤمن؛ لأن الجنة دخولها يتعلق بمسمى الإيمان وليس بمسمى الإسلام؛ فالإيمان أعم من الإسلام؛ فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن.
وإذا أطلق الإيمان أُريد به الدين كله؛ فجميع الأعمال وجميع الطاعات دخلت في الإيمان.
ويجوز الاستثناء في الإيمان على اعتبار عدم تزكية النفس؛ قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}؛ فتقول: أنا مؤمن إن شاء الله. أو باعتبار المآل؛ فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن. وفي الحديث: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو: ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة".
وللإيمان ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أصل الإيمان, أو مجمل الإيمان, أو الإيمان المجمل, أو مطلق الإيمان, وهو الحد الأدنى للإيمان الذي إذا لم يأت به العبد؛ دخل في الكفر, ولا يُتصور في هذه المرتبة النقص, ولكن يتصور فيها الزيادة؛ وهذه المرتبة هل هي واحدة لكل الناس؛ أم يتفاضلون فيها؟ ليست واحدة, لأن الاعتراف والإقرار والتصديق واليقين يختلف من فرد إلى آخر؛ "لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر".
المرتبة الثانية: الإيمان الواجب, أو الكمال الواجب, وهذه المرتبة أتى صاحبها بأصل الإيمان.
والإيمان الواجب: أن يأتي بجميع المأمورات، وينكف عن جميع المحظورات، وهذه المرتبة تقبل الزيادة والنقصان, فتزيد حتى يصل صاحبها إلى الإيمان المستحب, وتقل حتى يصل صاحبها إلى أصل الإيمان، أو مطلق الإيمان.
وأصحاب هذه المرتبة على قسمين:
الأول: أتوا بجميع الطاعات، وكفوا عن جميع المنهيات؛ فاستحقوا المرتبة بتمامها.
والقسم الثاني: تركوا بعض الواجبات، وانتهكوا بعض المنهيات؛ فصاروا من الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ}.
والصغيرة لا تؤثر على رتبة الكمال الواجب؛ لأنها تمحى بالاستغفار، وتمحى بالحسنات الماحيات.
المرتبة الثالثة: الإيمان المستحب، أو الكامل، أو المطلق، وهو أن يأتي بجميع المستحبات، وينكف عن جميع المكروهات
والأعمال تدخل في المراتب الثلاث؛ فالعمل يدخل في أصل الإيمان, وفي كمال الإيمان, وفي الإيمان المستحب.
وضابط ذلك: أن كل عمل أو قول؛ فعله كفر؛ فتركه من أصل الإيمان.
فسب الله, والاستهزاء بالأنبياء؛ هذا قول كفري؛ فتركه من أصل الإيمان.
والعمل الكفري؛ كإلقاء المصحف في الحش, أو قتل نبي؛ فهذا تركه من أصل الإيمان.
وفي المقابل: فكل عمل أو قول؛ تركه كفر؛ ففعله من أصل الإيمان؛ فالصلاة (عمل) تركها كفر؛ فيكون فعلها من أصل الإيمان, الشهادتان (قول) تركها كفر؛ فالإتيان بها يكون من أصل الإيمان.
أما ضابط الأعمال التي تدخل في المرتبة الثانية، وهي الإيمان الواجب؛ فكل عمل أو قول محرم لم يصل إلى الكفر؛ فتركه من أصل هذه المرتبة, والعكس: كل عمل أو قول واجب - لم يصل تركه إلى الكفر - ففعله من أصل هذه المرتبة.
وضابط الأعمال التي تدخل في المرتبة الثالثة: فكل عمل أو قول مستحب فعله؛ فالإتيان به من أصل هذه الرتبة, وكل عمل أو قول تركه مكروه؛ فتركه من أساس هذه الرتبة.
ويدخل المرء في الإسلام بالنطق بالشهادتين؛ ففي حديث فرات بن حيان رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتله وكان عيناً لأبي سفيان، وكان حليفاً لرجل من الأنصار؛ فمر بحليفه من الأنصار؛ فقال: إني مسلم؛ فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله إنه يقول: إني مسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منـهم فرات بن حيان".
