منهج السلف
الصالح في التعامل مع أخطاء العلماء - 5 -
إسماعيل ابن علية
إسماعيل بن
إبراهيم بن سهم بن مقسم البصري؛ أبو بشر؛ مولى بني أسد بن خزيمة؛ الكوفي الأصل
الإمام؛ العلامة؛ الحافظ؛ الثبت؛ الثقة؛ النبيل؛ الجليل؛ الفقيه؛ المفتي؛ المشهور
بابن عُلَيَّة ([1])
وهي أمه. من أئمة العلماء، والمحدثين الرفعاء.
ولد سنة عشر
ومئة.
روى عن: محمد
بن المنكدر، وأيوب السختياني، ويونس بن عبيد، وشعبة بن الحجاج، وإسحاق بن سويد،
وعلي بن زيد، وحميد الطويل، وعطاء بن السائب، وعبدالله بن
أبي نجيح، وسهيل بن أبي صالح، وليث بن أبي سليم، وعبدالعزيز بن صهيب، وأبي
التياح الضبعي، وسعيد الجريري، وحبيب بن الشهيد، وعبدالملك بن جريج، وحجاج بن أبي
عثمان الصواف، وحنظلة السدوسي، وخالد الحذاء، وروح بن القاسم، وسليمان التيمي،
وعاصم بن سليمان، وعوف بن أبي جميلة، ومحمد بن الزبير الحنظلي، وبرد بن سنان، وداود
بن أبي هند، وعلي بن الحكم البناني، ومنصور بن عبدالرحمن
الأشل، والوليد بن أبي هشام، ويحيى بن عتيق، ويحيى بن ميمون العطار، ويحيى بن
يزيد الهنائي، وأبي ريحانة السعدي، وخلق كثير.
روى عنه: ابن
جريج، وشعبة - وهما من شيوخه - وحماد بن زيد، وعبدالرحمن بن مهدي، وعلي بن المديني،
وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، ويحيى بن معين، وعمرو بن علي الفلاس، وعمرو بن
رافع القزويني، وأحمد بن منيع، وزياد بن أيوب، وعلي بن حجر، وأحمد بن حرب، ومحمد
بن بشار، ويعقوب الدورقي، ونصر بن علي، والحسن بن عرفة، ومؤمل بن هشام، وعبيدالله
بن معاذ، وخليفة بن خياط، ومحمد بن المثنى، والحسن بن محمد الزعفراني،
وخلق كثير.
وحديثه في كتب
الإسلام كلها.
توفي سنة ثلاث
وتسعين ومئة.
من أقوال أهل
العلم فيه:
1-
قال شعبة بن
الحجاج: "إسماعيل ابن علية سيد المحدثين".
2-
وقال: "ابن
علية ريحانة الفقهاء".
3-
وقال يحيى بن
سعيد القطان، وعبدالرحمن بن مهدي: "إسماعيل ابن علية أثبت من وهيب".
4-
وقال عبدالرحمن
بن مهدي: "هو أثبت من هشيم".
5-
وقال عفان بن
مسلم: "كنا عند حماد بن سلمة؛ فأخطأ
في حديث، وكان لا يرجع إلى قول أحد؛ فقيل له : قد خولفت فيه. فقال :من؟ قالوا: حماد بن زيد؛ فلم يلتفت؛
فقيل: إن إسماعيل بن علية يخالفك؛ فقام ودخل؛ ثم خرج فقال: القول ما قال إسماعيل".
6-
وقال:
"كان ابن علية وهو شاب؛ من عباد البصرة".
7-
وقال خالد بن
الحارث: "كنا نشبه ابن علية بيونس بن عبيد".
8-
وقال يزيد بن
هارون: "دخلت البصرة، وما بها خلق يفضل على
ابن علية في الحديث".
9-
وقال غندر: "نشأت في
الحديث يوم نشأت، وليس أحد يقدم في الحديث على ابن علية".
10-
وقال حماد بن
سلمة: "ما كنا نشبه شمائل إسماعيل ابن علية إلا بشمائل يونس؛
حتى دخل فيما دخل فيه". ([2])
11-
وقال أحمد بن
حنبل: "إليه - يعني إسماعيل - المنتهى في التثبت بالبصرة".
