بيان كذب ربيع
المدخلي
"بسم
الله الرحمن الرحيم
، وبعد:
، وبعد:
فإن حب أئمة
الهدى من سلفنا الصالحين الذين هم مصابيح الدجى، والدفاع عنهم وإبراز محاسنهم؛
واجب عظيم، وخطب جسيم يجب الاعتناء به، وما ذاك إلا لأنهم الذين حملوا إلينا هذا
الدين العظيم، وأوصلوه إلينا، وهم الذين كسروا ألوية المحنة، وأطفأوا نيران
الفتنة، وذبوا عن دين الله بأن جرحوا وعدلوا وزكوا وبدعوا وبصروا من ضل إلى الهدى؛
إلى غيرها من مناقبهم المأثورة؛ كل ذلك مقروناً بالشدة على المبتدع، والتحذير منه
أشد التحذير منه أشد التحذير؛ فما أحسن أثرهم وأجمله على الناس، وما أقبح أثر
الناس وأفظعه عليهم، وإن هذا الواجب العظيم ليتأكد أكثر وأكثر؛ حينما يقابل أهل
السنة المحضة من ينسب السلف الصالح، وخصوصاً بعض الأئمة منهم إلى البدع المحدثة في
دين الله، ويتهمهم بها، ويدعي زوراً وبهتاناً أنها واقعة فيهم؛ كل ذلك بحجة واهية،
وهي الدفاع عن بعض الأشاعرة - كابن حجر والنووي - وعدم تبديعهم، وذلك لأجل أنهم
خدموا السنة والإسلام - في نظرهم -.
وليُعلم: أن
رمي السلف بمثل هذه الأمور ليس بالأمر الهين؛ بل الأشد خطورة أن يتأثر بها الجهال،
ويرموا أئمة السلف بالبدع وتقل منزلتهم عند هؤلاء، ولعمر الله إنها لفتنة كبرى،
وبلية عظمى؛ إذا تأملتها يا أيها السني على وجهها وحقيقتها الصافية؛ بل هي في
قرارها عودة لمنهج الموازنة بين الحسنات والسيئات؟! فلعلك عرفت المراد وفهمت
المقصد الذي يريدونه ويدورون حوله؛ من هذه الأمور التي يثيرونها في هذا الوقت
(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
ثم أما بعد:
فقد أطلعت على
مذكرة كتبها: ربيع بن هادي مدخلي؛ سماها: (]من رمي ببدعة ممن أخرج له البخاري
ومسلم[).
فلما قرأتها
وتأملتها؛ فإذا هي مذكرة جائرة؛ طافحة بالطغيان على خيار من أئمة السلف، ورميهم
ببدع محدثة ما أنزل الله بها من سلطان؛ فتعجبت من فعله هذا أشد العجب، وخفت أن
تروج هذه المذكرة على حسب هذا المنوال؛ فتفتن من عباد الله من تجعله يكرع في مياه
باطلها؛ فيتقيأ من ذلك؛ أن ينسب السلف إلى البدعة؛ فلما كان الحال كما ذكر، والأمر
كما حكى؛ علمت أن علي واجباً عظيماً لابد أن أقوم به، وهو الدفاع عن علم من أولئك
الأعلام الذين هم بحق؛ الأئمة الهداة والجبال الشامخة في العلم الراسية في علو
القدر، والمنزلة. وأما العَلَم الذي جردت عنان القلم للدفاع عنه، والتبرئة له مما
نسب به إلى الإرجاء؛ هو الإمام شعبة بن الحجاج رحمه الله أمير المؤمنين في الحديث؛
الذي كان يقال فيه: حدثنا الضخم عن الضخام شعبة الخير أبو بسطام، ولقد أزرى ربيع
بنفسه كل الإزراء حينما نسبه إلى بدعة الإرجاء معتمداً على بعض الروايات التي لبس
ودلس في بعضها، ولم يوجه الأخرى التوجيه الصحيح؛ فأردت أن أكتب هذا الرد دفاعاً عن
أهل الحديث الطائفة الناجية المنصور، وتجشمت صعابها. وأرجو من العلي القدير أن
يسدد قلمي، ويقوي حجتي؛ دفاعاً عن الإمام شعبة، ونفي بدعة الإرجاء عنه، وسميت
الرد: (دفاع
أهل الغربة عن الإمام شعبة).
