توجيهات سلفية
بسم الله الرحمن الرحيم
الاعتصام بالكتاب والسنة، والتراد
إليهما عند النزاع، والتمسك بما كان عليه سلف الأمة:
قال تعالى: }وَاعْتَصِمُواْ
بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ{.
وقال
تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}.
وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِيْ شَيْءٍ فَرُدُّوْهُ إِلَىَ
الْلَّهِ وَالْرَّسُوْلِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُوْنَ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآَخِرِ}.
وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أَذَاعُوْا بِهِ وَلَوْ رَدُّوْهُ إِلَىَ الْرَّسُوْلِ وَإِلَىَ أُوْلِى الْأَمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
وقال تعالى:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
وقال صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن اعتصمتم به؛ فلن تضلوا
أبدًا: كتاب الله، وسنة نبيه".
وقال صلى الله
عليه وسلم: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي، وسنة
الخلفاء الراشدين".
وخط صلى الله عليه وسلم خطًا مستقيمًا، وخط عن يمينه
وشماله خطوطًا أخرى، وقال عن الخط المستقيم: "هذا سبيل الله"، وقال عن
الخطوط الأخرى: "وهذه سبل؛ على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه".
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان مستنًا
فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة؛ أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم؛ كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا؛
اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، وإقامة دينه؛ فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في
آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم"اهـ
وقال الأوزاعي رحمه الله: "اصبر نفسك على السنة، وقف
حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه
يسعك ما وسعهم"اهـ
وقال: "عليك بأثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك
وآراء الرجال، وإن زخرفوا لك بالقول"اهـ
وقال ابن تيمية رحمه الله: "قال الزهري: كان من مضى
من علمائنا؛ يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة. إذا عرف هذا؛ فمعلوم أن ما يهدي الله
به الضالين، ويرشد به الغاوين، ويتوب به على العاصين؛ لا بد أن يكون فيما بعث الله
به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه
وسلم لا يكفي في ذلك؛ لكان دين الله ناقصًا محتاجًا تتمة"اهـ
وقال: "ومن خالف قولهم، وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم؛
فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعًا"اهـ
وقال ابن عبد الهادي رحمه الله: "لا يجوز إحداث
تأويل في آية أو سنة؛ لم يكن على عهد السلف، ولا عرفوه، ولا بينوه للأمة"اهـ
وقال مالك رحمه الله: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا
بما صلح به أولها"اهـ
وجوب لزوم جماعة المسلمين، وإمامهم:
قال
تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ{.
وقال
صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة
يركض".
وقال
صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من خرج من
الطاعة وفارق الجماعة فمات؛ مات ميتة جاهلية".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة شبرًا؛
فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة؛ فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل
تحت راية عمية يغضب لعصبة؛ أو يدعو إلى عصبة؛ أو ينصر عصبة؛ فقتل فقتلة جاهلية،
ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده؛
فليس مني ولست منه".
وقال
صلى الله عليه وسلم: من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه؛ فإنه من فارق
الجماعة شبرًا فمات؛ إلا مات ميتة جاهلية".
وقال
حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني؛ فقلت: يا رسول الله؛ إنا كنا
في جاهلية وشر؛ فجاءنا الله بهذا الخير؛ فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم؛ فقلت: هل
بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن؛ قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي،
ويهدون بغير هديي؛ تعرف منهم وتنكر؛ فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم؛ دعاة
على أبواب جهنم؛ من أجابهم إليها قذفوه فيها؛ فقلت: يا رسول الله صفهم لنا؛ فقال: نعم؛
قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا؛ قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم
جماعة المسلمين وإمامهم؛ فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة، ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك
الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة؛ حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
قال
الطبري رحمه الله: "اختلف في هذا الأمر، وفي الجماعة؛ فقال قوم: هو للوجوب،
والجماعة السواد الأعظم؛ ثم ساق عن محمد بن سيرين عن أبي مسعود؛ أنه وصى من سأله
لما قتل عثمان: عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة، وقال قوم:
المراد بالجماعة: الصحابة دون من بعدهم، وقال قوم: المراد بهم أهل العلم لأن الله
جعلهم حجة على الخلق والناس تبع لهم في أمر الدين. قال الطبري: والصواب أن المراد
من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره؛ فمن نكث بيعته خرج عن
الجماعة"اهـ
الحذر
من محدثات الأمور:
قال
تعالى: }فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيم{.
