رداً على سؤال عاتب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه ؛؛؛
أما بعد:
فقد كتب أحد
الإخوة؛ منتقداً قولي في الألباني: إنه وافق المرجئة وقال بقولهم؛ ذاكراً أن هذا
القول لم يسبقني إليه أحد من أهل العلم المعاصرين – حيث اكتفوا بتخطئته فحسب -
طالباً مني أن ألزم غرزهم، وأسلك طريقهم.
ورغم أنني
بينت من قبل، وبكل وضوح؛ عقيدة الألباني في الإيمان، وموقفي منه؛ إلا أنني سأعاود
الكرة مرة أخرى، وبشيء من الإسهاب - وفي نقاط محددة - فأقول مستعيناً بالله:
الأولى: أننا
"مأمورون بأن نتحرى رضا الله ورسوله؛ كما قال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}، وعلينا أن نخاف الله؛ فلا نخاف أحداً إلا الله؛ كما قال
تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وقال: {فَلا
تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}، وقال: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}، {وَإِيَّايَ
فَاتَّقُونِ}؛ فعلينا أن نخاف الله ونتقيه في الناس؛ فلا نظلمهم بقلوبنا ولا
جوارحنا، ونؤدي إليهم حقوقهم بقلوبنا وجوارحنا، ولا نخافهم في الله؛ فنترك ما أمر
الله به ورسوله خيفة منهم. ومن لزم هذه الطريقة كانت العاقبة له؛ كما كتبت عائشة
إلى معاوية: (أما بعد: فإنه من التمس رضا الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه، وأسخط
عليه الناس، وعاد حامده من الناس ذاماً، ومن التمس رضا الله بسخط الناس؛رضي الله
عنه، وأرضى عنه الناس)؛ فالمؤمن لا تكون فكرته وقصده إلا رضا ربه، واجتناب سخطه،
والعاقبة له، ولا حول ولا قوة إلا بالله"اهـ (مجموع الفتاوى 3/232-233)
قال الشافعي
رحمه الله: "إنك لا تقدر أن ترضي الناس كلهم؛ فأصلح ما بينك وبين الله؛ ثم لا
تبال بالناس"اهـ (توالي التأسيس ص 136)
فرضا الناس
غاية لا تدرك، والاستئناس بهم، والوقوف عند مدحهم، وذمهم؛ من علامات الإفلاس. قال
ابن حزم: "أبلغَ في ذمك؛ من مدحك بما ليس فيك؛ لأنه نبه على نقصك. وأبلغَ في
مدحك؛ من ذمك بما ليس فيك؛ لأنه نبه على فضلك"اهـ (مداواة النفوس ص 38)
الثانية: سئل
الإمام الكبير إسحاق بن راهويه عن مسألة؛ فأجاب عنها، فقيل له: إن أخاك أحمد ابن
حنبل يقول فيها بمثل ما تقول؛ فقال: "ما ظننت أن أحداً يوافقني عليها".
فلم يستوحش
رحمه الله من طول الطريق، وقلة الرفيق.
وهكذا كل من
عرف الحق وظهر له الصواب؛ ينبغي عليه ألا يستوحش من قلة السالكين لدربه؛ الراضين
بقوله؛ طالما كان موافقاً للرعيل الأول؛منتهجاً نهجهم؛ مقتفياً أثرهم، والحق أبلج
متى لاح وتبين؛ لم يحتج إلى شاهد.
فمن كان على هذا؛ لا يقال له: من سلفك؟ كيف؛
وسلفه أئمة السلف؛ إنما يقال هذا؛ لمن خالف منهج السلف.