12-
وقال: "إسماعيل
ثبت".
13-
وقال:
"فاتني مالك؛ فأخلف الله علي سفيان بن عيينة، وفاتني حماد بن زيد؛ فأخلف
الله علي إسماعيل بن علية".
14-
وقال: "كان
حماد بن زيد لا يعبأ إذا خالفه الثقفي ووهيب، وكان يهاب أو يتهيب إسماعيل ابن علية
إذا خالفه".
15-
وقال يحيى بن
معين: "كان إسماعيل ثقة مأموناً صدوقاً مسلماً ورعاً تقياً".
16-
وقال قتيبة بن
سعيد: "كانوا يقولون: الحفاظ أربعة: إسماعيل، ووهيب، وعبدالوارث، ويزيد ابن
زريع".
17-
وقال الهيثم
بن خالد: "اجتمع حفاظ البصرة؛ فقال أهل الكوفة لهم:
نحوا عنا إسماعيل، وهاتوا من شئتم".
18-
وقال زياد بن
أيوب: "ما رأيت لابن علية كتاباً قط، وكان
يقال: ابن علية يعد الحروف".
19-
وقال يعقوب
السدوسي: "ابن علية ثبت جداً".
20-
وقال أبو داود
السجستاني: "ما أحد من المحدثين إلا وقد أخطأ؛ إلا إسماعيل بن علية، وبشر بن
المفضل".
21-
وقال النسائي:
"إسماعيل ابن علية ثقة ثبت".
22-
وقال ابن سعد:
"كان ثبتاً حجة".
23-
وقال علي بن المديني:
"ما أقول: إن أحداً أثبت في الحديث من إسماعيل".
24-
وقال: "بت ليلة
عند ابن علية؛ فكان يقرأ ثلث القرآن".
25-
وقال:
"المحدثون صحفوا وأخطأوا؛ ما خلا أربعة؛ يزيد بن زريع، وابن علية، وبشر بن
المفضل، وعبدالوارث بن سعيد".
26-
وقال الدارمي
أحمد بن سعيد: "لا يعرف لابن علية غلط؛ إلا في حديث جابر في المدبر؛ جعل اسم
الغلام اسم المولى، واسم المولى اسم
الغلام".
27-
وقال ابن
عمار: "كان حجة".
28-
وقال وهيب بن خالد:
"حفظ إسماعيل بن علية، وكتاب عبدالوهاب".
29-
وقال حاتم بن وردان: "كان يحيى وإسماعيل ووهيب وعبدالوهاب يجلسون إلى
أيوب، وإذا قاموا جلسوا حول إسماعيل يسألونه كلهم؛ كيف قال؟".
30-
وقال الذهبي:
"كان موصوفاً بالدين والورع والتأله، منظوراً إليه في الفضل والعلم".
31-
وقال: "كان
فقيهاً إماماً مفتياً؛ من أئمة الحديث".
32-
وقال: "كان
حجة حافظاً فقيهاً".
33-
وقال: "كان
يقال: ابن علية يعد الحروف".
المآخذ التي
أخذها أهل العلم على إسماعيل:
أولاً: اتهامه
بالقول بخلق القرآن.
وذلك أنه كان يحدث
بهذا الحديث: (تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو
فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما). فقيل له: ألهما لسانان؟ قال: نعم؛ فكيف
تكلما؟ فقيل: إنه يقول: القرآن مخلوق. ([3])
قال إبراهيم
الحربي: "إنما غلط".
قلت: ومع هذا؛
فلما دخل على محمد بن هارون (الأمين)؛ قال: له يا ابن كذا، وكذا - أي شتمه - أيش
قلت؟ فقال إسماعيل: أنا تائب إلى الله؛ لم أعلم؛ أخطأت.
