منهج السلفالصالح في التعامل مع أخطاء العلماء - 8-
الحارث
المحاسبي ([1])
الحارث بن أسد
المحاسبي؛ أبو عبدالله البغدادي.
روى عن: يزيد بن هارون، وعبدالعزيز بن عبدالله، ومحمد بن كثير الكوفي.
روى عنه: أحمد بن الحسن بن عبدالجبار الصوفي، وإسماعيل بن إسحاق السراج، وأبو
علي بن خيران الفقيه، وأبو العباس بن مسروق الطوسي، والجنيد بن محمد الصوفي، وأحمد
بن القاسم بن نصر الشاعر أخو أبي الليث الفرائضي.
قال الجنيد: "مات والد الحارث يوم مات، وإن الحارث لمحتاج إلى دانق،
وخلف مالاً كثيراَ؛ فما أخذ منه الحارث حبة، وقال: أهل ملتين لا يتوارثان. وكان
أبوه واقفياً؛ يعني: يقف في القرآن؛ لا يقول: مخلوق، ولا غير مخلوق".
وقال أبو علي بن خيران: "رأيت الحارث بن أسد بباب الطاق متعلقاً
بأبيه، والناس قد اجتمعوا عليه؛ يقول له: طلق أمي، فإنك على دين، وهي على غيره".
وقال أبو سعيد بن الأعرابي: "كان الحارث قد كتب الحديث وتفقه، وعرف
مذاهب النساك، وآثارهم، وأخبارهم، وكان من العلم بموضع".
وقال الخطيب: "كان عالماً فهماً، وله مصنفات في أصول المعاملات، وكتب
في الزهد، وفي أصول الديانات، والرد على المخالفين، والمعتزلة، والرافضة، وغيرهم،
وكتبه كثيرة الفوائد؛ جمة المنافع؛ ذكر أبو علي بن شاذان يوماً؛ كتاب الحارث في (الدماء)؛
فقال: على هذا الكتاب عول أصحابنا في أمر الدماء التي جرت بين الصحابة. وكان له
علم بالحديث".
مات سنة (243).
ما أخذ على الحارث:
مر بنا وصف الحارث بالعلم، والزهد، والورع، وأنه صاحب مؤلفات وتصانيف مفيدة،
وله ردود على أهل البدع، ويوافق أهل السنة في كثير أصولهم؛ لم يخالفهم إلا في ثلاث
مسائل:
الأولى: نفيه الصفات الاختيارية عن الله تعالى.
الثانية: كلامه في مسألة الإيمان.
الثالثة: نزعته الصوفية، وكلامه في الخطرات، والوساوس، وأعمال القلوب.
قال أبو سعيد بن الأعرابي: "كان من العلم بموضع؛ لولا أنه تكلم في
مسألة اللفظ، ومسألة الإيمان".
وقال أبو القاسم النصراباذي: "تكلم في شيء من الكلام؛ فهجره أحمد بن
حنبل".
وقال عبدالقاهر البغدادي: "وعلى كتب الحارث بن أسد في الكلام والفقه
والحديث؛ معول متكلمي أصحابنا وفقهائهم، وصوفيتهم".
وقال الذهبي: "نقموا عليه بعض تصوفه، وتصانيفه". وقال: "دخل
في شيء يسير من الكلام ([2])
فنقموه عليه".
فكان ماذا! هل نظر أهل السنة إلى صفاته الشخصية من علم وورع وزهد، ورد على
أهل الضلال، وموافقته لهم في أشياء كثيرة؛ أم نظروا إلى مخالفاته؛ فبدعوه وهجروه،
وحذروا منه؛ حتى اختفى في دار ببغداد، ومات فيها، ولم يصل عليه؛ إلا أربعة نفر؛
فصدقت فيه مقولة الإمام أحمد رحمه الله: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم
الجنائز".
قال سعيد بن
عمرو البرذعي رحمه الله: "شهدت أبا زرعة - وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه - فقال
للسائل: إياك وهذه الكتب؛ هذه كتب بدع وضلالات؛ عليك بالأثر؛ فإنك تجد فيه ما
يغنيك عن هذه الكتب؛ قيل له: في هذه الكتب عبرة؛ قال: من لم يكن له في كتاب الله
عبرة؛ فليس له في هذه الكتب عبرة؛ بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي
والأئمة المتقدمين؛ صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟ هؤلاء قوم
خالفوا أهل العلم؛ يأتونا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحيم الديبلي، ومرة
بحاتم الأصم، ومرة بشقيق؛ ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع".