قال ابن القيم رحمه الله: "اعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم
صاحب الحق، وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض. قال عمرو بن ميمون الأودي: صحبت معاذاً باليمن فما
فارقته حتى واريته التراب، ثم صحبت من بعده أفقه الناس عبدالله بن مسعود؛ فسمعته
يقول: عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ثم سمعته يوماً من الأيام، وهو
يقول: سيولى عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها؛ فصلوا الصلاة لميقاتها فهي
الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة؛ قال: قلت: يا أصحاب محمد؛ ما أدري ما
تحدثون؟ قال: وما ذاك؛ قلت: تأمرني بالجماعة، وتحضني عليها، ثم تقول لي: صل الصلاة
وحدك، وهي الفريضة، وصل مع الجماعة، وهي نافلة؛ قال: يا عمرو بن ميمون؛ قد كنت
أظنك من أفقه أهل هذه القرية؛ أتدري ما الجماعة؟ قلت: لا؛ قال: إن جمهور الجماعة
هم الذين فارقوا الجماعة؛ الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك، وفي لفظ آخر: فضرب على فخذي، وقال: ويحك؛
إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى. وقد قال
نعيم بن حماد: إذا فسدت الجماعة؛ فعليك بما كانت عليه الجماعة؛ قبل أن تفسد، وإن
كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ. ذكرهما البيهقي وغيره. وقال بعض أئمة الحديث،
وقد ذكر له السواد الأعظم، فقال: أتدري ما السواد الأعظم؟ هو محمد بن أسلم الطوسي
وأصحابه. فمسخ المختلفون الذين جعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة هم الجمهور،
وجعلوهم عياراً على السنة، وجعلوا السنة بدعة والمعروف منكراً لقلة أهله، وتفردهم في الأعصار، والأمصار، وقالوا: من شذ؛ شذ في
النار. وما عرف المختلفون؛ أن الشاذ ما خالف الحق وإن كان الناس كلهم عليه إلا
واحداً منهم، فهم الشاذون، وقد شذ الناس كلهم زمن أحمد بن حنبل إلا نفراً يسيراً فكانوا
هم الجماعة، وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون، وكان الإمام
أحمد وحده هو الجماعة، ولما لم يتحمل هذا عقول الناس؛ قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين؛
أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون؛ كلهم على الباطل، وأحمد وحده هو على الحق؟!
فلم يتسع علمه لذلك؛ فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل، فلا إله إلاالله ما
أشبه الليلة بالبارحة، وهي السبيل المهيع لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم، مضى
عليها سلفهم، وينتظرها خلفهم؛ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}، ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"اهـ (إعلام الموقعين
2/350-351)
فإياك يا أخي؛ أن تنظر إلى حال القائل؛ بل انظر إلى قوله؛
فإن كان حقاً فاقبله، وإن خالفه جميع من في الأرض، وإلا فأعرض عنه وعن قوله؛ فإن
وجدت نفسك تنازعك إلى "الدخول في قول الأكثرين، والخروج عن قول الأقلين؛ إلى متابعة من
له جلالة قدر، ونبالة ذكر،
وسعة دائرة علم؛ لا لأمر سوى ذلك؛ فلتعلم أنه بقي فيك عرق من عروق العصبية، وشعبة من شعب
التقليد".
وعلى سبيل
المثال؛ ها أنت ترى أن المتأخرين؛ تواطئوا على إخفاء تبديع أئمة السلف؛ لأبي
حنيفة، وعدم نشره؛ فطووا ذلك، وكتموه، وأظهروا خلاف ما كان عليه هؤلاء الأئمة من
ذمه وهجره والتحذير منه؛ بل وصرحوا أنه من كبار الأئمة، وكذلك صنعوا مع الباقلاني
والجويني والغزالي، وغيرهم ممن كان على شاكلتهم، وإن صرحوا بتخطئتهم فيما خالفوا
فيه السلف؛ على منهج الموازنات البدعي الذي يهدم باب التبديع من أساسه، ويقصره على
رؤوس الضلال والزندقة فحسب؛ فالمبتدع الضال هو الجهم بن صفوان، وبشر المريسي،
وأضرابهما، ومن عدا ذلك؛ فهو مجتهد له أخطاء؛ يُعد من أهل السنة فيما وافق فيه
السنة، ويغتفر له ما خالف فيه السنة.