وبأي لفظ يُفهم منه الإسلام؛ يصير مسلماً؛ فلا يلزم أن يقول: أنا مسلم؛ ففي قصة خالد رضي الله عنه؛ مع بني جذيمة؛ أنه دعاهم إلى الإسلام؛ فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا؛ فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا؛ فجعل خالد يقتلهم؛ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرفع يديه، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". وأنكر عليه إنكاراً شديداً.
فبأي لفظ يفهم منه أنه دخل في الإسلام؛ فقد دخل في الإسلام ظاهراً؛ مثل قول: "أسلمت لله, أسلمت, أنا مسلم, أسلمنا, صبأت, أنا معكم, أنا منكم.
ومن رأيناه يصلي فهذا مسلم؛ أو رأيناه يحج، وكذلك الأذان والإقامة، وهذه شعيرة من خصائص المسلمين، يؤذن ويقيم, ويدخل أيضاً بشهادة رجل عدل مسلم, كل هذه الأمور ينال صاحبها الإسلام الحكمي، وليس الإسلام الحقيقي, فيكون مسلماً حكماً، وليس حقيقةً.
أما المظاهر التي يشترك فيها المسلمون وغيرهم؛ فلا تصلح قرينة للحكم على الرجل بأنه مسلم؛ كالسلام عليكم، واللحية، والسواك, وغير ذلك.
وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق, منه بدأ وإليه يعود, وأنه تكلم به حقيقة, وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وشفيعه بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
ذكرنا غير ما مرة: أن عقيدة المسلم في القرآن الكريم؛ أنه كلام الله غير مخلوق, منه بدأ حقيقة بلا كيف، وآمن به المسلمون حقاً، وعلموا أنه منزل من عند الله سبحانه وتعالى, وكما ذكر غير واحد ممن كتب في عقائد المسلمين: (منه بدأ وإليه يعود) منه بدأ: يعني: منه خرج, تكلم به على الحقيقة من غير كيف.
إليه يعود: المقصود أن هذا في آخر الزمان, يرفع من الصدور ومن المصاحف, فمنه بدأ، وإليه يعود, هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة في كتاب الله, فالقرآن صفةٌ من صفات الله عز وجل, صفات الله بإجماع أهل السنة والجماعة ليست بمخلوقة؛ قال غير واحد من السلف: من قال: إن القرآن مخلوق؛ فقد زعم أن الله مخلوق, فقد زعم أن مخلوقاً خُلق بمخلوق؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }.
ظلت هذه العقيدة ثابتة راسخة في عهد الصحابة وفي عهد التابعين بل في عهد تابعي التابعين إلى أن حدث في زمن المأمون؛ ترجمة كتب اليونان والإغريق وكتب الفلاسفة والملاحدة؛ فدخلت العقائد المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة من جراء ترجمة هذه الكتب, وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال لعمر: "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟" لما رأى معه التوراة، وقال: "والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حياً، لما وسعه إلا أن يتبعني".
وأول من قال: القرآن مخلوق, الجعد بن درهم, وتلقفها منه الجهم بن صفوان الراسبي؛ الذي قُتِل بسيف الزندقة, فقد كان الولاة حريصين على قتل أهل البدع والأهواء؛ حتى لا تنتشر البدع في مجتمع المسلمين، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم؛ أنه لم يتلبث والٍ من بني أمية قط؛ ببدعة عقدية, إنما جاءت البدع في عهد الخلافة العباسية؛ لا سيما منذ عهد المأمون.
وقد تلقفت المعتزلة هذه العقيدة عن الجهم، وروجوا لها, حتى بلغوا سطوتهم في زمن المأمون عند أن كان قاضي قضاته هو أحمد بن أبي دؤاد؛ الذي زين للمأمون أن يمتحن الناس بهذه العقيدة الكفرية, حتى أنهم كانوا لا يولون أحداً شيئاً من الولايات؛ إلا إذا صرَّح بعقيدته الكفرية، وقال: بأن القرآن مخلوق, وأبلغ من ذلك: كانوا يمتحنون الأسرى في بلاد العدو؛ فإذا قال: القرآن مخلوق افتكوه, انظر إلى عظم الفتنة.
استمرت هذه الفتنة إلى زمن المأمون, ثم من بعده المعتصم, ثم من بعده الواثق, ثم جاء من بعد الواثق المتوكل, فرفع الله به المحنة, وأذن للناس أن يجاهروا بعقيدة أهل السنة والجماعة وهي: أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ، وإليه يعود.