وقال الحسين بن عبدالله الخرقي: سألت المروذي عن ما أنكر أبو عبدالله على
المحاسبي؛ فقال: قلت لأبي عبدالله: قد خرج المحاسبي إلى الكوفة؛ فكتب الحديث،
وقال: أنا أتوب من جميع ما أنكر علي أبو عبدالله؛ فقال: ليس لحارث توبة؛ يشهدون
عليه بالشيء ويجحد؛ إنما التوبة لمن اعترف؛ فأما من شهد عليه وجحد فليس له توبة؛ ثم
قال: احذروا عن حارث؛ فقلت: إن أبا بكر بن حماد؛ قال لي: إن الحارث مر به، ومعه
أبو حفص الخصاف؛ فقال: للحارث؛ تقول: إن كلام الله بصوت؛ فقال لأبي حفص: أجبه؛ فقال
أبو حفص: متى قلت بصوت؛ احتجت أن تقول بكذا وكذا؛ فقال للحارث: أيش تقول أنت؟ قال:
قد أجابك أبو حفص. فقال: أبو عبدالله أحمد بن حنبل: أنا من اليوم أحذر عن حارث؛ حدثني
المحاربي، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبدالله؛ قال: إذا تكلم الله بالوحي
سمع صوته أهل السماء".
قلت: كان الإمام أحمد يقول: "حذروا من الحارث أشد التحذير؛ جالسه فلان
وفلان، وأخرجهم إلى رأي جهم؛ ما زال مأوى أصحاب الكلام؛ حارث بمنزلة المرابط؛ انظر
أي يوم يثب على الناس".
قال ابن رجب: "ومن البدع التي أنكرها أحمد في القرآن؛ قول من قال: إن
الله تكلم بغير صوت؛ فأنكر هذا القول وبدع قائله. وقد قيل: إن الحارث المحاسبي
إنما هجره أحمد لأجل ذلك".
قلت: كان الناس قبل أن يظهر ابن كلاب بدعته؛ فريقين:
الأول: أهل السنة والجماعة الذين يثبتون ما لله من صفات، وأفعال.
الثاني: الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين ينكرون هذا.
فجاء ابن كلاب؛ فأثبت له الصفات، ونفى عنه ما يتعلق بمشيئته وقدرته من
الأفعال وغيرها؛ لامتناع قيام الأمور الاختيارية به - عنده - وكان يقول: إن الله
لا يتكلم بمشيئته، وقدرته؛ بل كلامه لازم لذاته؛ كحياته، وتبعه على هذا؛ الحارث
المحاسبي؛ لذا أمر أحمد بهجره، وحذر منه.
قال ابن تيمية: "وهذا الأصل؛ هو مما أنكره الإمام
أحمد على ابن كلاب وأصحابه؛ حتى على الحارث المحاسبي - مع جلالة قدر الحارث - وأمر
أحمد بهجره، وهجر الكلابية، وقال: احذروا من حارث؛ الآفة كلها من حارث؛ فمات
الحارث، وما صلى عليه إلا نفر قليل؛ بسبب تحذير الإمام أحمد عنه؛ مع أن فيه من
العلم والدين ما هو أفضل من عامة من وافق ابن كلاب على هذا الأصل. وقد قيل: إن
الحارث رجع عن ذلك، وأقر بأن الله يتكلم بصوت؛ كما حكى عنه ذلك صاحب (التعرف لمذهب
التصوف) أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي". ([3])
وقد ذكر الغزالي؛
أن الإمام أحمد هجر الحارث بسبب تصنيفه كتاباً في الرد على المبتدعة، وقال له:
ويحك ألست تحكي بدعتهم أولاً؛ ثم ترد عليهم؛ ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة
البدعة، والتفكر في تلك الشبهات؛ فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث.