قال
ابن كثير رحمه الله: "(فليحذر الذين يخالفون عن أمره)؛ أي عن أمر الرسول صلى
الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته؛ فتوزن الأقوال والأعمال
بأقواله وأعماله؛ فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً
من كان؛ كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
(من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)؛ أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول
باطنًا وظاهرًا (أن تصيبهم فتنة) أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، (أو يصيبهم
عذاب أليم) أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك"اهـ
وقال
صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن شر الأمور محدثاتها، وإن كل
محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد".
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا
ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم"اهـ
وقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: "كل بدعة ضلالة،
وإن رآها الناس حسنة"اهـ
وقال مالك رحمه الله: "من ابتدع في الإسلام بدعة
يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة؛ لأن الله يقول: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ
دِينًا{؛ فما لم يكن يومئذ ديناً؛ لا يكون اليوم
دينًا"اهـ
وقال الشافعي رحمه الله: "من استحسن فقد شرع"اهـ
وقال أحمد بن حنبل رحمه
الله: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان
عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدعة، وكل بدعة ضلالة "اهـ
خطر البدع
حرمة
التفرق والتحزب والاختلاف:
قَالَ
تعالى: }وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ
جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{.
وقال
تعالى: {وَأَطِيْعُوْا الْلَّهَ وَرَسُوْلَهُ وَلَا تَنَازَعُوَا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ وَاصْبِرُوَا إِنَّ الْلَّهَ مَعَ الصَّابِرِيْنَ}.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ فَرَّقُوْا دِيْنَهُمْ وَكَانُوْا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِيْ شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَىَ الْلَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوْا يَفْعَلُوْنَ}.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ فَرَّقُوْا دِيْنَهُمْ وَكَانُوْا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِيْ شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَىَ الْلَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوْا يَفْعَلُوْنَ}.
وقال
تعالى: {وَلَا تَكُوْنُوْا مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ مِنَ الَّذِيْنَ فَرَّقُوْا
دِيْنَهُمْ وَكَانُوْا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُوْنَ}.
وقال
تعالى: }وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن
بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{.
وقال
صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد،
وهو من الاثنين أبعد. ومن أراد بحبوحة الجنة؛ فعليه بالجماعة".
وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده؛
لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار؛ قيل
يا رسول الله: من هم؟ قال: الجماعة".
وقال
صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا".
وقال
صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد
الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وقال
صلى الله عليه وسلم: "لا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا".
وقال
صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام".
وقال
الحسن البصري رحمه الله: "شهدتهم يوم تراموا بالحصى في أمر عثمان؛ حتى جعلت
أنظر؛ فما أرى أديم السماء من الرهج (الغبار)؛ فسمعت كلام امرأة من بعض الحُجر؛
قيل هذه أم المؤمنين (أم سلمة)؛ فسمعتها تقول: (إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد
برئ ممن فرق دينه، واحتزب)"اهـ
هجر أهل
الأهواء والبدع، والتحذير من مجالستهم، وخطورة توقيرهم:
قال تعالى: }وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ
بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعًا{.