القرآن كلام الله غير مخلوق؛ هذه عقيدة أهل السنة والجماعة التي استقر عليها الإجماع حتى يومنا هذا.
وقد انقسم الناس في هذه المسألة إلى فرق:
أهل السنة والجماعة، وقد ذكرنا معتقدهم.
الجهمية, وأذنابهم المعتزلة؛ قالوا: القرآن مخلوق.
اللفظية الذين جبنوا أن يقولوا القرآن مخلوق؛ فقالوا: لفظي بالقرآن مخلوق، وأول من قال بذلك؛ الحسين بن علي الكرابيسي.
الواقفة أو الشكاكة؛ الذين قالوا: نقول كلام الله ونقف؛ لا نقول: مخلوق، ولا غير مخلوق، وكلامهم في أصله حق؛ لكن هذا قبل الفتنة, أما وقد وقعت؛ الفتنة فلا يسعهم ذلك؛ بل ينبغي أن يقال: القرآن كلام الله غير مخلوق.
الأشاعرة يقولون: القرآن كلام نفسي قائم بذاته سبحانه وتعالى, لم يتكلم به على الحقيقة؛ بل تكلم به جبريل عليه السلام, ثم محمد صلى الله عليه وسلم, إذا تُكُلِّم به بالسريانية صار سريانياً, وإذا تُكُلِّم به بالعربية صار عربياً، وهكذا. إذاً لازم قولهم أن القرآن مخلوق؛ لذلك سمّاهم ابن تيمية مخانيث المعتزلة؛ لأنهم ليست عندهم شجاعة المعتزلة الذين قالوا صراحة: إن القرآن مخلوق. فهذا هو معتقد الأشاعرة في القرآن الكريم.
وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت؛ فأومن بفتنة القبر ونعيمه.
الإيمان باليوم الآخر؛ أحد أركان الإيمان الستة، ومنه: الإيمان بفتنة القبر ونعيمه, والمراد بفتنة القبر؛ سؤال الملكين: من ربك، وما دينك، ومن الرجل الذي بُعث فيكم, والشيخ محمد ألَّف في شأن هذا السؤال رسالة سماها (الأصول الثلاثة).
والدليل على عذاب القبر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين؛ فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، وحديث البراء بن عازب الطويل، وفيه: افتحوا له باباً إلى النار.
ومنكر عذاب القبر إذا قامت عليه الحجة؛ يكفر.
وبإعادة الأرواح إلى الأجساد.
هذا يسمى البعث؛ تعاد الأرواح إلى الأجسام بالنفخ في الصور؛ يلتقم إسرافيل عليه السلام الصور، وينفخ ثلاث نفخات؛ النفخة الأولى: تسمى نفخة الفزع: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ}.
النفخة الثانية: وهي المقصودة من كلام الشيخ محمد: نفخة الموت والصعق: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ}.
وفي آية: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}؛ نصب يعني: العَلَم؛ كأنهم إلى علم يتسابقون لا يتخلف أحد, المؤمن والكافر؛ بل الكافر قبل المؤمن تسوقه الملائكة سوقاً إلى أرض المحشر؛ لا يتخلف أحد؛ {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ}؛ يملؤون الأرض من كثرتهم, وهذا بعد نفخة البعث, عندما يبعثون وتعاد الأرواح في الأجساد, فالأرواح موجودة في الصور, وعند النفخ تذهب كل روح إلى جسدها، ويعاد الناس كما كانوا أول مرة؛ ثم يُساقون جميعاً إلى أرض المحشر, وهي بالشام كما وردت الروايات بذلك؛ قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}؛ فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلاً؛ تدنوا منهم الشمس، وتنصب الموازين، وتوزن بها أعمال العباد؛ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، وتنشر الدواوين؛ فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله.
والذي يوزن: العبد, وعمله, وصحائف أعماله, وهو ميزان واحد له كفتان ولسان, وهو شيء عظيم لا يعلمه إلا الله.
وأومن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة؛ ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل؛ آنيته عدد نجوم السماء؛ من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً.