قال صالح آل
الشيخ: "أجمع أهل العلم على أن لا ينقلوا ما ذكر عن أبي حنيفة، وأن يذكروه
بالخير والجميل؛ هكذا درج العلماء، وهي المدرسة الوسط التي ذكرها الطحاوي ([1])
وهو الذي عليه أئمة السنة ([2])
ولما جاء الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب؛ أصل هذا المنهج في الناس ([3])
وأن لا يذكر أحد إلا بالجميل، وأن ينظر في أقوالهم وما رجحه الدليل؛ فيؤخذ به وأن
لا يتابع عالم فيما أخطأ فيه وفيما زل؛ بل نقول: هذا كلام العالم، وهذا اجتهاده؛ حتى
أتينا إلى أول عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله لما دخل مكة، وأراد العلماء طباعة
كتابة السنة لعبدالله بن الإمام أحمد، وكان المشرف على ذلك والمراجع له؛ الشيخ
العلامة عبدالله بن حسن آل الشيخ رحمه الله تعالى رئيس القضاة إذ ذاك في مكة؛ فنزع
هذا الفصل بكامله من الطباعة، فلم يُطبع لأنه من جهة الحكمة الشرعية كان له وقته
وانتهى ([4])
ثم هو اجتهاد ورعاية مصالح الناس أن ينزع وأن لا يبقى، وليس هذا فيه خيانة للأمانة
([5])
بل الأمانة أن لا يجعل الناس يصدون عما ذكر عبدالله ابن الإمام في كتابه؛ من السنة
والعقيدة الصحيحة؛ لأجل نقول نقلت في ذلك، وطبع الكتاب بدون هذا الفصل، وانتشر في
الناس وفي العلماء؛ على أن هذا كتاب السنة لعبدالله بن الإمام أحمد؛ حتى طبعت
مؤخراً في رسالة علمية أو في بحث علمي، وأُدخل هذا الفصل، وهو موجود في المخطوطات؛
أدخل هذا الفصل من جديد؛ يعني أُرجع إليه وقالوا: إن الأمانة تقتضي إثباته إلى
آخره، وهذا لا شك أنه ليس بصحيح؛ بل صنيع العلماء - علماء الدعوة - فيما سبق من
السياسة الشرعية، ومن معرفة مقاصد العلماء في تآليفهم، واختلاف الزمان والمكان
والحال، وما استقرت عليه العقيدة ([6])
وكلام أهل العلم في ذلك؛ حتى صارت هناك تآليف تطعن في أبي حنيفة، وصار يقال: أبو
جيفة، ونحو ذلك، وهذا لا شك ليس من منهجنا، وليس من طريقة علماء الدعوة، ولا علماء
السلف؛ لأننا لا نذكر العلماء إلا بالجميل إذا أخطأوا؛ فلا نتابعهم في أخطائهم
خاصة الأئمة هؤلاء الأربعة؛ لأن لهم شأناً ومقاماً لاينكر"اهـ
فانظر إلى ما
عليه المتأخرون - من قرون كثيرة - في هذه المسألة، وقارنه بمنهج السالفين؛ لتعرف
أن الحق ليس بالكثرة، وأنه قياساً على قولك؛ سيذم - بل ويبدع - من صرح اليوم بذم
هؤلاء وتبديعهم؛ والحجة جاهزة، وهي أن ذلك خلاف المعروف عن علماء العصر.