وصدق رحمه
الله؛ فقد تاب من هذه الهفوة، ولزم السكوت. وما تكلم به فسبق لسان، وإلا فعقيدته
في القرآن عقيدة السلف؛ فقد تواتر عنه القول: بأن القرآن كلام الله غير مخلوق،
ولما كذب عليه ابنه إبراهيم ([4]) وأخبر
عنه؛ بأنه يقول بخلق القرآن؛ أنكر عليه، وقد نقل عنه عبدالصمد بن مردويه؛ أنه كان
يقول: "القرآن كلام الله، وليس من الله شيء مخلوق، ومن قال، إن شيئاً من الله
مخلوق؛ فقد كفر، وأنا أستغفر الله مما كان مني في المجلس"، وقال الخطيب: "وقد
روي عن ابن علية في القرآن قول أهل الحق".
قال الذهبي: "إمامة
إسماعيل وثيقة لا نزاع فيها، وقد بدت منه هفوة وتاب، فكان ماذا!".
موقف أهل العلم
من هذه الهفوة:
1- الإمام
أحمد:
قال رحمه الله:
"ما زال إسماعيل وضيعاً من الكلام الذي تكلم به إلى أن مات".
وقال: "بلغني
أنه أُدخل على محمد بن هارون؛ فلما رآه زحف إليه، وجعل محمد يقول له: يا ابن؛ يا ابن
([5])
تتكلم في القرآن؟ قال: وجعل إسماعيل يقول له: جعله الله فداءه؛ زلة من عالم؛ جعله
الله فداءه؛ زلة من عالم، وردده غير مرة، وفخم كلامه كأنه يحكى إسماعيل؛ ثم قال:
لعل الله أن يغفر له بها - يعني لمحمد بن هارون - ثم ردد الكلام، وقال: لعل الله أن
يغفر له لإنكاره على إسماعيل".
وسأله الفضل
بن زياد: أليس قد رجع، وتاب على رؤوس الناس؟ قال: "بلى ولكن ما زال مبغَضاً
لأهل الحديث بعد كلامه ذاك؛ إلى أن مات".
2-
عبدالوهاب
الوراق:
قال رحمه الله:
"لا يحب قلبي إسماعيل أبداً؛ لقد رأيته في المنام كأن وجهه أسود".
وذُكر هذا
الكلام للإمام أحمد؛ فقال: "عافى الله عبدالوهاب؛ كان معنا رجل من الأنصار
يختلف؛ فأدخلني على إسماعيل؛ فلما رآني غضب، وقال: من أدخل هذا علي؟ فلم يزل مبغضَاً
لأهل الحديث بعد ذاك الكلام؛ لقد لزمته عشر سنين؛ إلا أن أغيب؛ ثم جعل يحرك رأسه
كأنه يتلهف".
3- سليمان
بن حرب:
كان يعرض بإسماعيل
فيما دخل فيه، وجاءه - يوماً - رجل من أهل بغداد؛ فأخذ يكلمه، ويفخم أمر إسماعيل
ويعظم شأنه، وسليمان يأبي عليه؛ حتى قال له: صار اليكم؛ فرخص اليكم في شرب المسكر
([6]) وعن
من أخذ الأمانة؟ - أراد المذاهب - فقال البغدادي: يا أبا أيوب؛ كنت إذا نظرت في
وجهه رأيت ذاك الوقار، وإذا نظرت في قفاه رأيت الخشوع؛ فقال سليمان: وكان ينبغي أن
ينسلخ من مجالسة أيوب، ويونس، وابن عون".
4-
منصور بن سلمة
الخزاعي:
حيث أراد أن
يحدث عن زهير بن معاوية؛ فسبقه لسانه فقال: "حدثنا إسماعيل بن علية. فقال: لا،
ولا كرامة؛ أن يكون إسماعيل ابن علية مثل زهير؛ ثم قال: أردت زهير؛ ثم قال: ليس من
قارف الذنب كمن لا يقارفه؛ ثم قال: أنا والله استتبته (يعني إسماعيل)".
قال الذهبي: "يشير إلى
تلك الهفوة الصغيرة، وهذا من الجرح المردود، وقد اتفق علماء الأمة على الاحتجاج
بإسماعيل بن إبراهيم العدل المأمون".