هذا بالنسبة لحوض نبينا صلى الله عليه وسلم, وإلا فلكل نبي حوض، وحوض نبينا صلى الله عليه وسلم؛ أوسع الأحواض، وأعظمها، وأكثرهم مورداً، وهناك أناس يذادون عن حوضه صلى الله عليه وسلم، وهم المبتدعة.
وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر عليه الناس على قدر أعمالهم.
الصراط أدق من الشعرة، وأحد من السيف، وأحر من الجمر, مضروب على متن جهنم, يمر عليه الناس؛ منهم من يمر كالبرق, ومنهم من يمر كالريح, ومنهم من يمر كأجاويد الخيل, ومنهم من يمر كركاب الإبل, ثم عدواً, ثم مشياً, ثم زحفاً, ثم مكردساً في النار.
ثم يفترقون: فريق إلى الجنة؛ وفريق إلى السعير؛ فالكفار يذهب بهم إلى النار، والمؤمنون إلى الجنة, فيقفون على قنطرة؛ فيهذبون وينقون ويقتص الله من هذا لذاك؛ حتى إذا ما هذبوا ونقوا؛ مصداقاً لقول الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}.
ولا يدخلون الجنة حتى يستفتح لهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}؛ لكن في النار قال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}.
وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر الشفاعة إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى؛ كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وقال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، وقال تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى). وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله. وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب؛ كما قال تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين).
الشفاعة هي التوسط لدى الغير؛ لجلب منفعة أو دفع مضرة، وهناك فرق بين الشفاعة في الدنيا والشفاعة في الآخرة؛ فالشفاعة في الآخرة؛ لا تكون إلا من بعد إذن الله ورضاه عن لشافع والمشفوع؛ بخلاف الشفاعة في الدنيا.
فالشفاعة لا تكون إلا بعد رضى الله، وإذنه، وهي ست شفاعات:
الأولى: الشفاعة العظمى, وهذه لم ينكرها أحد.
الثانية: شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة.
الثالثة: شفاعته لعمه أبي طالب, وهذه الشفاعات الثلاث لا يشاركه فيها أحد.
الرابعة: إخراج أقوام من النار بعدما امتحشوا.
الخامسة: الشفاعة في أقوام استوجبوا النار أن لا يدخلوها.
السادسة: رفع درجات الناس في الجنة.
أما المعتزلة والخوارج فقد أنكروا الشفاعة الرابعة والخامسة؛ لأن مبدأهم؛ أن من استحق العذاب لا يستحق الثواب.
وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا تفنيان.

كما في الحديث: افتحوا له باباً الى الجنة، وافتحوا له باباً الى النار .. الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة ورأيت فيها قصراً .. الحديث، وقوله: "وأوريت النار"؛ كل هذا دليل على أنهما موجودتان الآن؛ لا تفنيان، ولا تبيدان.
والنار لها نفسان: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء, فأشد ما يكون من حر الصيف وقيظها؛ هو من نفس النار, وأشد ما يكون من برد الشتاء؛ هو من زمهرير النار.
الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان؛ لا تفنيان أبداً, لا تفنى الجنة ولا تفنى النار, لا تفنى الجنة ولا أهلها, ولا تفنى النار ولا أهلها؛ خلاف من قال: إن النار تفنى وتبقى الجنة, أو قال: بفناء الجنة وفناء النار.
وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة؛ كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته.
هذا من جملة مباحث اليوم الآخر، وهو مبحث عظيم جليل، ومعتقد أهل السنة والجماعة في هذا: أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة؛ ليس بينهم وبينه سبحانه وتعالى حجاب؛ كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب؛ يرونه بأبصارهم.
أما أهل البدع والأهواء من المعتزلة وغيرهم؛ فقد نازعوا في هذا، ونفوا الرؤية، وشغبوا على الناس بظواهر من الكتاب ظنوها أدلة؛ مثل قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
وهذا من جهلهم وضلالهم، وإلا فليس في قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} نفي الرؤية؛ بل المقصود نفي الإدراك؛ أي عدم الإحاطة.
تشغيب آخر منهم: لما طلب موسى صلى الله عليه وسلم من ربه الرؤية؛ قال له ربه سبحانه وتعالى: {لَن تَرَانِي}، وجاء النفي بـ (لن)، و(لن) تفيد التأبيد. هذا قولهم.