وقال تعالى: {وَإِذَا
رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا
فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تجالس أهل الأهواء؛
فإن مجالستهم ممرضة للقلوب"اهـ
وقال الشافعي
رحمه الله: "لأن ألقى بكل ذنب - ما خلا الشرك - أحب إلي من ألقى الله بشيء من
الأهواء"اهـ
وقال أبو قلابة رحمه الله: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني
لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما تعرفون"اهـ
وقال عمرو بن قيس الملائي رحمه الله: "لا تجالس صاحب زيغ؛ فيزيغ
قلبك"اهـ
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: "لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم
تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البغضة في قلوب
المؤمنين"اهـ
وقال المفضل بن مهلهل رحمه الله: "لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه
يحدثك ببدعته حذرته وفررت منه، ولكنه يحدثك بأحاديث السنة في بدو مجلسه؛ ثم يدخل
عليـك بدعته؛ فلعلها تلزم قلبك فمتى تخرج من قلبك"اهـ
وقال هشام بن حسان رحمه الله: "كان الحسن ومحمد بن سيرين؛ يقولان: لا
تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم"اهـ
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "أهل البدع؛ ما ينبغي لأحد أن يجالسهم، ولا
يخالطهم، ولا يأنس بهم"اهـ
وقال الفضيل
بن عياض رحمه الله: "من عظم صاحب بدعة؛ فقد أعان على هدم الإسلام، ومن تبسم
في وجه مبتدع؛ فقد استخف بما أنزل الله عز وجل، وعلى محمد صلى الله عليه
وسلم"اهـ
وقال أبو
الوليد الباجي رحمه الله: "أخبرني أبو ذر الهروي، وكان يميل إلى مذهب
الأشعري، وكنت قد سألته: من أين لك هذا؟ قال: كنت ماشيًا مع أبي الحسن الدارقطني؛
فلقينا القاضي أبا بكر بن الطيب الباقلاني؛ فالتزمه الدارقطني، وقبل وجهه وعينيه؛
فلما افترقا؛ قلت له: من هذا الذي صنعت به ما لم أعتقد أنك تصنعه، وأنت إمام وقتك؟
فقال: هذا إمام المسلمين، والذاب عن الدين القاضي أبو بكر بن الطيب؛ فمن ذلك الوقت
تكررت إليه؛ فاقتديت بمذهبه"اهـ
ترك الكلام
والجدال والمراء والمناظرة:
قال البربهاري
رحمه الله: "وإذا أردت الاستقامة على الحق وطريق أهل السنة قبلك؛ فاحذر
الكلام وأصحاب الكلام والمراء والقياس والمناظرة في الدين؛ فإن استماعك منهم - وإن
لم تقبل منهم - يقدح الشك في القلب، وكفى به قبولًا فتهلك، وما كانت زندقة قط ولا
بدعة ولا هوى ولا ضلالة؛ إلا من الكلام والجدال والمراء والقياس، وهي أبواب البدعة
والشكوك والزندقة؛ فالله الله في نفسك، وعليك بالأثر، وأصحاب الأثر، والتقليد؛ فإن
الدين إنما هو بالتقليد (أي: الاتباع) ومن قبلنا لم يدعونا من لبس؛ فقلدهم واسترح،
ولا تجاوز الأثر، وأهل الأثر"اهـ
وقال اللالكائي: "فما جني
على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة, ولم يكن قهر ولا ذل أعظم مما تركهم
السلف على تلك الجملة؛ يموتون من الغيظ كمدًا ودردًا, ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلًا؛
حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقًا, وصاروا إلى هلاك الاسلام دليلًا؛ حتى
كثرت بينهم المشاجرات, وظهرت دعوتهم بالمناظرة, وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من
الخاصة والعامة؛ حتى تقابلت الشبه في
الحجج, وبلغوا من التدقيق في اللجج؛ فصاروا أقرانًا وأخدانًا، وعلى المداهنة خلانًا
وإخوانًا؛ بعد أن كانوا في دين الله أعداء وأضدادًا, وفي الهجرة في الله أعوانًا؛
