بخصوص الفوزان
وزيد المدخلي
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه ؛؛؛ أما بعد:
أخي الحبيب:
كلمتني تعاتبني على ما كتبته بشأن (الفوزان وزيد المدخلي) في مقالتي ]أبو حنيفة بين
ذم السلف ومدح الخلف[؛ فجزاك الله خيراً على حرصك على
أخيك، ونصحك له، وليس هذا بغريب عليك؛ فإن الطيب من معدنه لا يستغرب.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا على طاعته، وأن يجعلنا من المتحابين فيه،
وأن يثبتنا على الإسلام والسنة، ويميتنا على ذلك.
وبالنسبة لما ذكرته في مهاتفتك لي؛ فدعني أولاً أطرح عليك أموراً:
الأول: هل ينازع سلفي في ضلال
ابن حجر الهيتمي، وأنه مبتدع زائغ؟
فكيف توجه إذاً؛ ما انتهجه علماء الدعوة بشأنه، وشأن غيره من أهل الأهواء،
والبدع؟
قال عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب: "ونحن كذلك؛ لا نقول بكفر من صحت
ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة؛ ببذل نفسه
لتدريس العلوم النافعة، والتآليف فيها، وإن كان مخطئاً في هذه المسألة أو غيرها؛
كابن حجر الهيتمي؛ فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم، ولا ننكر سمة ([1])
علمه، ولهذا نعتني بكتبه، كشرح الأربعين، والزواجر، وغيرها، ونعتمد على نقله إذا
نقل؛ لأنه من جملة علماء المسلمين.هذا ما نحن عليه، مخاطبين من له عقل وعلم، وهو
متصف بالإنصاف، خال عن الميل إلى التعصب والاعتساف"اهـ (الدرر السنية 1/236)
فإذا كان هذا حالهم معه، وهو القائل:
"ابن تيمية عبد خذله الله وأضله، وأعماه وأصمه وأذله، وبذلك صرح
الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومنأراد ذلك؛ فعليه بمطالعة كلام
الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي،
وولده التاج، والشيخ الإمام العز بن جماعة، وأهل عصرهم، وغيرهم من الشافعية
والمالكية والحنفية، ولم يقصر اعتراضه على متأخري الصوفية بل اعترض على مثل عمر بن
الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ كما يأتي. والحاصل أن لا يقام لكلامه
وزن؛ بل يرمي في كل وعر وحزن، ويعتقد فيه أنه مبتدع ضال ومضل؛جاهل غال عامله الله
بعدله، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله؛آمين .. إلى أن قال: وهو يناسب ما كان
عليه من سوء الاعتقاد حتى في أكابر الصحابة ومن بعدهم إلى أهل عصره، وربما أداه
اعتقاده ذلك إلى تبديع كثير منهم. ومن جملة من تتبعه الولي القطب العارف أبو الحسن
الشاذلي نفعنا الله بعلومه ومعارفه في حزبه الكبير وحزب البحر وقطعة من كلامه؛ كما
تتبع ابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، وتتبع أيضاً الحلاج الحسين بن منصور، ولا
زال يتتبع الأكابر حتى تمالأ عليه أهل عصره ففسقوه، وبدعوه؛ بل كفره كثير منهم،
وقد كتب إليه بعض أجلاء أهل عصره علماً ومعرفة سنة خمس وسبعمائة: من فلان إلى
الشيخ الكبير العالم إمام أهل عصره بزعمه؛ أما بعد فإنا أحببناك في الله زماناً،
وأعرضنا عما يقال فيك إعراض الفضل إحساناً؛ إلى أن ظهر لنا خلاف موجبات المحبة
بحكم ما يقتضيه العقل والحس، وهل يشك في الليل عاقل إذا غربت الشمس، وأنك أظهرت
أنك قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله أعلم بقصدك ونيتك، ولكن الإخلاص
مع العمل ينتج ظهور القبول، وما رأينا آل أمرك إلا إلى هتك الأستار والأعراض؛
باتباع من لا يوثق بقوله من أهل الأهواء والأغراض؛ فهو سائر زمانه يسب الأوصاف
والذوات، ولم يقنع بسب الأحياء؛ حتى حكم بتكفير الأموات، ولم يكفه التعرض على من
تأخر من صالحي السلف؛ حتى تعدى إلى الصدر الأول، ومن له أعلى المراتب في الفضل؛
فيا ويح من هؤلاء خصماؤه يوم القيامة، وهيهات أن لا يناله غضب، وأني له بالسلامة.