قلت: لم يرد منصور
جرحه بذلك، ولا رد روايته؛ إنما أظهر أن نفسه لا تطيب بالرواية عن إسماعيل بعد
الذي صدر منه؛ فمن ثم ترك الرواية عنه، كما فعل أحمد بن حنبل بتركه الرواية عمن أجابوا
في المحنة، ومع ذلك؛ فلم ينقل عنه أن جرحهم، أو رد حديثهم؛ فكذلك الحال بالنسبة
لمنصور.
ثانياً: أنه كان
يحدث بالشفاعات.
قال الإمام
أحمد: "كان لا ينصف في الحديث؛ كان يحدث بالشفاعات ([7]) ما
أحسن الإنصاف في كل شيء".
ثالثاً: ولايته
القضاء والصدقة:
قال حماد بن
سلمة: "ما كنا نشبه شمائل إسماعيل ابن علية إلا بشمائل يونس؛
حتى دخل فيما دخل فيه"؛ يريد ولايته الصدقة.
قال الذهبي: ولي
ابن علية القضاء، وبعث إليه ابن المبارك يعنفه - بأبيات حسنة - لدخوله في الصدقات.
قلت: كان ابن
المبارك صاحب مال وتجارة، وكان يصل جماعة من أهل العلم؛ منهم ابن علية؛ فلما بلغه
أن إسماعيل ولي القضاء - وكان قد قدم البصرة - لم يأته، ولم يصله؛ فركب إليه
ابن علية؛ فلم يرفع به رأساً؛ فانصرف؛ فلما كان من الغد؛ كتب إلى ابن المبارك رقعة
يقول فيها: قد كنت منتظراً لبرك، وجئتك فلم تكلمني؛ فما رأيت مني؟ فقال ابن
المبارك: يأبى هذا الرجل إلا أن نقشر له العصا؛ ثم كتب إليه:
يا
جاعـل العلم له بازيـاً يصطـاد
أمـوال المساكيـن
الأبيات
المذكورة؛ فلما قرأها قام من مجلس القضاء، وذهب إلى الرشيد، وقال له:
الله الله؛ ارحم شيبتي؛ فإني لا أصبر على الخطأ؛ فقال: لعل هذا المجنون
(أي: ابن المبارك) أغرى عليك؛ فأعفاه؛ فوجه إليه ابن المبارك بصلته. ([8])
التعليق:
لا شك أن هذه
المآخذ؛ هنات يسيرة؛ من شأنها أن تطوى ولا تروى، والاعتذار عنها ممكن؛ فالأول: زل
به لسانه، واستغفر منه وتاب ([9])
والثاني: فلعله لم يشأ أن يبذل علمه لكل أحد؛ إنما لمن يعرفه، أو يعرفه غيره؛ فمن
ثم كان لا يحدث إلا بالشفاعات، والثالث: وهو ولايته القضاء؛ فقد يكون تعين عليه؛
أو رأى أنه إن امتنع هو، وامتنع غيره من أهل العلم عن تولي القضاء؛ فمن يليه إذن؟ والناس
لا بد لهم ممن يقضي بينهم.
إلا أن أئمة
السلف الصالح رحمهم الله ([10])
لشدة تمسكهم بالسنة، وغيرتهم عليها، وحرصهم على حماية جنابها؛ بالغوا في الإنكار
على المخالف، وشددوا عليه، ولو كان في أمر هين. ([11])
فلا يلام إذاً؛
من جفا بعض علماء عصره - تأسياً بسلفه - لوقوعه في مثل ما وقع فيه إسماعيل؛ مع البون
الشاسع بينهما؛ فكيف بمن تلبس ببدعة؟ لا شك أن هذا وأمثاله؛ يجفون حتى يتوبوا،
ويبين للناس أمرهم حتى يحذروا منهم؛ بيد أن هذا على قانون السلف الأول؛ أما على
قانون السلفية المعاصرة؛ فمجرد نقدهم، وبيان خطئهم؛ جريمة لا تغتفر؛ مع أن قانون
السلف يقضي بتبديعهم؛ علماً بأنهم يعرفون المنهج الحق في التعامل مع أخطاء
العلماء، ويقرون به، ويقررونه في كتبهم وفتاويهم ([12])
لكنهم لا يطبقونه إلا على أناس معينين، والضابط: المكانة الاجتماعية، والعلاقات
الشخصية! بعد أن تكاثرت الفتن، وقلت الديانة، وذهبت الأمانة، وفشا الجهل، وخفي
العلم؛ فصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ولا غرو؛
فقد طمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء.