يكفرونهم في وجوههم عيانًا, ويلعنونهم جهارًا, وشتان ما بين المنزلتين, وهيهات ما
بين المقامين"اهـ
وقال الآجري: "سكوتك
عنهم, وهجرتك لما تكلموا به؛ أشد عليهم من مناظرتك لهم؛ كذا قال من تقدم من السلف
الصالح من علماء المسلمين"اهـ
وقال ابن بطة: "فالله
الله معشر المسلمين؛ لا يحملن أحدًا منكم حسن ظنه بنفسه, وما عهده من معرفته بصحة
مذهبه؛ على المخاطرة بدينه في مجالسة أهل الأهواء؛ فيقول: أداخله لأناظره, أو لأستخرج
منه مذهبه, وإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من
اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم؛ فجالسوهم على سبيل الإنكار،
والرد عليهم؛ فما زالت بهم المباسطة, وخفي المكر, ودقيق الكفر؛ حتى صبوا إليهم"اهـ
وقال الأوزاعي رحمه الله: "لا
تمكنوا صاحب بدعة من جدال؛ فيورث قلوبكم من فتنة ارتيابًا"اهـ
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "عليكم بالسنة والحديث،
وما ينفعكم الله به، وإياكم والخوض والجدال والمراء؛ فإنه لا يفلح من أحب الكلام،
وكل من أحدث كلامًا لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة؛ لأن الكلام لا يدعو إلى خير،
ولا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال، وعليكم بالسنن والآثار والفقه الذي تنتفعون
به، ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس ولا يعرفون هذا، ويجانبون
أهل الكلام، وعاقبة الكلام لا تؤول إلى خير قط؛ أعاذنا الله وإياكم من الفتن،
وسلمنا وإياكم من كل هلكة"اهـ
المرء على دين
خليله:
قال ابن مسعود
رضي الله عنه: "إنما يماشي الرجل ويصاحب، من يحبه، ومن هو مثله"اهـ
وقال أبو
الدرداء رضي الله عنه: "من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومجلسه"اهـ
وقال معاذ بن
معاذ رحمه الله: "قلت ليحيى بن سعيد: يا أبا سعيد؛ الرجل وإن كتم رأيه؛ لم
يخف ذاك في ابنه ولا صديقه ولا جليسه"اهـ
وقال عقبة بن
علقمة رحمه الله: "كنت عند أرطاة بن المنذر فقال بعض أهل المجلس: ما تقولون
في الرجل يجالس أهل السنة ويخالطهم؛ فإذا ذكر أهل البدع؛ قال: دعونا من ذكرهم لا
تذكروهم؛ قال: يقول أرطاة: هو منهم لا يلبس عليكم أمره؛ قال: فأنكرت ذلك من قول
أرطاة قال: فقدمت على الأوزاعي، وكان كشافًا لهذه الأشياء إذا بلغته فقال: صدق
أرطاة والقول ما قال، هذا ينهي عن ذكرهم، ومتى يحذروا إذا لم يشد بذكرهم"اهـ
وقال الأوزاعي
رحمه الله: "من ستر علينا بدعته لم تَخْفَ علينا ألفته"اهـ
وقال محمد بن
عبيد الغلابي رحمه الله: "يتكاتم أهل الأهواء كل شيء؛ إلا التآلف والصحبة"اهـ
وقال أحمد بن
حنبل رحمه الله: "إذا سلم الرجل على المبتدع فهو يحبه"اهـ
وقال ابن
المبارك رحمه الله: "اللهم لا تجعل لصاحب بدعة عندي يدًا فيحبه قلبي"اهـ
وقال أبو داود
السجستاني رحمه الله: "قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: أرى رجلًا من أهل
السنة مع رجل من أهل البدع؛ أترك كلامه؟ قال: لا، أو تُعْلِمه أن الذي رأيته معه
صاحب بدعة؛ فإن ترك كلامه، وإلا فألحقه به؛ قال ابن مسعود: المرء
بخدنه"اهـ
كثرة الأتباع ليست دليلاً على صحة المنهج:
قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}.
وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.
وقال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ
كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ}.
وقال
صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الأنبياء الليلة بأممها؛ فجعل النبي يمر ومعه
الثلاثة، والنبي ومعه العصابة، والنبي ومعه النفر، والنبي وليس معه أحد".