وكنت ممن سمعه وهو على منبر جامع الجبل بالصالحية، وقد ذكر عمر بن الخطاب رضي الله
عنه؛ فقال: إن عمر له غلطات وبليات، وأي بليات.وأخبر عنه بعض السلف؛ أنه ذكر علي
بن أبي طالب رضي الله عنه في مجلس آخر؛ فقال: إن عليا أخطأ في أكثر من ثلاثمائة
مكان، فيا ليت شعري من أين يحصل لك الصواب؛ إذا أخطأ علي - بزعمك - كرمالله وجهه،
وعمر بن الخطاب؟ والآن قد بلغ هذا الحال إلى منتهاه، والأمر إلى مقتضاه، ولاينفعني
إلا القيام في أمرك، ودفع شرك؛ لأنك قد أفرطت في الغي، ووصل أذاك إلى كل ميت وحي،
وتلزمني الغيرة شرعاً لله ولرسوله، ويلزم ذلك جميع المؤمنين، وسائر عباد الله
المسلمين بحكم ما يقوله العلماء، وهم أهل الشرع وأرباب السيف الذين بهم الوصل
والقطع؛ إلى أن يحصل منك الكف عن أعراض الصالحين رضي الله عنهم أجمعين. انتهى. واعلم
أنه خالف الناس في مسائل؛ نبه عليها التاج السبكي، وغيره. فمما خرق فيه الإجماع
قوله في: علي الطلاق أنه لا يقع عليه؛ بل عليه كفارة يمين، ولم يقل بالكفارة أحد
من المسلمين قبله، وأن طلاق الحائض لا يقع، وكذا الطلاق في طهر جامع فيه، وأن
الصلاة إذا تركت عمداً لا يجب قضاؤها، وأن الحائض يباح لها بالطواف بالبيت، ولا
كفارة عليها، وأن الطلاق الثلاث يرد إلى واحدة، وكان هو قبل ادعائه ذلك؛ نقل إجماع
المسلمين على خلافه، وأن المكوس حلال لمن أقطعها، وأنها إذا أخذت من التجار
أجزأتهم عن الزكاة، وإن لم تكن باسم الزكاة، ولا رسمها، وأن المائعات لا تنجس بموت
حيوان فيها كالفأرة، وأن الجنب يصلى تطوعه بالليل، ولا يؤخره إلى أن يغتسل قبل
الفجر، وإن كان بالبلد، وأن شرط الواقف غير معتبر؛ بل لو وقف على الشافعية صرف إلى
الحنفية وبالعكس، وعلى القضاة صرف إلى الصوفية؛ في أمثال ذلك من مسائل الأصول
مسألة الحسن، والقبح التزم كل ما يرد عليها، وإن مخالف الإجماع لا يكفر ولا يفسق،
وأن ربنا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً محل الحوادث
تعالى الله عن ذلك وتقدس، وأنه مركب تفتقر ذاته افتقار الكل للجزء؛ تعالى الله عن
ذلك وتقدس، وأن القرآن محدث في ذات الله تعالى الله عن ذلك، وأن العالم قديم
بالنوع، ولم يزل مع الله مخلوقاً دائماً فجعله موجباً بالذات؛ لا فاعلاً بالاختيار
تعالى الله عن ذلك، وقوله بالجسمية والجهة والانتقال، وأنه بقدر العرش لا أصغر،
ولا أكبر تعالى الله عن هذا الافتراء الشنيع القبيح، والكفر البواح الصريح، وخذل
متبعيه، وشتت شمل معتقديه، وقال: إن النار تفنى، وأن الأنبياء غير معصومين، وأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا جاه له، ولا يتوسل به، وأن إنشاء السفر إليه
بسبب الزيارة معصية؛ لا تقصر الصلاة فيه، وسيحرم ذلك يوم الحاجة ماسة إلى شفاعته،
وأن التوراة والإنجيل؛ لم تبدل ألفاظهما، وإنما بدلت معانيهما. وقال بعضهم: ومن
نظر إلى كتبه؛ لم ينسب إليه أكثر هذه المسائل؛ غير أنه قائل بالجهة، وله في
إثباتها جزء، ويلزم أهل هذا المذهب الجسمية، والمحاذاة والاستقرار؛ أي فلعله في
بعض الأحيان؛ كان يصرح بتلك اللوازم؛ فنسبت إليه ذلك من أئمة الإسلام المتفق على