كما أسأل الله
عز وجل أن أوفق بهذا الرد وغيره؛ في الدخول تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (يحمل
هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل
الجاهلين) [حديث حسن بشواهده رواه ابن عدي في الكامل والخطيب في شرف أصحاب
الحديث].
وها أنا ذا
شارع فيما قصدت به من الرد؛ فالله أسأل أن يقوي حجتي، ويسدد قلمي؛ اللهم ارزقني
هدياً قاصداً وجنبني منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء؛ إن ربي لسميع الدعاء، وصلى
الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكتبه: راجي
عفو ربه: عبدالرحمن بن يوسف الرحمة أبو وداعة الأثري؛ في مدينة الأحساء
28/6/1414هـ
الفصل الأول:
(الإمام شعبة ومناقضته لأصل المرجئة؛ بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص).
فإن هذا النقل
الذي سيكون بين ناظريك بعد قليل؛ ما هو إلا إجماع لأهل العلم ساقه الإمام أبو عبيد
القاسم بن سلام بتسميته للأئمة الأعلام الذين كانوا يقولون: (الإيمان قول وعمل
وأنه يزيد وينقص) وقد نقله عنه ابن بطة رحمه الله في كتابه القيم: الإبانة عن
شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة الجزء الثاني صحيفة (814) ورقم
الأثر: (1117)؛ قال رحمه الله: (حدثني أبو عبدالله أحمد بن حميد الكفي قال: حدثنا
أبو العباس أحمد بن علي بن عيسى بن السكين البلدي قال: حدثنا سنان بن محمد قال:
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: هذه تسمية من كان يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
.. ومن أهل البصرة: الحسن بن أبي الحسن؛ محمد بن سيرين؛ قتادة بن دعامة؛ بكر بن
عبدالله المزني؛ أيوب السختياني؛ يونس بن عبيد؛ عبدالله بن عون؛ سليمان التيمي؛
هشام بن حسان؛ هشام الدستوائي؛ شعبة بن الحجاج؛ حماد بن سلمة؛ حماد بن زيد .. ).
فبهذا النقل
عن الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام؛ ثبت أن الإمام شعبة بن الحجاج رحمه الله؛ يقول
بقول أهل السنة: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؛ مخالفاً للمرجئة الضلال، والحمد
لله على توفيقه وإعانته. وقد نقل هذا الإجماع عن أهل السنة بأن الإيمان قول وعمل
يزيد وينقص ومنهم الإمام شعبة بن الحجاج رحمه الله عن الإمام أبي عبيد القاسم بن
سلام رحمه الله؛ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المجلد السابع من مجموع
الفتاوى صحيفة (309) فلله الحمد والمنة على ذلك.
المبحث الثاني
من الفصل الأول: (نقل من المحجة يدل على أن الإمام شعبة يقول بزيادة الإيمان ونقصه
وأنه قول وعمل ونية وموافقة للسنة).