ورد عليهم أهل السنة؛ بأن (لن) لا تفيد النفي المطلق, إنما تفيد النفي المقيد المؤقت, والدليل: قول الله تعالى: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}؛ فالله سبحانه وتعالى يخبرنا عن اليهود أنهم لن يتمنوا الموت أبداً، ومع هذا؛ فيوم القيامة؛ يقولون: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ}؛ فعُلم أن (لن) يراد بها النفي المؤقت، وليس النفي المؤبد.
ثم إن موسى عليه السلام؛ من أولي العزم من الرسل، وما كان له صلى الله عليه وسلم؛ أن يطلب من الله مستحيلاً, أو ما لا يجوز في حقه؛ فلما طلب من ربه الرؤية؛ علم أنه طلب ما هو جائز، ومشروع.
وأيضاً: فالله سبحانه تعالى لم يقل: أنا لا أُرى يا موسى؛ بل قال: {لَن تَرَانِي} يعني: في الدنيا.
هذا وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كما ترون القمر ليلة البدر" أو "الشمس صحواً ليس دونها سحاب" هذا تشبيه الرؤية بالرؤية، وليس تشبيه المرئي بالمرئي.
وأومن بأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين ، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته.
أول الأصول، وأعظم القواعد: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)؛ فذكر الشيخ محمد (لا إله إلا الله)، وما يتعلق بها من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات؛ ثم لما انتهى من هذه المباحث؛ تكلم عن القسم الثاني من الشهادة, ألا وهو شهادة أن محمداً رسول الله, وهذا ترتيب بديع.
قال الشيخ رحمه الله: وأومن بأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين.
والنبي صلى الله عليه وسلم؛ هو خاتم الأنبياء والمرسلين, لا نبي بعده, ختم الله سبحانه وتعالى به الرسالة؛ لذلك سمي بنبي الساعة؛ لأنه بُعث بين يدي الساعة؛ "بعثت أنا والساعة كهاتين"؛ يعني: بعد بعثتى تكون الساعة؛ يعني: لا رسول بعدي.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون دجالون كلهم يزعم أنه نبي؛ ألا إنه لا نبي بعدي", وقوله: "أنا خاتم الأنبياء والرسل"، وقوله لعلي رضي الله عنه: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي".
ولو أقر أحد بلسانه بأن محمداً رسول الله, ولم يعمل بما جاء به؛ لم يمتثل أمره ولا نهيه؛ فهو كافر؛ والدليل قوله تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}.
والعكس: من اعتقد بقلبه أن محمداً رسول الله، ولم ينطقها بلسانه؛ فهو كافر أيضاً, والدليل: قوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ}.
ومن اعتقد بقلبه، وأقر بلسانه، ولم يتابعه؛ فهو كافر أيضاً.
إذاً فشروط تحقيق أن محمداً رسول الله؛ هي: النطق باللسان، والاعتقاد بالقلب، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته.
نعم؛ فقد شهد أقوامٌ بأنه لا إله إلا الله, ولم يشهدوا برسالته، ولا بصدق نبوته، وهم اليهود؛ فأكفرهم الله سبحانه وتعالى.
إذاً الشهادتان متلازمتان متطابقتان؛ تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة.
هذا مبحث الصحابة، وعقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ أننا نحبهم، ونوقرهم، ونقدرهم، ونحترمهم، ونثني عليهم، ونترضى عنهم، ولا نذكر مساوءهم، ولا نتكلم فيما شجر بينهم، ولا نتنقص واحداً منهم، وأنهم أفضل البشر قاطبة بعد الأنبياء والرسل. فمن جاء بخلاف ذلك؛ فهو من أهل البدع والضلال.
هذه عقيدتنا في الصحابة من حيث العموم؛ أما من حيث الخصوص؛ فهم يتفاضلون فيما بينهم, فأفضلهم على الإطلاق العشرة, وأفضل العشرة: أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم بقية العشرة, وبعد العشرة أهل بدر, وأهل بدر قال الله تعالى فيهم: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم"؛ ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان.
ومن أسلم قبل الفتح؛ أفضل من الذي أسلم عام الفتح، أو العام الذي بعده.