ونكاية في
السلفيين، وإرغاماً لأنوفهم؛ يوصف من تلبس بغير ما بدعة؛ بالإمامة، ويكال له المديح
والثناء، وكأن شيئاً لم يكن؛ مع أنه منحرف في باب من أبواب المعتقد، أو في مسألة من
مسائله؛ فهل هذا إلا عين الغش والكذب؛ فبدلاً من أن يبين خطؤه، ويحذر منه؛ يغض
الطرف عنه؛ بل ويبرز للناس، ويصدر لهم، ويفخم أمره عندهم، وأنه إمام السلفية
المعاصر!
هذا إن دل على
شيء؛ فإنما يدل على ما نحن فيه من غربة، وإن كثر اللهج بالسنة، وبمسائل المنهج.
قال محمد بن
الفضل البلخي: "ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون
بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما لا يعلمون، ويمنعون الناس من التعلم"اهـ
هذا؛
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
[1]- قال أبو داود: "كان ابن علية يكره أن يقال له: ابن علية".
قلت: كان يقول: "من قال: ابن علية فقد اغتابني". قال الذهبي: "هذا
سوء خلق منه رحمه الله؛ شيء قد غلب عليه؛ فما الحيلة؟ قد دعا النبي صلى الله عليه
وسلم غير واحد من الصحابة بأسمائهم مضافاً إلى الأم؛ كالزبير: ابن صفية، وعمار:
ابن سمية". قلت: ومن ورع الإمام أحمد رحمه الله أنه قال ليحيى بن معين: يا
أبا زكريا بلغني أنك تقول: حدثنا إسماعيل بن علية. فقال: يحيى نعم؛ أقول هكذا. قال
أحمد: فلا تقله؛ قل: إسماعيل بن إبراهيم؛ فإنه بلغني أنه كان يكره أن ينسب إلى أمه.
قال: يحيى قد قبلنا منك يا معلم الخير.
[3] - قال الذهبي: "انظر كيف كان الصدر الاول في انكفافهم عن
الكلام؛ فإنه لو قال أيضاً: يتكلم بلا لسان لخطأوه، والله تعالى يقول: }وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ{".
[5] - قال له الأمين: يا ابن الفاعلة؟ وهي كلمة عظيمة، ومع ذلك قال
الإمام أحمد: إن يغفر الله له (يعني الأمين) فيها.
[6] - رمي ابن علية بشرب النبيذ الذي كان
يشربه أهل الكوفة؛ مع أنه بصري؛ قال علي بن خشرم: "قلت لوكيع: رأيت إسماعيل
ابن علية يشرب النبيذ حتى يحمل على الحمار؛ يحتاج من يرده إلى
منزله؛ فقال وكيع: إذا رأيت البصري يشرب؛ فاتهمه؛ قلت: وكيف؟ قال: إن الكوفي
يشربه تديناً، والبصري يتركه تديناً"؛ قال
الذهبي: "هذه حكاية غريبة؛ ما علمنا أحداً غمز إسماعيل بشرب المسكر قط".
[8] - إنما كانوا يتورعون عن تولي القضاء؛ طلباً للسلامة، وحفظاً لنفوسهم.
وإلا فقد تقلده سادات الإسلام، وهداة الأنام؛ من الصحابة والتابعين، والأئمة؛ فالناس
لا بد لهم من قاض يقضي بينهم. قال
علي رضي الله عنه: "لو يعلم الناس ما في القضاء ما قضوا في ثمن بعرة، ولكن لا
بد للناس من القضاء، ومن إمرة؛ برة، أو فاجرة".