فهل بعد هذا؛
ستقول لمن اقتدى بسلفه، وقال بقولهم؛ ما قلته لي: من سلفك؟ ومن سبقك؟ وهل قال بهذا
فلان، وفلان؟
ودعنا ننظر -
على سبيل المثال - فيما نقله ابن تيمية؛ عن الشيخ أبي الحسن محمد بن عبدالملك
الكرجي الشافعي؛ لتحكم بنفسك على قول صالح آل الشيخ - وهو ينتقد موقف أئمة السلف
من أبي حنيفة، ويعيبه قائلاً -: "وهذا لا شك ليس من منهجنا، وليس من طريقة
علماء الدعوة"، ولتعرف؛ من ألصق بسلفه، وأتبع؟ من يقول بقولهم؛ أم من يخالفهم
وبغير حجة؛ اللهم إلا الاستحسانات العقلية؛ التي لو فتحت - وقد كان - لحصل منها شر
عظيم.
قال ابن
تيمية: "قال الشيخ أبو الحسن: وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني شديد الإنكار
على الباقلاني، وأصحاب الكلام؛ قال: ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن
يُنسبوا إلى الأشعري، ويتبرؤون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم
وأحبابهم عن الحوم حواليه؛ على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة - منهم الحافظ
المؤتمن بن أحمد بن على الساجي - يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات؛ قالوا:
كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرايني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علماً
وأصحاباً؛ إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل الرباط
المعروف بالزوزي المحاذي للجامع، ويقبل على من حضر، ويقول: اشهدوا عليَّ بأن
القرآن كلام الله غير مخلوق كما قاله الإمام ابن حنبل؛ لا كما يقوله الباقلاني،
وتكرر لك منه جمعات؛ فقيل له في ذلك؛ فقال: حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح،
ويشيع الخبر في أهل البلاد: أني بريء مما هم عليه - يعني الأشعرية - وبريء من مذهب
أبي بكر بن الباقلاني؛ فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية
ويقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه؛ فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة؛ فيظن
ظان أنهم مني تعلموه قبله، وأنا ما قلته، وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته. قال
الشيخ أبو الحسن الكرجي: وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني؛ يقول:
سمعت شيخنا الإمام أبا بكر الزاذقاني؛ يقول: كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفرايني،
وكان ينهي أصحابه عن الكلام، وعن الدخول على الباقلاني؛ فبلغه أن نفراً من أصحابه
يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام؛ فظن أني معهم ومنهم، وذكر قصة قال في آخرها: إن
الشيخ أبا حامد قال لي: يا بني؛ قد بلغني أنك تدخل على هذا الرجل - يعني الباقلاني
- فإياك وإياه؛ فإنه مبتدع؛ يدعو الناس إلى الضلالة، وإلا فلا تحضر مجلسي؛ فقلت:
أنا عائذ بالله مما قيل وتائب إليه، واشهدوا عليَّ أني لا أدخل إليه. قال الشيخ
أبو الحسن: وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن على العجلي؛ يقول: سمعت عدة من
المشايخ والأئمة ببغداد - أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم - قالوا: كان أبو بكر
الباقلاني يخرج إلى الحمام متبرقعاً خوفا من الشيخ أبي حامد الإسفرايني. قال
أبوالحسن: ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام؛ حتى ميز أصول فقه الشافعي من
أصول الأشعري، وعلقه عنه أبو بكر الزاذقاني - وهو عندي - وبه اقتدى الشيخ أبو
إسحاق الشيرازي في كتابيه (اللمع) و(التبصرة)؛ حتى لو وافق قول الأشعري وجهاً
لأصحابنا ميزه، وقال: هو قول بعض أصحابنا وبه قالت الأشعرية، ولم يعدهم من أصحاب
الشافعي؛ استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه فضلاً عن أصول الدين. قلت: هذا
المنقول عن الشيخ أبي حامد وأمثاله من أئمة أصحاب الشافعي أصحاب الوجوه معروف في
كتبهم المصنفة في أصول الفقه وغيرها، وقد ذكر ذلك الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو
الطيب، وأبو إسحاق الشيرازي، وغير واحد بينوا مخالفة الشافعي وغيره من الأئمة؛
لقول ابن كلاب والأشعري في مسألة الكلام التي امتاز بها عن ابن كلاب والأشعري عن
غيرهما"اهـ (درء التعارض 2/96-98) ([7])
فإذ ذلك كذلك؛
فليت شعري! من أعطى علماء الدعوة؛ حق التصرف في تراث الأمة، والافتيات على إجماع
أكابرها الذين أطبقوا على ذم (مرجئة الفقهاء) وتبديعهم، والتحذير منهم على وجه
العموم، ومن أبي حنيفة على وجه الخصوص، ومن كل من كان على عقيدته وطريقته؛ فضلاً
عن إطرائهم، والثناء عليهم، ونعتهم بأنهم من كبار أئمة - أو علماء - الإسلام.