فهذا نقل آخر
يدل على ما ذهبنا إليه من تقرير أن الإمام شعبة من ضمن أئمة السلف الذين يعتد
ويقتدى بهم في باب العقائد عموماً، وخصوصاً في هذه المسألة (أن الإيمان قول وعمل
يزيد وينقص) فقد ذكر الإمام قوام السنة أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل
التيمي الأصبهاني عقيدة أبي منصور معمر بن أحمد، وفيها ما ذكرناه آنفاً من هذه
المسألة؛ فقال رحمه الله: (لما رأيت غربة السنة، وكثرة الحوادث، واتباع الأهواء
أحببت أن أوصي أصحابي وسائر المسلمين بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما
كان عليه أهل الحديث والأثر من السلف المتقدمين، والبقية من المتأخرين؛ فأقول
وبالله التوفيق: إن السنة الرضي بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، والصبر على حكم
الله، والأخذ بما أمر الله، والنهي عما نهى الله عز وجل عنه، وإن الإيمان قول وعمل
ونية وموافقة السنة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وذكر جملة طيبة من عقيدة أهل
السنة؛ ثم قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السنة عن الله عز وجل، وأخذ
الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ التابعون عن الصحابة. وهؤلاء
الصحابة الذين أشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم ثم أشار
الصحابة إلى التابعين بعدهم مثل: سعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص والأسود والقاسم
وسالم وعطاء ومجاهد وطاووس وقتادة والشعبي وعمر بن عبدالعزيز والحسن البصري ومحمد
بن سيرين؛ ثم من بعدهم مثل: أيوب السختياني ويونس بن عبيد وسليمان التيمي وابن
عون؛ ثم مثل: سفيان الثوري ومالك بن أنس والزهري والأوزاعي وشعبة؛ ثم مثل: يحيى بن
سعيد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبدالله بن المبارك، وذكر جماعة من أئمة السلف؛
ثم قال: فكان هؤلاء سرج الدين، وأئمة السنة، وأولوا الأمر من العلماء فقد اجتمعوا
على جملة هذا الفصل من أهل السنة وجعلوها في كتب السنة ... فهذا مذهب أهل السنة
والجماعة والأثر؛ فمن فارق مذهبهم فارق السنة، ومن اقتدي بهم وافق السنة. ونحن
بحمد الله: من المقتدين بهم؛ المنتحلين لمذهبهم؛ القائلين بقولهم ..).
المبحث الثالث
من الفصل الأول: (سياق الأحاديث التي رواها الإمام شعبة بسنده، وهي رد على المرجئة).
إن الأمر الذي
حداني إلى سرد هذه الأحاديث التي رواها الإمام شعبة، والتي فيها رد على المرجئة؛
ما رواه الإمام ابن بطة في الإبانة؛ صحيفة (2/861) رقمه (1174)؛ قال: (حدثنا إسحاق
بن أحمد؛ قال: حدثنا عبدالله بن أحمد؛ قال: حدثنا أبي؛ قال: حدثنا سليمان بن داود؛
قال: حدثنا شعبة؛ قال: أخبرني قيس بن مسلم؛ قال: سمعت طارق بن شهاب يحدث عن
عبدالله؛ قال: إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيلقى الرجل له إليه الحاجة؛
فيقول: إنك لذيت وذيت؛ يثنى عليه، وعسى أن لا يحلى بحاجته بشيء فيرجع، وقد أسخط
الله، وما معه من دينه شيء؛ قال شعبة: لما حدثني قيس بهذا الحديث فرحت به، وكان
قيس يرى رأي المرجئة). وأحاديث هذا الباب موجودة في كتب السنة؛ لكنني آثرت اختيار
رواية البخاري ومسلم رحمهما الله .. أقول: وفي ما ذكرنا من هذه الأحاديث والآثار
عن الصحابة التي رواها الإمام العلم شعبة بن الحجاج رحمه الله بسنده إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أو إلى الصحابي - الموقوف عنده - رضي الله عنه؛ بلاغ وكفاية
لمن سلم قلبه من الهوى واتباعه، ولمن رام الحق وأراده.
وهذه الأحاديث
والآثار كلها تدل على أن الإيمان قول وعمل واعتقاد بالقلب وتلفظ باللسان وعمل
بالجوارح، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهي شاهدة على براءة الإمام شعبة من
موافقة المرجئة، وبهذا تكون أيها السني قد عرفت بالأدلة والشواهد؛ براءة الإمام
شعبة رحمه الله من هذه التهمة التي نسبها إليه ربيع.