وقال عبدالله
بن مسعود رضي الله عنه: "الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك"اهـ
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "عليك بطريق الهدى، وإن قل السالكون،
واجتنب طريق الردى، وإن كثر الهالكون"اهـ
وقال ابن
القيم رحمه الله: "لما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر؛ أكثر الناس ناكبون
عنه؛ مريدًا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة، والنفوس مجبولة على
وحشة التفرد، وعلى الأنس بالرفيق، نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق،
وأنهم هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن
أولئك رفيقًا؛ فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له، وهم الذين أنعم الله عليهم؛
ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم
أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم؛ فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه
له؛ فإنهم هم الأقلون قدرًا، وإن كانوا الأكثرين عددًا؛ كما قال بعض السلف: (عليك
بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة
الهالكين)، وكلما استوحشت في تفردك؛ فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق
بهم، وغض الطرف عمن سواهم؛ فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا، وإذا صاحوا بك في
طريق سيرك؛ فلا تلتفت إليهم؛ فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك"اهـ
العصمة لا تكون إلا للأنبياء، والرسل:
قال ابن تيمية رحمه الله: "فأما الصديقون والشهداء
والصالحون فليسوا بمعصومين"اهـ
وقال: "ليس
من شرط الصديق أن يكون قوله كله صحيحًا، وعمله كله سنة"اهـ
وقال يحيى بن معين رحمه الله: "من لا يخطئ في
الحديث فهو كذاب"اهـ
وقال عبدالرحمن بن مهدى رحمه الله: "من يبرئ نفسه
من الخطأ فهو مجنون"اهـ
وسئل أحمد بن حنبل رحمه الله: "كان غُندر يغلط؟
قال: أليس هو من الناس!"اهـ
وقال مالك بن أنس رحمه الله: "إنما أنا بشر أخطىء
وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق
الكتاب والسنة فاتركوه"اهـ
وقال الشافعي رحمه الله: "قد ألفت هذه الكتب ولم آل
فيها، ولابد أن يوجد الخطأ؛ إن الله تعالى يقول: }أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً{"اهـ
قبول قول العالم منوط باتباعه:
قال أحمد رحمه الله: "صاحب الكلام، وإن نصر بكلامه
السنة؛ لا يكون من أهل السنة حتى يدع الجدل ويسلم"اهـ
وقال وكيع بن الجراح رحمه الله: "من طلب الحديث كما
جاء فهو صاحب سنة، ومن طلبه ليقوي به رأيه فهو صاحب بدعة"اهـ
الباطل المحض لا يخفى على أحد، والوقوف على الحق سهل ميسور:
قال ابن تيمية رحمه الله: "الباطل لا يظهر لكثير من الناس أنه باطل
لما فيه من الشبهة، فإن الباطل المحض الذي يظهر بطلانه لكل أحد، لا يكون قولًا
ومذهبًا لطائفة تذب عنه، وإنما يكون باطلًا مشوبًا بحق، كما قال تعالى: }لِمَ
تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ{"اهـ
وقال: "فالحق يعرفه كل أحد، فإن الحق الذي بعث الله به الرسل لا يشتبه
بغيره على العارف؛ كما لا يشتبه الذهب الخالص بالمغشوش على الناقد"اهـ
وقال: "ويلحق الذم من تبين له الحق فتركه، أو من قصر في طلبه حتى لم
يتبين له، أو أعرض عن معرفته لهوى أو لكسل أو نحو ذلك"اهـ
خطورة زلة العالم:
قال ابن القيم رحمه الله: "العالم قد يزل ولا بد إذ
ليس بمعصوم؛ فلا يجوز قبول كل ما يقوله، وينزل قوله منزلة قول المعصوم، فهذا الذي