قال أبو بكر
بن أبي شيبة رحمه الله: "كتاب الرد على أبي حنيفة: هذا ما خالف به أبو حنيفة
الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حدثنا أبو عبدالرحمن بقي بن مخلد؛
قال: حدثنا عبدالله بن محمد بن أبي شيبة؛ قال حدثنا شريك بن عبدالله عن سماك عن
جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم؛ رجم يهودياً ويهودية. وحدثنا أبو
معاوية ووكيع عن الأعمش عن عبدالله بن مرة عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم رجم يهودياً. وحدثنا عبدالرحيم ابن سليمان عن مجالد عن عامر عن
جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهودياً ويهودية. وحدثنا ابن
نمير؛ حدثنا عبيدالله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين؛
أنا فيمن رجمهما.وحدثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم
يهودياً ويهودية. وذُكر أن أبا حنيفة؛ قال: ليس عليهما رجم. وجرى على هذا المنوال؛
فذكر أكثر من مئة وعشرين مسألة؛ خالف فيها أبو حنيفة سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم. انظر: المصنف لابن أبي شيبة - المجلد (12) - ص (351) إلى آخر المجلد ص (451)
وقال عبدالله
بن أحمد رحمه الله: "ما حفظت عن أبي وغيره من المشايخ في أبي حنيفة، وذكر
قول: أبيه، وعبدالرحمن بن مهدي، والأوزاعي، وأيوب السختياني، وابن عون، والأعمش،
ومغيرة الضبي، ورقبة بن مصقلة، والثوري، ومالك، وحماد بن زيد، وشريك بن عبدالله،
وابن المبارك، وابن عيينة، وأبي إسحاق الفزاري، وغيرهم". انظر: كتاب السنة
والرد على الجهمية - المجلد (1) - ص (114) – (164)
وقال الخطيب
رحمه الله: "وقد سقنا عن أيوب السختياني، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة،
وأبي بكر بن عياش، وغيرهم من الأئمة؛ أخباراً كثيرة تتضمن تقريظ أبي حنيفة، والمدح
له، والثناء عليه. والمحفوظ عند نقلة الحديث عن الأئمة المتقدمين، وهؤلاء
المذكورون منهم؛ في أبي حنيفة؛ خلاف ذلك، وكلامهم فيه كثير؛ لأمور شنيعة حفظت عليه؛
متعلق بعضها بأصول الديانات، وبعضها بالفروع؛ نحن ذاكروها بمشيئة الله، ومعتذرون
إلى من وقف عليها، وكره سماعها؛ بأن أبا حنيفة عندنا؛ مع جلالة قدره؛ أسوة غيره من
العلماء الذين دونا ذكرهم في هذا الكتاب، وأوردنا أخبارهم، وحكينا أقوال الناس
فيهم على تباينها"اهـ (تاريخ بغداد 15/504-505)
والآثار في ذم
أبي حنيفة كثيرة جداً؛ فطالعها - إن شئت - فيما ذكرته آنفاً من مصادر، وقد ذكرت
جملة صالحة منها في رسالتي (رسلان والإرجاء غير المذموم)، وأضيف عليها ها هنا؛ ما
يلي:
1.