الفصل الثاني:
(الرد على ربيع فيما استدل به من الأثر المروي عن حماد بن أبي سليمان).
إنني في هذا
الفصل سأبين تدليس وتلبيس ربيع بن هادي مدخلي على القراء فيما استدل به من الأثر
المروي عن حماد بن أبي سليمان في قوله لشعبة: أنت منا إلا قطرة - يعني الإرجاء -.
قال في مذكرته
الجائرة بعد أن ساق بعض مدائح الإمام أحمد رحمه الله في شعبة رحمه الله: (ولم
يذكره فيها ببدعة إلا في موضع واحد ذكره على هذه الصورة الآتية: حدثني أبي؛ قال:
حدثنا أبو داود عن شعبة؛ قال: كان حماد يقول لي: أنت منا إلا قطرة - يعني الإرجاء
-) العلل (2/147).
أقول: في هذا
المقطع عدة نظرات:
الأولى: من هو
حماد هذا الذي قال لشعبة رحمه الله: (أنت منا إلا قطرة؛ يعني الإرجاء).
الثانية: عدم
توضيح ربيع له؛ بل أراد أن يلبس على القراء، ويدلس عليهم بعدم ذكره لحماد بن أبي
سليمان حتى يتوهم القراء؛ بأنه حماد بن سلمة أو حماد بن زيد: وكلاهما سني من أئمة
السلف؛ رحمهما الله.
الثالثة: لم
يوضح ربيع باقي الروايات التي تفيد أن المرجئ هو حماد بن أبي سليمان، وأن شعبة
أتاه على سبيل الإنكار لما حدث منه من اتباع هذه البدعة؛ فقال له: هذه المقالة:
(أنت منا إلا قطرة - يعني الإرجاء -) وانظر: تبويب اللالكائي للأثر.
وإنني الآن
سأذكر الروايات التي تفيد أن حماداً المقصود هاهنا؛ هو حماد بن أبي سليمان المرجئ،
وحتى يكون القارئ على يقظة من أمره؛ فلا تدخل إلى قلبه مثل هذه الشبهة، ولا تتأصل
فيه.
قال اللالكائي
رحمه الله تعالى في السنة (ج/5) (1839) تحت باب: (سياق ما روي متى حدث الإرجاء في
الإسلام وفشا). أنا محمد بن عمر بن محمد بن حميد أنا أحمد بن عبدالله الوكيل نا
عمرو بن علي قال: نا أبو داود قال: أنا شعبة قال: نا زبيد قال: (لما ظهرت المرجئة
أتيت أبا وائل فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله
كفر). قال شعبة: وحدثني منصور وسليمان سمعا أبا وائل يحدث عن عبدالله عن النبي صلى
الله عليه وسلم؛ قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). قال شعبة: فذكرت ذلك لحماد
فكان يقول: (يا شعبة: أنت منا إلا قطرة). قال: فقلت له: أتتهم زبيداً؟! أتتهم
منصوراً؟! أتتهم الأعمش سليمان؛ كلهم حدثني عن أبي وائل. قال: لا ولكنني أتهم أبا
وائل. ويزيد الأمر وضوحاً والحق جلاء؛ أنه حماد بن أبي سليمان؛ ما رواه الخلال في
السنة (1063 ص 599).
وأخبرني محمد
بن أبي هارون أن إسحاق حدثهم قال: قال أبو عبدالله: قال شعبة: قلت لحماد بن أبي
سليمان: هذا الأعمش وزبيد ومنصور حدثونا عن شقيق عن عبدالله عن النبي صلى الله
عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق). فأيهم نتهم أنتهم الأعمش؛ أنتهم منصور؛ أنتهم أبا
وائل؟ قال إسحاق: قلت لأبي عبدالله: وأيش اتهم من أبي وائل؟ قال: اتهم رأيه
الخبيث. يعني حماد بن أبي سليمان. وقال لي: قال ابن عون: كان حماد بن أبي سليمان
من أصحابنا؛ حتى أحدث ما أحدث. قال: أحدث الإرجاء.