جلالته، وإمامته، وديانته، وأنه الثقة العدل المرتضى المحقق المدقق، فلا يقول شيئاً
إلا عن تثبت وتحقق، ومزيد احتياط وتحر؛ سيما إن نسب إلى مسلم؛ ما يقتضي كفره،
وردته، وضلاله، وإهدار دمه؛ فإن صح عنه مكفر، أو مبدع يعامله الله بعدله، وإلا
يغفر لنا، وله"اهـ (الفتاوى الحديثية
ص 83-85)
وقال: "إن من أبلغ ما مدح به النبي صلى الله
عليه وسلم من النظم الرائق البديع، وأحسن ما كشف عن كثير من شمائله من الوزن
الفائق المنيع، وأجمع ما حوته قصيدة من مآثره وخصائصه ومعجزاته، وأفصح ما أشارت
إليه منظومة من بدائع كمالاته؛ ما صاغه صوغ البسر الأحمر، ونظمه نظم الدر والجوهر،
الشيخ الإمام، العارف الكامل الهمام، المتفنن المحقق، البليغ الأديب المدقق، إمام
الشعراء، وأشعر العلماء، وبليغ الفصحاء، وأفصح الحكماء، الشيخ شرف الدين أبو عبدالله
محمد بن حماد بن محسن بن عبدالله بن صنهاج ابن هلال الصنهاجي...البوصيري"اهـ (المنح المكية1/105)
وقال: "ولا
يعتبر بإنكار ابن تيمية لسن زيارته صلى الله عليه وسلم؛ فإنه عبد أضله الله؛ كما
قال العز ابن جماعة، وأطال في الرد عليه؛ التقي السبكي في تصنيف مستقل، ووقوعه في
حق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليس بعجب؛ فإنه وقع في حق الله سبحانه وتعالى
عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً؛ فنسب إليه العظائم؛ كقوله: إن لله
تعالى جهة ويداً ورجلاً وعيناً، وغير ذلك من القبائح الشنيعة، ولقد كفره كثير من
العلماء؛ عامله الله بعدله، وخذل متبعيه الذين نصروا ما افتراه على الشريعة الغراء"اهـ
(حاشيته على مناسك النووي ص489)
وقال: "وما
زال يتلاعب به الهوى؛ حتى كان مجموعة بدع شنعاء، ودائرة جهالات، وأباطيل شوهاء؛
منها ما سبق، ومنها ما لم يسبق إليه؛ فنجده في مسائل من علم التوحيد حشوياً
كرامياً؛ يقول في الله بالأجزاء والجهة والمكان والنـزول والصعود الحسيين، وحلول
الحوادث بذاته تعالى، ومن ناحية أخرى نجده في حضيضة الخوارج؛ يكفر أكابر الأمة،
ويخطئ أعاظم الأئمة .. من هو ابن تيمية؛ حتى ينظر إليه، أو يعول في شيء من أمور
الدين عليه؟ وهل هو إلا كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقبوا كلماته الفاسدة،
وحججه الكاسدة؛ حتى أظهروا عوار سقطاته؛ وقبائح أوهامه، وغلطات؛ كالعز بن جماعة:
عبد أضله الله تعالى، وأغواه، وألبسه رداء الخزي، وأرداه، وبوأه من قوة الافتراء
والكذب ما أعقبه الهوان، وأوجب له الحرمان. ولقد تصدى شيخ الإسلام، وعالم الأنام؛
المجمع على جلالته، واجتهاده وصلاحه وإمامته؛ التقي السبكي؛ قدس الله روحه، ونور
ضريحه؛ للرد عليه في تصنيف مستقل؛ أفاد فيه وأجاد، وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق
الصواب؛ ثم قال: هذا ما وقع من ابن تيمية مما ذكر، وإن كان عثرة لا تقال أبداً،
ومصيبة يستمر شؤمها سرمداً؛ ليس بعجيب؛ فإنه سولت له نفسه وهواه وشيطانه؛ أنه ضرب
مع المجتهدين بسهم صائب، وما درى المحروم أنه أتى بأقبح المعائب؛ إذ خالف إجماعهم