قال أبو عبيد القاسم
بن سلام: "كنت جالسا مع الأسود بن سالم في مسجد الجامع بالرصافة؛ فتذاكروا
مسألة؛ فقلت: إن أبا حنيفة يقول فيها كيت وكيت؛ فقال لي الأسود: تذكر أبا حنيفة في
المسجد؛ فلم يكلمني حتى مات".
2.
وقال القاسم
بن عبدالملك: "سمعت أبا مسهر يقول: كانت الأئمة تلعن أبا فلان على هذا المنبر
- وأشار إلى منبر دمشق – قال الفرهياني: وهو أبو حنيفة".
3. وقال
علي بن جرير: "كنت في الكوفة؛ فقدمت البصرة، وبها ابن المبارك؛ فقال لي: كيف
تركت الناس؟ قال: قلت: تركت بالكوفة قوماً يزعمون أن أبا حنيفة؛ أعلم من رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ قال: كفر؛ قلت: اتخذوك في الكفر إماماً؛ قال: فبكى حتى ابتلت
لحيته؛ يعني أنه حدث عنه".
4.
وقال محمد بن
عبدالوهاب:"قلت لعلي بن عثام؛ أبو حنيفة حجة؟ فقال: لا للدين، ولا للدنيا".
فصدق ابن
تيمية رحمه الله؛ حيث يقول: "قول طائفة من العلماء والعباد - خالفهم من هو
أكبر منهم وأجل عند الأمة - لا يحتج به إلا أحمق؛ فإنه إن كان التقليد حجة؛ فتقليد
الأكبر الأعلم الأعبد أولى، وإن لم يكن حجة؛ لم ينفعه ذكره لهؤلاء"اهـ (مجموع
الفتاوى 29/380)
ذكرت لك ذلك؛ حتى
لا تحتج مرة أخرى بقول الأكثرين، وبقول الإمام أحمد الذي استشهدت به في غير موضعه
- كما سيظهر لك لاحقاً - فدعك يا أخي من بنيات الطريق، والزم سبيل من سلف؛ فإنهم
فوقنا في كل شيء؛ ديانة وأمانة وعلماً وحلماً وورعاً وفهماً، واعلم؛ إن الحي لا
تؤمن عليه الفتنة.
الثالثة: أننا "لا
نعلم أن الله عز وجل أعطى أحداً من البشر موثقاً من الغلط، وأماناً من الخطأ؛
فنستنكف له منها؛ بل وصل عباده بالعجز، وقرنهم بالحاجة، ووصفهم بالضعف والعجلة؛
فقال: {وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا} و{ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}،
{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ولا نعلمه خص بالعلم قوماً دون قوم، ولا وقفه
على زمن دون زمن؛ بل جعله مشتركاً مقسوماً بين عباده؛ يفتح للآخر ما أغلقه عن الأول،
وينبه المقل منه على ما أغفل عنه المكثر، ويحييه بمتأخر يتعقب قول متقدم، وتال
يعتبر على ماض. وأوجب على كل من علم شيئاً من الحق أن يظهره وينشره، وجعل ذلك زكاة
العلم؛ كما جعل الصدقة زكاة المال، وقد قيل: اتقوا زلة العالم، وزلة العالم لا تُعرف
حتى تكشف، وإن لم تُعرف هلك بها المقلدون؛ لأنهم يتلقفونها من العالم بالقول، ولا
يرجعون إلا بالإظهار لها وإقامة الدلائل عليها، وإحضار البراهين. وقد يظن من لا
يعلم من الناس ولا يضع الأمور في مواضعها؛ أن هذا اغتياب للعلماء وطعن على السلف
وذكر للموتى، وكان يقال: اعف عن ذي قبر, وليس ذلك كما ظنوا؛ لأن الغيبة سب الناس
بلئيم الأخلاق, وذكرهم بالفواحش والشائنات, وهذا هو الأمر العظيم المشبه بأكل