ومما يؤكد أن
شعبة رحمه الله قد بين بدعة حماد بن أبي سليمان، وهي الإرجاء؛ ما رواه المروزي في
تعظيم قدر الصلاة: باب ذكر الأخبار التي جاءت في أن سباب مسلم فسوق وقتاله كفر (ج
2/1088) قال: (قرأ عليه) يعني: محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب. وقلت: حدثكم
عبدالله بن محمد المسندي أبو جعفر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا شعبة عن زبيد
قال: لما تكلمت المرجئة أتيت أبا وائل؛ فسألته فحدثني عن النبي صلى الله عليه
وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). وقال كما في حديث: (1090) تحت نفس الباب
المتقدم الذكر. قال شعبة: فذاكرت هذا حماداً، وكان يقول بالإرجاء، وكان يقول لي:
أنت منا يا شعبة إلا قطرة. فقلت له: أتتهم زبيداً؛ أتتهم منصوراً؛ أتتهم سليمان؛
فقد حدثوني عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أتهمهم، ولكن أتهم أبا وائل،
وهذا ليس بشيء.
إذا عرفنا هذه
الروايات، والتي تدل على أن ربيعاً قد لبس ودلس، واختار رواية منها وافقت هواه،
واستبان لنا الحق؛ فوجب علينا الاتباع. وهل من تدليس وتلبيس أقبح من هذا عند أولي
الحجا والنهى، وذلك أن ينسب السلف الصالح إلى البدعة بتلبيس وتدليس مقرون بهوى؛
فالله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
الفصل الثالث:
أثر هدبة بن خالد والرد عليه بتوجيهه التوجيه الصحيح:
ومما استدل به
على أن الإمام العلم شعبة بن الحجاج رحمه الله: أنه مرجئ: ما رواه ابن عدي في
الكامل (7/139) والمزي في تهذيب الكمال (30/156) والذهبي في سير أعلام النبلاء
(11/99)؛ كلهم رووه عن الحسن بن سفيان. فقال ابن عدي: (سمعت الحسن ابن سفيان يقول:
سمعت هدبة يقول: صليت على شعبة فقيل له: أرأيته قال: فغضب، وقال: رأيت من هو خير
منه حماد بن سلمة وكان سنياً وكان شعبة رأيه رأي الإرجاء).
والرد على هذا
الأثر بتوجيهه التوجيه الصحيح له؛ بأن نقول:
أولاً: ما
قاله الذهبي في السير: بعد أن ساق الأثر السابق بتمامه؛ فقال: قلت: كلا لم يكن
شعبة مرجئاً، ولعله شيء يسير لا يضره.
قلت: أين
اليسير، والجرح ها هنا مجمل، ولابد له من تفصيل واضح؛ علماً بان الإمام شعبة من
أئمة أهل السنة؛ فالأمر ليس بالهين، ويحتاج إلى دلائل نيرة، وبراهين واضحة وضوح
الشمس رائعة النهار، والله المستعان.
ثانياً: لعل
رواية الإمام شعبة بن الحجاج رحمه الله عن بعض المرجئة جعلت هدبة بن خالد يجعله
ممن يرى رأي الإرجاء، وإليك مصداقية هذا الأمر بأثرين عنه: فلقد قال الإمام ابن
أبي حاتم رحمه الله في الجرح (ج /1/ ص 137) نا بشر بن مسلم بن عبدالحميد التنوخي
الحمصي نا حيوة - يعني ابن شريح الحمصي - قال: قلت لشعبة: لم تروي عن حماد بن أبي
سليمان، وكان مرجئاً؟ قال: كان صدوق اللسان. وقال في كتابه الجرح ( ج/1/148): نا
بشر بن مسلم بن عبدالحميد التنوخي الحمصي نا حيوة؛ قال: قلت لشعبة: لم تروي عن
عمرو بن مرة وكان مرجئاً؟! قال: كان أصغر القوم، وأكثرهم علماً.