[11] - كترك أبي داود الرواية عن أحمد بن المقدام أبي الأشعث العجلي؛
لمزاح فيه، فقد ذكر أنه كان بالبصرة مجان يلقون صرة الدراهم ويرقبونها؛ فإذا جاء
من يأخذها صاحوا به وخجلوه، فعلمهم أبو الأشعث أن يتخذوا صرة فيها زجاج؛ فإذا
أخذوا صرة الدراهم فصاح صاحبها؛ وضعوا بدلها في الحال صرة الزجاج؛ قال أبو داود:
كان يعلم المجان المجون. وهذا سليمان حرب؛ يعرض بوهيب بن خالد - رغم ثنائه عليه -
بأنه كان تاجراً قد شغله سوقه.
[12] - من ذلك؛ قول ربيع المدخلي: "من وقع في بدعة؛ فعلى أقسام:
القسم الأول: أهل البدع: كالروافض، والخوارج، والجهمية، والقدرية، والمعتزلة،
والصوفية القبورية، والمرجئة، ومن يلحق بهم؛ كالإخوان، والتبليغ، وأمثالهم؛ فهؤلاء
لم يشترط السلف إقامة الحجة من أجل الحكم عليهم بالبدعة؛ فالرافضي يقال عنه:
مبتدع، والخارجي يقال عنه: مبتدع، وهكذا، سواء أقيمت عليهم الحجة أم لا. القسم
الثاني: من هو من أهل السنة، ووقع في بدعة واضحة؛ كالقول بخلق القرآن؛ أو القدر؛
أو رأي الخوارج، وغيرها، فهذا يبدع وعليه عمل السلف. ومثال ذلك: ما جاء عن ابن عمر
رضي الله عنه حين سئل عن القدرية قال: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم
وأنهم برآء مني)؛ قال ابن تيمية رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل: (فطريقة
السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضاً
الألفاظ الشرعية؛ فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومن تكلم بما فيه معنى
باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً
نسبوه إلى البدعة أيضاً، وقالوا: إنما قابل بدعة ببدعة، ورد باطلاً بباطل). القسم الثالث: من كان من أهل السنة،
ومعروف بتحري الحق، ووقع في بدعة خفية؛ فهذا إن كان قد مات فلا يجوز تبديعه؛ بل
يذكر بالخير؛ وإن كان حياً؛ فيناصح، ويبين له الحق، ولا يتسرع في تبديعه؛ فإن أصر
فيبدع"اهـ
وقال:
"فهذا داود (أي: ابن علي الظاهري) كان من كبار علماء الحديث، وله مؤلفات
كثيرة في السنة، وإليه انتهت رياسة العلم في بغداد، ومع هذا كله؛ لما قال القرآن
محدث (أي مخلوق) بدعه أهل السنة، وما حمل كبار أهل السنة مجمله على مفصله؛ لأنه
كان سلفياً؛ كما يقوله غلاة المداهنين وغلاة التمييع والتضييع. وجاء داود إلى
الإمام أحمد معتذراً ومنكراً أنه قال بهذه البدعة؛ فلم يصدقه، ولم يأذن له بالدخول
عليه. فأين حمل المجمل على المفصل الذي اخترعه أهل الأهواء، ثم كفوا عنه، وحمل
رايته أدعياء السلفية وحماة البدع وأهلها من غلاة التمييع؟ وهؤلاء أئمة السنة
يؤلفون عشرات المجلدات في الجرح والتعديل، وهي مليئة بجرح أهل البدع والضعفاء والكذابين،
ولا تجد أثراً لهذا المنهج البدعي، ولم يعارضهم لا أهل السنة ولا أهل البدع بهذا
المنهج الباطل الذي اخترع في هذا العصر للدفاع عن أهل الضلال. فإذا كان هذا المنهج
يمثل العدل؛ فإنه يلزم عليه بأن سلفنا الصالح من محدثين وفقهاء ومؤلفين في العقائد
وغيرها كانوا أهل ظلم وغلو؛ حاشاهم ثم حاشاهم، وكبت الله خصومهم المخالفين لمنهجهم
وأصولهم وكافأهم بما يستحقون"اهـ
وسئل زيد
المدخلي: "أحسن الله إليكم إذا خالف عالم من العلماء السلف في أصل من أصولهم؛