في مسائل كثيرة، وتدارك على أئمتهم؛ سيما الخلفاء الراشدين؛ باعتراضات سخيفة شهيرة؛
حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس المنزه؛ سبحانه عن كل نقص، والمستحق لكل كمال أنفس؛
فنسب إليه الكبائر والعظائم، وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة على المنابر من
دعوى الجهة والتجسيم، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين؛ حتى قام
عليه علماء عصره، وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره؛ فحبسه إلى أن مات، وخمدت
تلك البدع، وزالت تلك الضلالات؛ ثم انتصر له أتباع؛ لم يرفع الله لهم رأساً، ولم
يظهر لهم جاهاً، ولا بأساً؛ بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله؛
ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"اهـ (الجوهر المنظم ص 77)
وقال عن ابن
تيمية، وابن القيم: "هذا من قبيل رأيهما وضلالهما؛ إذ هو مبني على ما ذهبا
إليه، وأطالا في الاستدلال له، والحط على أهل السنة في نفيهم له، وهو إثبات الجهة
والجسمية لله تعالى، ولهما في هذا المقام من القبائح، وسوء الاعتقاد؛ ما تصم عنه
الآذان، ويقضى عليه بالزور والبهتان؛ فقبحهما الله، وقبح من قال بقولهما، والإمام
أحمد، وأتباع مذهبه؛ مبرؤون عن هذه الوصمة القبيحة؛ كيف، وهي كفر عند كثيرين"اهـ
(مرقاة المفاتيح 7/2778)
فكيف يكون
موقفهم؛ مع من هو دونه في الضلال؟
الثاني: هل
ينازع سلفي في أن النووي، والقسطلاني، والعسقلاني، والمناوي؛ ليسوا من أهل السنة
والجماعة؛ بل من أهل الأهواء، والبدع؟
ومع هذا فهم
عند علماء الدعوة؛ أئمة مبرزون! (الدرر 1/228)
الثالث:
هل ينازع سلفي في وجوب إتلاف كتب أهل البدع؟
قال ابن القيم: "والمقصود: أن هذه الكتب المشتملة على الكذب، والبدعة؛
يجب إتلافها وإعدامها، وهي أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف، وإتلاف آنية
الخمر، فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها، كما لا ضمان في كسر أواني الخمر،
وشق زقاقها"اهـ (الطرق الحكمية ص 277)
ومع هذا؛
فمنهج علماء الدعوة؛ عدم إتلاف شيء من المؤلفات؛ إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس
في الشرك، أو يحصل بسببه خلل في العقائد؛ كعلم المنطق. (الدرر 1/228)
فإذ ذلك كذلك؛
فهذا المنهج السائد الذي عليه أكثر الناس اليوم؛ من الاستنكاف عن وصف من ذكرنا
بالبدعة، والامتعاض ممن حكم عليهم بالابتداع، والحط عليه، ورميه بالشذوذ
والمخالفة، وتنقص العلماء؛ إنما أخذوه ممن قبلهم؛ حتى صار منهجاً عاماً لهم؛ كما
صرح بذلك صالح آل الشيخ.
فهذا ابن
القيم - وقبله ابن أبي يعلى - لما نقل اعتقاد السلف عن حرب الكرماني؛ لم يذكر
كلامه في أبي حنيفة.
فهل كانوا
مستضعفين في زمانهم؛ فأرادوا مداراة الناس، وتأليف قلوبهم؟
لست أدري.
على كل حال؛
نحن نفرق بين عدم إظهار الطعن في شخص ما؛ جلباً لمصلحة، أو درءاً لمفسدة، وبين رفض
الكلام فيه، والطعن فيمن يظهر طعن الأئمة فيه، ورد كلام السلف برمته، ومخالفة منهجهم،
والأنكى من ذلك؛ تفخيمه، وتعظيمه، ووصفه بالإمامة، والطعن في أكابر الأمة من طرف
خفي؛ لأجله.