والمهاجرون أفضل من الأنصار؛ هذا من حيث العموم؛ فما من آية ذكر الله فيها المهاجرين والأنصار؛ إلا وبدأ بالمهاجرين؛ قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}، وفي آية وصفهم الله سبحانه وتعالى؛ بأنهم السابقون؛ أي المهاجرين؛ بينما وصف الأنصار بأنهم المفلحون؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم وأرتضى عنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساويهم وأسكت عما شجر بينهم وأعتقد فضلهم؛ عملاً بقوله تعالى: (والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم).
كل هذا من العقيدة؛ فمن عقيدة المسلم؛ أن لا يغل قلب امرىء مسلم على أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولتعلم أن ما شجر بين الصحابة؛ لم يكن بسبب أحد منهم, إنما بسبب خارج, كما دخل ابن اليهودية عبدالله بن سبأ، وفتن بين الناس, وكانت أول فتنته؛ هي تناول ولاة الأمر بالغمز واللمز, وانتهت بقتل عثمان رضي الله عنه؛ فأكثر ما في كتب التواريخ والسير؛ مكذوب عليهم؛ زيد فيه، ونقص، وحرف، ومحال أن يتفق ذلك مع إيمانهم, وأخلاقهم, وفضلهم، ودينهم، وورعهم.
وما صح منه: فهم مجتهدون, أخطأوا؛ فأصابوا أجراً واحداً, أو أصابوا؛ فنالوا الأجرين.
قال ابن تيمية في الواسطية: "الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب, ومنها ما قد زيد فيه ونُقص وغُيّر عن وجهه, والصحيح منه هم فيه معذورون, إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران, وإما مجتهدون مخطئون فلهم أجر".
وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء.
أمهات المؤمنين؛ هم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.
وأقر بكرامات الأولياء، وما لهم من المكاشفات؛ إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً.
انظر إلى فقه الشيخ محمد رحمه الله؛ قال: أقر بكرامات الأولياء. ولم يسكت؛ حتى لا يُطلب من هذا الولي؛ ما لا يُطلب إلا من الله عز وجل؛ فأتبع كلامه بهذه الجملة، وهي: (إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً)؛ أي: رغم هذه الكرامات؛ إلا أنهم لا يستحقون من حق الله شيئاً، ولا يُطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله.
والخارق إذا ظهر على يد نبي؛ فهذه تسمى معجزة, وإذا ظهر على يد رجل صالح؛ فهذه تسمى كرامة, وإذا ظهر على يد كافر أو ساحر؛ فهذا استدراج؛ يسمى خارق شيطاني, استدراج يستدرج الله سبحانه وتعالى به العباد.
وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الكثير والكثير من المعجزات؛ مما لم يكن لقبله من الأنبياء والرسل, ويكفيه صلى الله عليه وسلم شرفاً وفخراً؛ معجزته الخالدة القرآن الكريم.
فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم: نبع الماء من بين أصابعه, حنين الجزع؛ تقليل الطعام الكثير, تسبيح الحجر والشجر, نطق الشاة المسمومة, وغيرها كثير؛ فمعجزاته صلى الله عليه وسلم؛ لا تُحصر إلا بصعوبة.
وعقيدتنا في كرامات الأولياء: أننا نثبتها على وجهها الصحيح؛ بلا إفراط ولا تفريط؛ خلافاً للمعتزلة الذين نفوها قائلين: لو أثبتنا الكرامة؛ فلن نقدر على التفريق بين الولي، وبين النبي.
والقبوريين الخرافيين الذين أثبتوا الكرامة لكل أحد؛ حتى ولو كان فاسقاً ملحداً زنديقاً؛ ظهرت على يديه خوارق شيطانية.
فهذه الكرامة لم يظهرها الله سبحانه وتعالى على يد هذا الولي؛ حتى تطلب منه وتدعوه وتسأله وتستشفع به؛ أو تستغيث به؛ إنما أظهرها على يديه لتعرف أنه رجل صالح؛ ليس أكثر من ذلك.
قال ابن تيمية رحمه الله: كرامات الأوليات معجزات الأنبياء؛ أي: أن هذه الكرامات ما ظهرت إلا بفضل اتباع هؤلاء للأنبياء.
هل الأولى أن نقول: معجزة؛ أم آية وبرهان؟
في القرآن قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} هذا بالنسبة لتسمية المعجزة: آية؛ أما تسميتها برهاناً؛ ففي مثل قوله تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ}.