فهل يلحق بأهل البدع ولا كرامة له؛ أم تغفر له زلته هذه في بحر حسناته؟ فأجاب: إذا خالف في شيء يمكن الخلاف فيه فهو يناقش
ويعلم قبل الحكم عليه بالابتداع، وإلحاقه بأهل البدع؛ يناقش في الموضوع بالأدلة
القرآنية والسنة النبوية؛ فإن كان سلفياً حقاً رجع إلى الحق. وإن كان عنده شيء من
البدع وأثرت فيه شبههم فإنه يظل متعصباً؛ فلا حرج أن يلحق بهم إذا كان تعصب لرأيه
ووقف مع خطئه الخطأ الذي ترده نصوص الكتاب والسنة. السائل: حتى لو كانت له حسنات؟
الشيخ: نعم. السائل: يقول: في بحر حسناته؛ لو كانت له حسنات. الشيخ: حسناته له؛
لكن الوقوع في البدع بعد بيان أهـل العلم لها بأنها بدع؛ لا يجوز له، وخدش في
عقيدته وفي منهجه، ويهجر بسببه؛ لأن من يعرض عليه الحـق فيرفضه؛ صار متكبراً"اهـ
وسئل صالح السحيمي: هل يطلق على كل صاحب بدعة مبتدع؟ فأجاب: من ارتكب بدعة
فهو مبتدع لأنه فعل تلك البدعة، ويطلق عليه أنه مبتدع؛ بقي أن يقال هل
من الحكمة أحياناً في باب الدعوة أن يذكر وصفه هذا؛ إذا قصدت دعوته وإفهامه الحق
لئلا تأخذه العزة بالإثم؟ هذا باب آخر؛ مسألة الدعوة وأساليب الدعوة؛ لأن هناك
خلطاً بين أن تحكم على شخص ويسمى مبتدع، وبين ما نوجه إليه من استعمال الحكمة في الدعوة؛ ليست الحكمة التي
تعني الميوعة والتنازل عن الحق، وإنما الحكمة التي خلاصتها أن لكل مقام مقالاً،
ولكل أمر ما يناسبه؛ فدعوة المعاند غير دعوة الجاهل، ودعوة المتعلم المثـقف غير
دعوة الجاهل الأمي، ودعوة المكابر غير دعوة صاحب الشبهة التي انطلت عليه. فالخلاصة
أنه يسمى مبتدع. بقي أن نقول: إذا جاء المقام؛ أو إذا كنا في مجال الدعوة؛ فيمكن أن تستخدم الأساليب
التي تتفق مع منهج النبوة من اللين والحكمة والموعظة الحسنة، ولا تصل إلى حد
التميع؛ أو التنازل عن المبادئ تحت ستار الحكمة"اهـ
وقال
أحد الوجهاء فيهم: "(قال أبو بكر المروذي: أتيت أبا عبدالله ليلة في جوف
الليل؛ فقال لي: يا أبا بكر؛ بلغني أن نعيماً كان يقول: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فإن
كان قاله فلا غفر الله له في قبره). أقول: نعيم هنا؛ هو نعيم ابن حماد الإمام
المعروف، وقد كان شديداً على الجهمية؛ حتى أنه وضع ثلاثة عشر كتاباً في الرد
عليهم، وقد ضيق على نعيم بن حماد بسبب رده عل الجهمية؛ فمات في حبسه أيام المحنة
بخلق القرآن؛ قال البخاري: (ولقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق، وأن
العرب لا تعرف الحي من الميت إلا بالفعل؛ فمن كان له فعل فهو حي ومن لم يكن له فعل
فهو ميت، وأن أفعال العباد مخلوقة؛ فضيق عليه حتى مضى لسبيله، وتوجع أهل العلم لما
نزل به، وفي اتفاق المسلمين دليل على أن نعيماً ومن نحا نحوه؛ ليس بمفارق ولا
مبتدع؛ بل البدع والرئيس بالجهل بغيرهم أولى؛ إذ يفتون بالآراء المختلفة مما لم
يأذن به الله). ولم يشفع كل هذا له عند الإمام أحمد؛ لو كان قال بقول اللفظية، ولم
يقل الإمام أحمد: نتأول كلام نعيم فكيف يوافق الجهمية وقد كان شديداً عليهم؟ ولم
يقل: هو سني إمام، والسني إذا أخطأ لم يخرجه ذلك من السنة؛ كما يقوله بعضهم دونما
تفريق بين أنواع الأخطاء، ولم يقل: لعله أراد كذا وكذا، ولم يقل: قد أفضى إلى ما