وإذ ذلك كذلك؛
فما عذرنا نحن، وقد استبان الصبح لكل ذي عينين؟
ما الذي
يجعلنا ندافع عن أبي حنيفة، والباقلاني، والشوكاني، وغيرهم كثير، ونصفهم بالإمامة،
ونحذر ممن يتكلم فيهم.
وعوداً على
بدء؛ أقول:
لا شك أن هذا
المنهج الذي نقلته لك عن علماء الدعوة ([2])
مغاير تماماً لمنهج السلف الصالح، ومخالف له؛ فقد أُغلق باب التبديع، أو كاد، وإلا
فهات لي مبتدعاً بعد عصر الإمام أحمد؛ لن تجد، وإن وجدت فمن وراء وراء، وسيكون أحد
رجلين:
إما رجل ظهر
ضلاله وبهتانه، وفسقه وانحلاله؛ كابن عربي - مثلاً - ومع هذا؛ فقد وجد من ينافح
عنه.
أو رجل صان
نفسه عن هذه المهالك؛ لكنه غارق في البدعة؛ كالباقلاني- مثلاً - فهذا إن وجد من
بدعه - أبو حامد الإسفرايني - فالجمهور على خلافه؛ فقد عدلوه، واعتبروه من كبار
حملة العلم؛ فمن ثم ذهب تبديع أبي حامد أدراج الرياح، وبقي الباقلاني- إمام
الأشعرية الثاني - أحد كبار أئمة المسلمين!
وهكذا اندرس
مذهب السلف، أو كاد، وأصبح المبتدع عند الناس؛ هو عمرو بن عبيد، والجهم (وحتى هذا؛
فقد دافع عنه القاسمي) والمريسي، والجعد، وأضرابهم.
أما رؤوس
الأشاعرة، وغيرهم من أهل البدع؛ فليسوا كذلك؛ بل هم من حملة الشريعة؛ لهم جهود
وحسنات لا يمكن إغفالها؛ فضلاً عن إهدارها، وإن كانت لهم أخطاء؛ فأهل السنة لا
يوافقونهم عليها؛ لكنهم لا يحكمون عليهم بالبدعة لأجلها.
فليت شعري؛ إن
لم يُبدَع الأشعري - مثلاً - فمن الذي يُبدَع.
وهكذا أصبح
هذا المنهج المنسوب زوراً وبهتاناً للسلف؛ من المسلمات عند الخاصة والعامة.
وإن رمت
الدليل؛ فتأمل تعامل ابن باز- على سبيل المثال - مع المبتدعة؛ أمثال القرضاوي، والصابوني،
والبوطي، ولغة خطابه معهم، واسأل نفسك إن كان بدع واحداً منهم؛ أم لا؟
ثم اختر بعد
ذلك؛ أحد أمرين:
إما أن تقر بأن
منهج السلف أعلم وأسلم وأحكم.
أو تقول: لا؛ بل
منهج الخلف.
ولا إخالك
تفعل.
وحينئذ لا
توقع اللوم على من قلد سلفه، وتمسك بغرزهم، وحذا حذوهم؛ بل لُمْ من خالف ذلك بغير
حجة؛ اللهم إلا الاستحسانات المحضة.
فإن قلت:
لا ألومك على
هذا؛ إنما ألومك على ما بدر منك تجاه (الفوزان وزيد المدخلي) من شدة في الخطاب، وحدة في الأسلوب.
أجبتك: بل وجه اللوم لهما؛ لأنهما خالفا السلف، وطعنا في الأئمة.
فيا لله العجب؛ أُلام على شدتي عليهما، ولا يلامان على كلامهما هذا.
وإلا فما معنى قول الفوزان: "أبو حنيفة؛ إمام من
أئمة أهل السنة".
أي سنة تلك التي
أبو حنيفة إمام فيها؟
ومن يقصد بقوله:
"هو إمامنا وقدوتنا؛ يرضى من يرضى، ويغضب من يغضب".
خبرني بالله
عليك!
وما معنى قول زيد
المدخلي: "لا يقال ويقرر: بأن أبا حنيفة مبتدع وضال؛ لا يجوز هذا الكلام؛ أبو
حنيفة من الأئمة الأربعة".