فجاءت التسمية بما يظهر على يد النبي؛ بأنها آية أو برهان؛ أما كلمة المعجزة, فلا استحضر الآن أول من ذكرها؛ لكنها مذكورة في كتب المتأخرين الذين درجوا على استعمالها.
ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار؛ إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجوا للمحسن، وأخاف على المسيء.
هذا أيضاً من عقيدة أهل السنة والجماعة؛ ينبغي على كل فرد منا ألا يشهد لأحد, يعني: لمعين؛ بجنة أو بنار, إلا لمن شهد له - أو عليه - رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجوا للمحسن أن يغفر الله له؛ تقول: أحسبه، ولا أزكيه.
هل شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد بالجنة؟
نعم؛ شهد للعشرة, وعكاشة بن محصن، والمرأة التي كانت تُصرع، وعبدالله بن سلام, وبلال بن رباح, والحسن، والحسين, وأبي الدحداح, وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم؛ رضي الله عن الصحابة أجمعين.
وشهد على أقوام معينين؛ أنهم في النار؛ مثل: أبويه, وعمه أبي طالب، وعمه أبي لهب, وغيرهم.
ولا أكفر أحداً من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام.
لأن الإنسان لا يدرى بما يُختم له.
وقوله: "ولا أكفر أحداً من المسلمين بذنب"؛ كان الأولى أن يقول: (بأي ذنب) أو (بكل ذنب)؛ لأن من الذنوب ما يكفر صاحبها, أو يُقال: (بذنب خلا الشرك)؛ خلافاً للوعيدية من الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالذنوب, وأهل الوعد المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب.
وأرى الجهاد ماضياً مع كل إمام؛ براً كان، أو فاجراً، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه.
لأن الناس لا بد لهم من إمامة؛ برة كانت أو فاجرة، والإمامة لا تكون إلا بسمع وطاعة؛ فنسمع ونطيع للإمام وإن كان فاجراً؛ فالصبر على جور الحكام من أصول السنة؛ فلا نخرج عليهم وننزع يداً من طاعة؛ طالما كانوا على الإسلام.
والجهاد ماض منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال؛ لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل.
الدماء المعصومة: دم المسلم، والمعاهد، والمستأمن، والذمي.
المعاهد: رجل من أهل الكفر؛ دخل ديار المسلمين بعهد من ولي الأمر.
والمستأمن: رجل من أهل الكفر دخل بلاد المسلمين بعقد أمان, وعقد الأمان يكون لولي الأمر ولغيره من آحاد المسلمين.
والذمي: يعيش معك في بلاد المسلمين؛ فصارت له ذمة بشروط وقيود وضوابط؛ لا بد أن يتقيد بها، وإلا خفرت ذمته.
أنواع الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد المنافقين وأهل البدع والأهواء, وجهاد الكفار.
وجهاد الكفار يكون السيف - وكذا جهاد المنافقين وأهل البدع والأهواء - وينقسم إلى: جهاد دفع، وجهاد طلب.
جهاد الدفع: يكون إذا نزل عدو بساحة المسلمين؛ فحينئذ يتوجب على كل من في البلد أن يدفع هذا الكافر.
وجهاد الطلب: غزو الكفار في عقر دارهم؛ لإعلاء كلمة الله تعالى.
حكم الجهاد:
إذا كان جهاد طلب؛ يكون فرض كفاية، وقد يتعين، وذلك في حالات ثلاث:
الأولى: إذا عينه الإمام.
الثانية: إذا استنفره الإمام.
الثالثة: عند التحام الصفوف؛ فيحرم التراجع والهروب من أمام العدو؛ إلا من كان {مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ}.
وإذا كان جهاد دفع؛ يكون فرض عين.
الفرق بين دار الإسلام، ودار الحرب، ودار الكفر.
دار الإسلام: هي التي تقام فيها شعائر الإسلام الظاهرة.
ودار الكفر: هي الدار التي تظهر فيها شعائر الكفر, وبينها وبين أهل الإسلام عهد.
ودار الحرب؛ دار كفر؛ لكن ليس بينها وبين أهل الإسلام عهد.



يتم التشغيل بواسطة Blogger.

كافة الحقوق محفوظة 2012 © site.com مدونة إسم المدونة