ثالثاً: هذه
الأحاديث التي ذكرناها من قبل؛ في أن الإمام شعبة بن الحجاج رحمه الله؛ يناقض أصل
المرجئة في مسألة أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأحاديث
الباقية التي سنذكرها بعد قليل: تبين أن الإمام شعبة رحمه الله يناقض أصل المرجئة
في مسألة الاستثناء. ومن هذه التوجيهات الصحيحة للأثر يتبين لنا: أن الإمام شعبة
رحمه الله بريء من هذه التهمة، وأنه لا يرى رأي الإرجاء. والتي بعدها تؤكد ذلك
وتزيده تأكيداً وتأكيداً.
رابعاً: كيف
يتهم مثل هذه الإمام بالإرجاء، وهو في روايته شديد على بدعة الإرجاء. وانظر إلى
هذا الأثر وتأمل فيه: قال الإمام عبدالله بن الإمام أحمد رحمهما الله: في كتاب
السنة (1/692) باب الإيمان والرد على المرجئة: حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي نا
عبدالرحمن بن مهدي قال: بلغني أن شعبة قال لشريك: كيف لا تجيز شهادة المرجئة؟ قال:
كيف أجيز شهادة قوم يزعمون أن الصلاة ليست من الإيمان؛ فروايته لهذا الأثر تدل على
شدته على المرجئة.
خامساً: كان
الإمام شعبة رحمه الله يقول عن بعضهم: مرجئ؛ كما في تعظيم قدر الصلاة (211/1090)
عن حماد بن أبي سليمان، وكان يقول: الإرجاء. وقيس بن مسلم؛ كما عند ابن بطة في
الإبانة (2/1174) قال عنه: ففرحت بهذا الحديث، وكان قيس يرى رأي المرجئة. وقد نقل
اللالكائي رحمه الله ما يدل على أن شعبة رحمه الله يخالف المرجئة في مسألة
الاستثناء، وذلك بقول صاحبه وتلميذه والراوي عنه يحيى بن سعيد القطان رحمه الله؛
قال اللالكائي تحت باب: سياق ما ذكر من كتاب الله وما روى عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم والعلماء الخالفين لهم في وجوب الاستثناء
في الإيمان: .. ومن الفقهاء: عبدالله بن شبرمة ومعمر وسفيان الثوري وسفيان بن
عيينة وجرير بن عبدالحميد وعبدالله بن المبارك ويحيى بن سعيد القطان، وقال: (ما
أدركت أحداً من أصحابنا وما بلغني إلا على الاستثناء).
أقول: لا يشك
اثنان بل ولا ينتطح عنزان؛ في أن شعبة بن الحجاج رحمه الله من كبار شيوخ وأصحاب
يحيى بن سعيد القطان رحمه الله، وفي هذا السياق كفاية لمن أراد الحق ورامه، وبلاغ
لمن سار وراء الدليل، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، والله المستعان على ما يصفه
الظالمون.
الفصل الخامس:
كلمات لربيع تصلح في الرد عليه وعلى مذكرته.
إن هذه
الكلمات التي كتبها ربيع بن هادي مدخلي في كتابه: (منهج أهل السنة والجماعة في نقد
الرجال والكتب والطوائف) لهي كلمات كافية في الرد عليه وعلى مذكرته الجائرة، ولا
أدري هل لم يطلع عليها أثناء كتابته للمذكرة؛ أم أنه نسي؛ أم أنه اطلع عليها
وتركها لحاجة في نفسه - ولله في خلقه شؤون - فإلى ما كتبه ربيع في كتابه (ص 120)
الطبعة الأولى.
