علم بلا أدب كنار بلا حطب

علم بلا أدب كنار بلا حطب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ؛؛؛ أما بعد:
فلقد رفع الله شأن العلم وأهله، فشرفهم وكرمهم، ورفع منزلتهم، وأمر بتعزيرهم وتوقيرهم، فقال تعالى: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"، وقال تعالى: "إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه، أخذ بحظ وافر".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط".
وقال عليه الصلاة والسلام: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا". يعني: حقه.
ولا شك أن المقصود من هذه النصوص وغيرها، هم أهل العلم الذين عرفوا بسلامة المعتقد واتباع منهج السلف الصالح، فهؤلاء بذلوا من أوقاتهم الكثير في نشر العلم وتعليمه، فيتوجب علينا توقيرهم وإجلالهم.
لذا كان من أصول منهج السلف الصالح رحمهم الله؛ احترام أهل العلم السلفيين الذين عرفوا بصحة العقيدة وسلامة المنهج، وتوقيرهم ومعرفة قدرهم، وستر عيوبهم والذب عنهم والنصح لهم وإعانتهم على البر والتقوى، ومن عظمت الشريعة في نفسه أحب حملتها الداعين لها العاملين بها الذابين عنها، وحرص على التأدب والتلطف معهم.
قال طاووس اليماني رحمه الله: "إن من السنة توقير العلماء"اهـ
وقال ابن المبارك رحمه الله: "من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته"اهـ
وقال أحمد رحمه الله: "إنما الناس بشيوخهم؛ فإذا ذهب الشيوخ فمع من العيش"اهـ
فأهل السنة والجماعة يعرفون لأهل العلم السلفيين حقهم غير غالين فيهم ولا جافين عنهم، يقتدون بما هم عليه من الحق، ويعرفون أن الطعن فيهم يفضي إلى الطعن في الشريعة ويفتح باب شر وفساد، ويعرفون أن بقاءهم في الناس نعمة ورحمة، وذهابهم مصيبة ورزية؛ وأنه إذا خلت الساحة منهم؛ اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
ولما كان هذا مستقرًا عند سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، ضربوا لنا أروع الأمثلة في ذلك، فها هو عبدالله بن عباس رضي اللّه عنهما مع علمه وشرفه وجلالة قدره، يقول: "إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه فتسفي الريح عليَّ التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك فأسألك"، ويأخذ رضي الله عنه بركاب زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وزيد يقول له: تنح يا ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فيقول ابن عباس: "هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا"اهـ
ولعبدالله بن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنهما في هذا المجال مواقف مشرقة؛ حيث آثر السكوت حياء من أبي بكر وعمر وغيرهما ممن يفوقونه سناً وعلماً، لما سأل صلى الله عليه وسلم عن النخلة، فكره رضي الله عنه الكلام؛ مع أنه عرف مراد النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أبا بكر وعمر لا يتكلمان. وكذلك فعل من جاء بعدهم من أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وقد سطرت كتب السير من آثارهم ما ينبيك عن حسن خلقهم وعظيم تواضعهم، واحترامهم لكل من يعلمهم حرفًا، من ذلك:
قال خلف بن هشام رحمه الله: "جاءني أحمد بن حنبل يسمع حديث أبي عوانة، فاجتهدت أن أرفعه فأبى، وقال: لا أجلس إلا بين يديك، أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه"اهـ
وقال قتيبة بن سعيد رحمه الله: "قدمت بغداد وما كانت لي همة إلا أن ألقى أحمد بن حنبل، فإذا هو قد جاءني مع يحيى بن معين، فتذاكرنا، فقام أحمد وجلس بين يدي وقال: أمل علي هذا، ثم تذاكرنا فقام أيضًا وجلس بين يدي، فقلت: يا أبا عبدالله اجلس مكانك. فقال: لا تشتغل بي، إنما أريد أن آخذ العلم على وجهه"اهـ
وقال عبدالله بن أحمد: "قلت لأبي: ما لك لم تسمع من إبراهيم بن سعد، وقد نزل بغداد في جوارك؟ فقال: اعلم يا بني أنه جلس مجلسًا واحدًا وأملى علينا، فلما كان بعد ذلك خرج وقد اجتمع الناس فرأى الشباب تقدموا بين يدي المشايخ، فقال: ما أسوأ أدبكم تتقدمون بين يدي المشايخ، لا أحدثكم سنة، فمات ولم يحدث"اهـ
وقال خالد بن صفوان رحمه الله: "إذا رأيت محدثًا يحدث حديثًا قد سمعته أو يخبر خبرًا قد علمته، فلا تشاركه فيه حرصًا على أن تعلم من حضرك أنك قد علمته، فإن ذلك خفة وسوء أدب"اهـ
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تواضع أحد لله إلا رفعه الله وزاده عزًا، لذا صار هؤلاء أئمة وقادة وسادة، لأنهم خفضوا جناحهم لمن علمهم وتواضعوا له وإن كان أقل منهم، ولم يستنكفوا من المثول أمامهم مثول التلميذ أمام أستاذه.
قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: "تواضعوا لمن علمكم وتواضعوا لمن تعلمون"اهـ
وفي المقابل انظر رحمك الله وتمعن في حال من قتله البأو والتيه، وأطلق لسانه في أهل العلم بالثلب، وكان مماريًا برأيه معجبًا بنفسه؛ ماذا سطر من علوم وترك من آثار؟ ضاع ما تعلمه بل وصار وبالاً عليه، لأن هذا العلم لا يناله مستكبر، فهذا الخلق الذميم كيف يكون صاحبه طالب علم، وطالب العلم أول ما يتعلم: التواضع وحسن الخلق. لذا فمن  العجيب حقًا أن نجد بيننا من ينتحل العلم وقد قل أدبه وساء خلقه، ومع من؟ مع أهل العلم السلفيين، وزاد جهالة على جهالة؛ فتعالى على أقرانه واستهزأ بهم، ومن قال: إنه أعلم الناس فهو أجهلهم.
قال سعيد بن جبير رحمه الله: "لا يزال الرجل عالمًا ما تعلم، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى عن الناس واكتفى بما عنده، فهو أجهل ما يكون"اهـ  
فلو كان عند هذا علمًا وفهمًا كما يدعي؛ لعلم أنه كلما ازداد علمًا عرف أن العلم بحر لا ساحل له، وأن ما يعلمه قطرة في بحر خضم، وأن اعتداده بنفسه وادعاءه ما ليس عنده وتجهيله لغيره، يدل على أنه لم يحصل إلا الشتات. 
فحري بمن هذا وصفه؛ أن يتأمل حاله ويتفقد أخلاقه وأن يعلم أن حسن الخلق من الأبواب الموصلة إلى محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم والقرب، منه يوم القيامة، وسبب في تثقيل موازين الحسنات يوم يلقى رب البريات.
قال مخلد بن الحسين رحمه الله: "نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم"اهـ
وقال يحيى العنبري رحمه الله: "علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كروح بلا جسم"اهـ

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

كافة الحقوق محفوظة 2012 © site.com مدونة إسم المدونة