أهكذا يُرد
إجماع السلف؛ بمجرد كلام مرسل لا زمام له، ولا خطام.
وقوله: "ما
وُجد أن أبا حنيفة أخطأ فيه؛ بأنه من أهل الرأي، لا يعتبر أنه يبيح الكلام فيه
وأنه مبتدع؛ كما يفعل بعض الذين توسعوا في ذمه؛ حتى عدلوا اسمه بدل أبي حنيفة؛
يقولون: أبو جيفة، وهذا حرام لا يجوز لهم التفوه به؛ فالمقصود أنه ما من أحد من
الأئمة أو من أهل العلم غير الرسل والأنبياء؛ إلا وهو يقع في كلامه شيء من الخطأ،
وهم يذكرون ذلك ويتبرؤون عن الخطأ؛ فما وجد عن أبي حنيفة من الخطأ يبين للناس
ويُصحح، ولا يجوز أن يُذم أبو حنيفة، وأن يُشنع عليه، ويحذر الناس من فقهه؛ هذا لا
يقوله أهل السنة؛ لا اليوم، ولا قبل اليوم".
ولا أدري
والله؛ كيف استباح أئمة السلف جرحه، والطعن فيه؟
أي ندينهم،
وورعهم من ذلك؟
كيف أقروا
الحرام، وقالوا: أبو جيفة؟
أيكون منهج الشيخ؛
أهدى من منهجهم؟
أم تراه أورع
وأتقى من أيوب؟
ثم تأمل قوله:
"هذا لا يقوله أهل السنة؛ لا اليوم، ولا قبل اليوم".
فأنا ما قلت شططاً حتى تلومني، وإلا فراجع كلامي مرة أخرى، ولا تحكم عليه
من أول وهلة، ولا تأخذك العاطفة.
واعلم أن "لنا
شريعة؛ لو رام أبو بكر الصديق أن يخرج عنها إلى العمل برأيه؛ لم يقبل منه".
لقد سئمنا من هذه الهالات والتقديسات التي وضعت على المعاصرين؛ ويكأنهم لا
يقولون إلا حقاً، ولا ينطقون إلا صدقاً.
ومن ثم؛ يكون الكلام فيهم، والتحذير من أخطائهم؛ من أكبر الكبائر.
هذا سليمان الخراشي الحزبي؛ يكتب مقالة بعنوان: (تناقضات الألباني)؛ فتنهال
عليه التقريعات والتوبيخات؛ لأنه تجرأ!! على الألباني، وقال: (تناقضات)!
فمن ثم هاج الهمج، وماجوا؛ قائلين: اللهم ارزقنا الأدب مع العلماء.
والعجيب أن الألباني نفسه؛ أكثر من استخدام هذه الكلمة (تناقضات) مع فحول
العلم عند هؤلاء؛ حتى مع ابن تيمية، ولعلك على ذكر من قوله ( .. تناقض ابن تيمية
تناقضاً مكشوفاً .. )، ومع هذا؛ لم يقل له أحد: اللهم ارزقنا الأدب مع العلماء.
قلت: اللهم ارزقنا الإنصاف، وعدم الاعتساف.
لقد افتقدنا لغة العلم؛ كما افتقدنا حقيقته، وتصنعنا الأدب الزائد، وأظهرنا
الورع البارد (كفر رحمه الله!!) فصرنا، وكأننا أكثر تأدباً من أئمة السلف الذين
بدعوا وجدعوا، ولم تأخذهم في الله لومة لائم؛ ولم يشترطوا ما اشترطه اليوم؛ أهل
التحذلق.
ولا أدري بم سيحكمون على الذهبي عندما يقرؤون قوله في الحاكم: (ما أجهلك
على سعة علمك)، أو على ابن حجر في قوله عن ابن الجوزي بأنه (حاطب ليل)، أو على الدارقطني،
وكتابه (الإلزامات)؛ فلو كان ألفه في زماننا؛ لاتهم بهدم السنة، والطعن في ثوابت
الأمة.
هذا ما حضرني الآن، وإلا فالأمثلة كثيرة.