ذمّه كل عالم على وجه الأرض، وحرموه وذموا أهله، وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم؛
فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه، وفيما لم يزل فيه، وليس لهم تمييز بين ذلك،
فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد؛ فيحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويشرعون
ما لم يشرع، ولا بد لهم من ذلك؛ إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه؛ فالخطأ واقع منه
ولا بد. وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير هذا عن أبيه عن جده مرفوعًا: (اتقوا
زلة العالم وانتظروا فيئته)، وذكر من حديث مسعود بن سعد عن يزيد بن أبي زياد عن
مجاهد عن ابن عمر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد ما أتخوف على أمتي
ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم)، ومن المعلوم أن المخوف
في زلة العالم تقليده فيها، إذ لولا التقليد لم يخف من زلة العالم على غيره، فإذا
عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين، فإنه اتباع للخطأ على عمد
ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه، وكلاهما مفرط فيما أمر به"اهـ
القاصد بعلمه وجه الله لا يخاف النقد:
قال ابن قتيبة رحمه الله: "القاصد لوجه الله لا يخاف
أن ينقد عليه خلل في كلامه، ولا يهاب أن يدل على بطلان قوله؛ بل يحب الحق من حيث
أتاه، ويقبل الهدى ممن أهداه؛ بل المخاشنة بالحق والنصيحة أحب إليه من المداهنة
على الأقوال القبيحة، وصديقك من أصدقك لا من صدقك"اهـ
وقال خالد بن معدان رحمه الله: "من التمس المحامد
في مخالفة الحق؛ رد الله عليه تلك المحامد عليه ذمًا، ومن اجترأ على الملاوم في
موافقة الحق؛ رد الله تلك الملاوم عليه حمدًا"اهـ
وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله لـ (عمرو بن المهاجر):
"إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني، ثم قل يا عمر ما
تصنع"اهـ
وقال مخلد بن خفاف رحمه الله: "ابتعت غلامًا
فاستغللته ثم ظهرت منه على عيب، فخاصمت فيه إلى عمر بن عبدالعزيز فقضى لي برده
وبرد غلته، فأتيت عروة بن الزبير فأخبرته، فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة
رضي الله عنها أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج
بالضمان؛ فعجلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة؛ فقال عمر: ما أيسر علي من
قضاء قضيته؛ الله يعلم أنني لم أرد فيه إلا الحق؛ فبلغني فيه سنة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن أرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"اهـ
وجاء في رسالة مالك إلى الليث بن سعد رحمهما الله: "واعلم
أني أرجو، أن لا يكون دعاني إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله تعالى وحده،
والنظر لك، والظن بك؛ فأنزل كتابي منك منزلة؛ فإن فعلت تعلم أني لم آلك
نصحًا"اهـ
وقال عبدالله بن يوسف التنيسي: "يا أبا عبدالله
(أي: البخاري) انظر في كتبي، وأخبرني بما فيها من السقط؛ فقال: نعم"اهـ
الرجوع للحق واجب، وفضيلة:
قال ابن تيمية رحمه الله: "وانتقال الانسان من قول
إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه؛ بخلاف إصراره على قول لا حجة معه
عليه"اهـ
وقال ابن سعدى رحمه الله وهو يعدد فوائد قصة داود عليه
السلام مع الخصمين: "ومنها أن الموعوظ والمنصوح، ولو كان كبير القدر جليل