قال: وتأمل أخي
القارئ ما قاله وكتبه ونقله حق التأمل وتمعنه حق التمعن؟! قال الحافظ ابن رجب رحمه
الله في شرح علل الترمذي. (وقد تسلط كثير ممن يطعن في أهل الحديث عليهم بذكر شيء
من هذه العلل وكان مقصوده بذلك؛ الطعن في أهل الحديث جملة والتشكيك فيه أو الطعن
في غير حديث أهل الحجاز كما فعله حسين الكرابيسي في كتابه الذي سماه بكتاب
المدلسين، وقد ذكر كتابه للإمام أحمد فذمه ذماً شديداً. وكذلك أنكره عليه أبو ثور
وغيره من العلماء؛ قال المروزي: فمضيت إلى الكرابيسي وهو إذ ذاك مستور يذب عن
السنة ويظهر نصرة أبي عبدالله فقلت له: إن كتاب المدلسين يريدون أن يعرضوه على أبي
عبدالله فأظهر إنك ندمت حتى أخبر أبا عبدالله فقال لي: إن أبا عبدالله رجل صالح؛
مثله يوفق لإصابة الحق، وقد رضيت أن يعرض كتابي عليه، وقد سألني أبو ثور وابن عقيل
وحبيش أن أضرب على هذا الكتاب فأبيت عليهم، وقلت: بل أزيد فيه. ولج في ذلك وأبى أن
يرجع عنه؛ فجيء بالكتاب إلى أبي عبدالله، وهو لا يدري من وضع الكتاب، وكان في
الكتاب الطعن على الأعمش والنصرة للحسن بن صالح، وكان في الكتاب: (إن قلتم: إن
الحسن بن صالح كان يرى رأي الخوارج؛ فهذا ابن الزبير قد خرج) فلما قرئ على أبي
عبدالله قال: هذا قد جمع للمخالفين ما لم يحسنوا أن يحتجوا به؛ حذروا عن هذا، ونهى
عنه. قال ربيع بن هادي مدخلي بعد أن نقل نقلاً آخر؛ قال: قلت: وما أشبه الليلة
بالبارحة؛ فخصوم السنة والتوحيد؛ يستغلون اليوم كتابات وأشرطة بعض من ينتسبون إلى
السنة والتوحيد في الطعن في أعلام السنة والتوحيد ودعاتها، بل الأشد نكاية وفجيعة؛
أن يتأثر بهذه الأشرطة والكتابات والدعايات؛ كثير من أبناء السنة والتوحيد،
فيسددون سهام التجريح والتهم الظالمة إلى أعلام التوحيد والسنة وحملة راياتها
والمدافعين عن حياضهما، والأشد من ذلك أسفاً وفواجع؛ أن يتعاطفوا ويتضامنوا مع أهل
البدع والضلال في تسديد السهام المسمومة التي يعتبرها أعداء السنة والتوحيد السهام
الأخيرة للإجهاز على البقية الباقية من السنة والتوحيد. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
... على النفس من وقع الحسام المهند. فإنا لله وإنا إليه راجعون).
أقول: وما
أشبه الليلة بالبارحة، ولكل قوم وارث فإن هذه المذكرة
الجائرة التي كتبها ربيع المدخلي؛ لهي جمعت للمخالفين ما لم يحسنوا أن يحتجوا به،
والأشد من ذلك والأدهى؛ أن يسددوا سهام النقد واللذع؛ لأئمة السلف كشعبة والأعمش
وسفيان عليهم رحمة الله، وأن ينسبوهم إلى البدع المحدثة في دين الله. ألا ترى أخي
القارئ: أن هذه المذكرة الجائرة أول من يفرح بها هم أهل البدع؛ فإنها مكتوبة لهم
من جهة شعر بها كاتبها؛ أو لم يشعر"اهـ