ولا يقال:
فأين احترام أهل العلم، وتوقيرهم؟
لأن هذا موكول بالسير على الجادة؛ فمتى ما انحرف العالم عنها؛ رُد عليه، وبُين
خطؤه، ومتى لم يحترم العالم أئمة العلم والدين من سلفنا الصالح؛ الإمام أحمد فمن
فوقه من الأئمة؛ فقد أزرى بنفسه، وحط من شأنه؛ فلا يلومن حينئذ إلا نفسه.
فضلاً عن أن المقام ها هنا يقتضي الشدة.
وعلى كل حال؛ إن كنت ترى أني طعنت فيهما؛ فالله يعلم أن هذا ليس قصدي؛ إنما
أردت الذب عن الأئمة فحسب.
[2]- قال صالح آل
الشيخ: "إذا كانت المسألة متعلقة بالعقائد، أو كانت المسألة متعلقة بعالم من
أهل العلم في الفتوى في شأنه بأمر من الأمور؛ فإنه هنا يجب النظر فيما يؤول إليه الأمر
من المصالح، ودفع المفاسد؛ لهذا ترى أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى من وقت الشيخ عبداللطيف
بن عبدالرحمن بن حسن - أحد الأئمة المشهورين -إلى وقت الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله
تعالى إذا كان الأمر متعلقاً؛ بإمام أو بعالم أو بمن له أثر في السنة؛ فإنهم
يتورعون، ويبتعدون عن الدخول في ذلك. مثاله الشيخ صديق حسن خان القنوجي الهندي
المعروف عند علمائنا؛ له شأن ويقدرون كتابه (الدين الخالص) مع أنه نقد الدعوة في
أكثر من كتاب له؛ لكن يغضون النظر عن ذلك، ولا يصعدون هذا؛ لأجل الانتفاع بأصل
الشيء، وهو تحقيق التوحيد، ودرء الشرك. المثال الثاني: الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني
المعروف - صاحب كتاب سبل السلام، وغيره - له كتاب تطهير الاعتقاد، وله جهود كبيرة
في رد الناس للسنة، والبعد عن التقليد المذموم، والتعصب وعن البدع؛ لكنه زل في بعض
المسائل .. والشوكاني رحمه الله تعالى؛ مقامه أيضاً معروف؛ الشوكاني له اجتهاد خاطئ
في التوسل، وله اجتهاد خاطئ في الصفات، وتفسيره في بعض الآيات فيه تأويل؛ لكن
العلماء لا يذكرون ذلك. لماذا فعلوا ذلك؟ لأن الأصل الذي يبني عليه هؤلاء العلماء
هو السنة؛ فهؤلاء ما خالفونا في أصل الاعتقاد، ولا خالفونا في التوحيد، ولا
خالفونا في نصرة السنة، ولا خالفونا في رد البدع، وإنما اجتهدوا فأخطأوا في مسائل،
والعالم لا يتبع بزلته كما أنه لا يتبع في زلته؛ هذه تترك ويسكت عنها، وينشر الحق،
وينشر من كلامه ما يؤيد به ..".
انتهى
الشاهد من كلامه، وفيه:
1- منهج
الموازنات.
2- تجويز
الاجتهاد في العقائد.
3- إسقاط
(التبديع) من باب الأسماء والأحكام.
4- العبرة
بالوفاق؛ لا بالخلاف؛ فمن وافق أهل السنة في أصل الاعتقاد؛ فلا حرج عليه، وهو
مأجور على كل حال.
5- مخالفة
العالم لأصل أو أكثر؛ من الزلات التي ينبغي أن تُترك، ويُسكت عنها.
6- وأشياء
أخرى؛ يعرفها من تأمل كلامه.
وكلامه
هذا كله؛ باطل جملة، وتفصيلاً؛ ليس عليه أثارة من علم، وإن عزاه إلى علماء فضلاء؛
فالحق أحق أن يتبع، وكل يؤخذ من قوله ويترك. وإلا فلو كان كما قال؛ لما وُجدت كتب الجرح والتعديل، ولا منهج النقد؛ بل ما
وجد مبتدع على وجه الأرض، ولكان أئمة السلف ظلمة وضلال؛ حيث لم يعذروا من اجتهد
يريد الحق؛ فأخطأ، ولم ينظروا إلى خصاله الحميدة؛ كالعلم والديانة والورع، والذب
عن الدين، وغير ذلك.