العلم؛ إذا نصحه أحد أو وعظه؛ لا يغضب ولا يشمئز؛ بل يبادره بالقبول والشكر؛ فإن
الخصمين نصحا داود؛ فلم يشمئز ولم يغضب، ولم يثنه ذلك عن الحق؛ بل حكم بالحق
الصرف"اهـ
وقال الميموني: "إن أبا عبدالله ذكر عبدالله بن
رجاء فوثقه وفضله، قلت: فما قصته؟ قال: كان ثم غلط ووهم، وقد حدث يومًا بحديث،
فقيل له: غلطت فيه. فقال: الله المستعان على غلطنا في غيره أيضًا أو: قد غلطنا؛
قال لي أبو عبدالله: فإن كان الشيخ يقر بهذا تعلم أنه سليم، وربما خرج الشيء من الانسان
فيشهد له القلب بالصدق"اهـ
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: "فعلت
بالبصرة فعلتين أرجو بهما الجنة، أتيت يحيى القطان وهو يقول: أبو بكر وعمر؛ فقلت
معي شاهدان من أهل بدر يشهدان أن عثمان أفضل من علي؛ قال: من؟ قلت: أنت حدثتنا عن
شعبة عن عبدالملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة؛ قال: خطبنا ابن مسعود؛ فقال: أمَّرنا
خير من بقي ولم نأل؛ قال: ومن الآخر؟ قلت: الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن المسور
بن مخرمة؛ قال: سمعت عبدالرحمن بن عوف يقول: شاورت المهاجرين الأولين، وأمراء
الأجناد وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم أر أحد يعدل بعثمان؛ قال: فترك
يحيى قوله، وقال: أبو بكر وعمر وعثمان. قال: وأتيت عبدالله الخريبي؛ فإذا بيته بيت
خَمَّار؛ فقلت: ما هذا؟ قال: ما اختلف فيه أولنا ولا آخرنا؛ قلت: اختلف فيه أولكم
وآخركم. قال: من؟ قلت: أيوب السختياني عن محمد عن عبيدة، اختلف عليَّ في الأشربة،
فما لي شراب منذ عشرين سنة، إلا عسل أو لبن أو ماء؛ قال: ومن آخرنا؟ قلت: عبدالله
بن إدريس. قال: فأخرج كل ما في منزله فأهراقه"اهـ
وقال محمد بن عمار الموصلي رحمه الله: "رددت على
المعافى بن عمران حرفًا في الحديث فسكت؛ فلما كان من الغد جلس في مجلسه من قبل أن
يحدث، وقال: إن الحديث كما قال الغلام؛ قال ابن عمار: وكنت حينئذ غلامًا أمرد ما
في لحيتي طاق"اهـ
وقال موسى بن هارون رحمه الله: "سمعت أبي يقول:
"كان يزيد بن هارون يقول في مجلسه الأعظم غير مرة: حديث كذا وكذا أخطأت
فيه"اهـ
وقال الأخفش رحمه الله: "أتيت بغداد فأتيت مسجد
الكسائي؛ فإذا بين يديه، الفراء والأحمر وابن سعدان؛ فسألته عن مئة مسألة، فأجاب
فخطأته في جميعها؛ فهموا بي؛ فمنعهم، وقال: أنت أبو الحسن؟ قلت: نعم فقام وعانقني
وأجلسني إلى جنبه"اهـ
وقال يزيد بن أبي الزرقاء رحمه الله: "كان المعافى
بن عمران يعظ الثوري، يقول: يا أبا عبدالله، ما هذا المزاح؛ ليس هذا من فعل
العلماء، وسفيان يقبل منه"اهـ
وقال أوس بن عبدالله الربعي رحمه الله: "سمعت ابن
عباس وهو يأمر بالصرف، الدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين يدًا بيد، فقدمت
العراق فأفتيت الناس بذلك؛ ثم بلغني أنه نزل عن ذلك؛ فقدمت مكة فسألته؛ فقال: إنما
كان ذلك رأيًا مني، وهذا أبو سعيد يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عنه"اهـ
وقال عبدالواحد بن زياد رحمه الله: "لقيت زفر بن
الهذيل فقلت له صرتم حديثًا في الناس، وضحكة، قال: وما ذلك؟ قلت: تقولون: ادرؤوا
الحدود بالشبهات؛ ثم جئتم إلى أعظم الحدود؛ فقلتم: تقام بالشبهة؛ قال: وما هو؟
قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر)؛ فقلتم: يقتل به - يعني
الذمي - قال: فإني أشهدك الساعة أنى قد رجعت عنه"اهـ
قبول الحق ممن بينه، والنصيحة ممن أسداها:
قال يحيى بن معين: "حضرت نعيم بن حماد بمصر؛ فجعل يقرأ كتابًا صنفه؛ فقال:
حدثنا ابن المبارك عن ابن عون، وذكر أحاديث؛ فقلت: ليس ذا عن ابن المبارك؛ فغضب
وقال: أترد علي؟ قلت: إي والله أريد زينك: فأبى أن يرجع؛ فلما رأيته لا يرجع؛ قلت:
لا والله ما سمعت هذا من ابن المبارك، ولا سمعها هو من ابن عون قط؛ فغضب وغضب من
عنده، وقام فدخل؛ فأخرج صحائف؛ فجعل يقول وهي بيده: أين الذين يزعمون أن يحيى بن
معين ليس بأمير المؤمنين في الحديث؛ نعم يا أبا زكريا غلطت، وإنما روى هذه
الأحاديث غير ابن المبارك عن ابن عون"اهـ
وقال محمد بن قاسم العثماني: "وصلت الفسطاط مرة؛ فجئت مجلس الشيخ أبي
الفضل الجوهري، وحضرت كلامه على الناس؛ فكان مما قال في أول مجلس جلست إليه:
"النبي صلى الله عليه وسلم طلق وظاهر وآلى، فلما خرج تَبعْتُه حتى بلغت معه
إلى منزله في جماعة، وجلس معنا في الدهليز، وعرّفهم أمري؛ فإنه رأي شارة الغربة،
ولم يعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه؛ فلما انفض عنه أكثرهم؛ قال لي: أراك
غريبًا هل لك من كلام؟ قلت: نعم. قال: فقاموا وبقيت وحدي معه؛ فقلت له: حضرت
المجلس اليوم متبركًا بك! وسمعتك تقول: طلق رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وصدقت، وآلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت، وقلت:
وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يكن ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار
منكر من القول وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فضمني إلى
نفسه، وقبل رأسي؛ وقال لي: أنا تائب من ذلك؛ جزاك الله عني من معلم خيرًا! ثم
انقلب عنه، وبكرت إلى مجلسه في اليوم الثاني؛ فألفيته قد سبقنى إلى الجامع، وجلس
على المنبر؛ فلما دخلت من باب الجامع، ورآني نادى بأعلى صوته: مرحبًا بمعلمي؛
أفسحوا لمعلمي! فتطاولت الأعناق إلي، وحدقت الأبصار نحوي، وتعرفني يا أبا بكر؛
يشير إلى عظيم حيائه؛ فإنه كان إذا سلم عليه أحد أو فاجأه؛ خجل لعظيم حيائه واحمر
حتى إن وجهه طلي بجلنار؛ قال: وتبادر الناس إلي يرفعونني على الأيدي، ويتدافعونني
حتى بلغت المنبر، وأنا لعظيم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض، والجامع غاص
بأهله، وأسال الحياء بدني عرقًا، وأقبل الشيخ علي الخلق؛ فقال لهم: أنا معلمكم،
وهذا معلمي، ولما كان بالأمس قلت لكم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى وطلق
وظاهر؛ فما أحد منكم فقه عني، ولا رد علي؛ فاتبعني هذا إلى منزلي، وقال لي: كذا
وكذا، - وأعاد ما جرى بيني وبينه - وأنا تائب عن قولي بالأمس؛ راجع عنه إلى الحق؛
فمن سمعه ممن حضر؛ فلا يعول عليه، ومن غاب فليبلغه من حضر فجزاه الله خيرًا، وجعل
يحفل في الدعاء، والخلق يؤمنون"اهـ
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل
لأخيه: اتق الله؛ فيقول: عليك بنفسك؛ أنت تأمرني"اهـ
الحكم على الظاهر، والله يتولى السرائر:
قال
عبدالله بن عتبة رحمه الله: "سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ يقول: إن أناسًا
كانوا يؤخذون بالوحي فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع،
وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم؛ فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه،
وليس إلينا من سريرته شيء؛ فالله يحاسب سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه، وإن
قال إن سريرته حسنة".