قدم؛ فمالي وماله. قال ابن تيمية: (والمنصوص عن الإمام أحمد ونحوه من العلماء؛ أن
من قال: إن اللفظ بالقرآن والتلاوة مخلوقة؛ فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق فهو
مبتدع؛ لأن اللفظ والتلاوة يراد به الملفوظ المتلو، وذلك هو كلام الله؛ فمن جعل
كلام الله الذي أنزله على نبيه مخلوقاً فهو جهمي، ويراد بذلك المصدر وصفات العباد؛
فمن جعل أفعال العباد وأصواتهم غير مخلوقة فهو مبتدع ضال). فالإمام أحمد عند
المييعة؛ سائر على منهج إقصائي صرف؛ يأخذ فيه بالظواهر، ويحاكمهم إليها، ويبني على
ذلك التحذير والتشهير؛ دونما اعتبار لحسنات المحذر منه. وبقي أن نقول: إن الإمام
أحمد علق الحكم على نعيم بالصحة، ولا يصح ذلك عنه إن شاء الله تعالى، وإن صح فقد
روي عنه التراجع؛ قال الخلال في السنة بعد أثر أحمد السابق: (أخبرني محمد بن
عبدالله الرحبي بالرحبة؛ قال: سمعت مؤملاً - يعني: ابن إهاب - يقول: قلت لنعيم بن
حماد: ما حملك على هذه الكلمة؛ أن قلت: لفظي بالقرآن مخلوق؟ فقال: والله ما أرى
بها إلا الاحتجاج عليهم؛ فقلت: لا تعد؛ فقال: أنا أستغفر الله منها؛ ما أردت إلا
الاحتجاج بها)، والمراد هنا بيان منهج الإمام أحمد في التعامل مع الانحرافات التي
من هذا النوع"اهـ
وقال
صنو له: "وإن قلتم: يطالب بمعاملة خاصة؛ قلنا لكم: ليس ذلك بلازم؛ لأننا
رأينا الأئمة يشنعون على من زل بأقل من الكلمة التي قالها الرمضاني؛ بل
يشنعون على من صدرت منه عبارات مجملة تحتمل حقاً وباطلاً، وقد ينسبونه إلى البدعة بسبب
ذلك! فكيف بمن صدرت منه كلمة صريحة القبح
ظاهرة البطلان، وهي منتشرة منذ سنين في الآفاق من غير بيان ولا نكران؟"اهـ
وغير
ذلك كثير من تقريراتهم وتأصيلاتهم؛ لكن هذا شيء، والتطبيق شيء آخر، وهذا ما
نعانيه، وهو أحد مواطن الخلاف بيننا وبينهم؛ الأمر الذي دعانا لمفارقتهم، وبيان
عوارهم، والتحذير من أساليبهم التي لا تمت للسلفية بصلة؛ غير عابئين بتشغيبهم،
وسفاهة بعضهم؛ ممن تقلد الطعن فينا، والتحذير منا؛ فإلى الله المشتكى.
قال ابن القيم: "في سنن أبي داود والترمذي من حديث
أبي ثعلبة الخشني؛ قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ}؛ فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر؛ حتى إذا رأيت شحاً
مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك، ودع
عنك العوام؛ فإن من ورائكم أيام الصبر؛ الصبر فيهن مثل قبض على الجمر؛ للعامل فيهن
أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله؛ قلت: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر
خمسين منكم). وهذا الأجر العظيم؛ إنما هو لغربته بين الناس، والتمسك بالسنة بين
ظلمات أهوائهم وآرائهم؛ فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهاً
في سنة رسوله، وفهماً في كتابه، وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات
وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛
فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط؛ فليوطن نفسه على قدح الجهال، وأهل البدع فيه، وطعنهم
عليه، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه"اهـ