قال ابن
تيمية: "هجران أحمد للحارث؛ لم يكن لهذا السبب الذي ذكره أبو حامد، وإنما
هجره لأنه كان على قول ابن كلاب الذي وافق المعتزلة على صحة طريق الحركات، وصحة
طريق التركيب، ولم يوافقهم على نفي الصفات مطلقاً؛ بل كان هو وأصحابه يثبتون أن
الله فوق الخلق؛ عال على العالم؛ موصوف بالصفات، ويقررون ذلك بالعقل، وإن كان
مضمون مذهبه نفي ما يقوم بذات الله تعالى من الأفعال، وغيرها مما يتعلق بمشيئته
واختياره، وعلى ذلك بنى كلامه في مسألة القرآن، وهذا هو المعروف عند من له خبرة
بكلام أحمد من أصحابه، وغيرهم من علماء أهل الحديث والسنة، ولأبي عبدالله الحسين
والد أبي القاسم الخرقي صاحب المختصر المشهور كتاب في قصص من هجره أحمد؛ سأل فيه
أبي بكر المروذي عن ذلك؛ فأجابه عن قصصهم واحداً واحداً، وقد ذكر ذلك أيضاً؛ أبو
بكر الخلال في كتاب السنة، وقد ذكر ذلك ابن خزيمة وغيره؛ ممن يعرف حقيقة هذه
الأمور. وكذلك السري السقطي؛ كان يحذر الجنيد بن محمد من شقاشق الحارث".
أما بالنسبة لتصوفه، وكلامه في الخطرات والوساوس؛ فنظراً لأن كلامه - وكلام غيره - في هذا الباب؛ لا يستند إلى دليل
شرعي؛ بل إلى مجرد رأي وذوق، والعلم: قال الله؛ قال رسوله؛ قال الصحابة، وما عدا ذلك؛
فليس من العلم في شيء؛ لذا لم يكن أحد من الأئمة يتكلم في هذه المسائل؛ بل كانوا
ينهون عن ذلك أشد النهي، ويقولون: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل؛ فمن ثم ذموا
الحارث، وحذروا منه.
قال ابن رجب: "وإنما ذم أحمد
وغيره؛ المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية؛ حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند
إلى دليل شرعي؛ بل إلى مجرد رأي وذوق. كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال
والحرام بمجرد الرأي من غير دليل شرعي". ([4])
الفوائد:
1-
قال الإمام
أحمد: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز".
2-
التحذير من
كتب البدع والضلال، ومن أصحابها.
3-
العبرة
بالاتباع، وليس بالسمت الظاهر، أو مجرد الدعوى.
4-
أن "كل مدع للسنة؛ يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله؛
فإن أتى بذلك؛ علم صدقه، وقبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف؛ علم
أنه محدث زائغ، وأنه لا يستحق أن يصغى إليه، أو يناظر في قوله".
[1] - بضم الميم
وفتح الحاء المهملة وبعد الألف سين مهملة مكسورة وبعدها باء موحدة. قال اليافعي:
"قيل له المحاسبي: لكثرة محاسبته نفسه". وقال ابن عساكر: "سمي
المحاسبي: لأنه كان يحاسب نفسه. وقيل: لأنه كانت له حصى يعدها، ويحسبها حالة
الذكر".
[3] - "ذكر غير واحد؛ أن الحارث رجع عن ذلك؛ كما ذكره معمر بن
زياد في أخبار شيوخ أهل المعرفة والتصوف. وذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف
لمذاهب التصوف؛ عن الحارث المحاسبي؛ أنه كان يقول: (إن الله يتكلم بصوت، وهذا
يناقض قول ابن كلاب)".
[4] - قلت:
روى الخطيب بسند صحيح؛ أن الإمام أحمد سمع كلام المحاسبي؛ فقال لبعض أصحابه:
ما سمعت في الحقائق مثل كلام هذا الرجل، ولا أرى لك صحبتهم.
قال ابن حجر:
"إنما نهاه عن صحبتهم لعلمه بقصوره عن مقامهم؛ فإنه في مقام ضيق لا يسلكه
كل واحد، ويخاف على من يسلكه أن لا يوفيه حقه". وقد سبقه إلى هذا البيهقي؛ فقال: "يحتمل أن أحمد
كره له صحبتهم؛ لأن الحارث بن أسد، وإن كان زاهداً؛ فإنه كان عنده شيء من علم
الكلام، وكان أحمد يكره ذلك. أو كره صحبتهم من أجل أنه لا يطيق سلوك طريقتهم وما
هم عليه من الزهد والورع".
قال ابن كثير: "بل إنما كره ذلك لأن في كلامهم من التقشف وشدة السلوك
التي لم يرد بها الشرع، والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة؛ ما لم يأت بها
أمر".