اللحوم الميتة؛ فأما هفوة في حرف أو زلة في معنى أو إغفال أو وهم أو نسيان؛ فمعاذ
الله أن يكون هذا من ذلك الباب, أو أن يكون له مشاكلاً أو مقارباً، أو يكون المنبه
عليه آثماً؛ بل يكون مأجوراً عند الله مشكوراً عند عباده الصالحين الذين لا يميل
بهم هوى, ولا تدخلهم عصبية, ولا يجمعهم على الباطل تحزب، ولا يلفتهم عن استبانة
الحق حسد. وقد كنا زماناً نعتذر من الجهل؛ فقد صرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من
العلم, وكنا نؤمل شكر الناس بالتنبيه والدلالة؛ فصرنا نرضى بالسلامة، وليس هذا
بعجيب مع انقلاب الأحوال, ولا ينكر مع تغير الزمان, وفي الله خلف وهو المستعان"اهـ
(إصلاح غلط أبي عبيد لابن قتيبة ص 46-47)
الرابعة: قولك:
إن الألباني على عقيدة السلف في الإيمان؛ غير صحيح؛ بل هو على عقيدة المرجئة، وإلا
فَلِم تُكلم فيه دون غيره، وعلام هذه الضجة المقامة حوله؛ فلا يحملنك حبك له
ودفاعك عنه؛ على المحاباة في دين الله، وإنكار الواضحات - وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل - واعلم أن رجلاً من كبار أصحابه، وتلامذته المقربين، وممن
يدافع وينافح كثيراً عنه؛ لم يجد بداً من الاعتراف بأنه وافق المرجئة؛ فلا تكن ملكياً
أكثر من الملك. بل إن الذهن لينتقل إليه مباشرة عند الكلام في المسألة؛ حتى عند من
ينفي ذلك عنه من تلاميذه؛ فها هو أحدهم يكتب؛ فيقول: (فقد كتب بعض الإخوة في
منتديات (الآفاق السلفية) كلمات آلمني سماعها ورؤيتها، وما كان له هداه الله وأصلحه؛
أن يقول ذلك، ونذكره وأمثاله؛ بقوله تعالى: }سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ
وَيُسْأَلُونَ{ ومما قاله هذا الأخ: (حمل الكتاب الذى وضع
المرجئة في موقف حرج). ويقصد؛ كتاب الشيخ عصام السناني وفقه الله لهداه؛ المسمى: (أقوال
ذوي العرفان) وما يدري هذا الأخ؛ أنه يرمي فريقاً من أهل السنة السلفيين قديماً
وحديثاً بتهمة (الإرجاء)، ومنهم – من المعاصرين - الإمام العلامة (كذا) ناصر الدين
الألباني، وتلاميذه الأفاضل. وهناك أمر آخر، وهو أن الكتاب الذي فرح به هذا الأخ؛
قد رد عليه وقام بنقضه ونقده؛ أخوان فاضلان، وشيخان كريمان من تلاميذ الشيخ علي بن
حسن الحلبي! بكتاب عنوانه: (برهان البيان بتحقيق أن العمل من الإيمان) أحصوا فيه
على الشيخ عصام السناني؛ ما يزيد على (60) مؤاخذة، وبينوا الحق بوضوح. وهناك كتب
أخرى مؤلفة في الموضوع، ومنها كتاب (ذم الإرجاء وبراءة أهل العلم والحديث منه
والرد على من رماهم به) للشيخ خالد بن عبدالرحمن المصري وفقه الله"اهـ (منتديات
مرجئة كل السلفيين - المنبر الإسلامي العام)
وعزاه إلى
رسالة بعنوان (إخماد البركان ورد الظلم والبهتان والخلط في مسائل الإيمان) (انظر منتديات
مرجئة كل السلفيين - المنبر الإسلامي العام) ونظرة عابرة في قسم العقيدة بالمنتدى
تنبيك عن ذلك.
فها أنت ترى
إقرار طلابه، والمقربين منه؛ بخطأه في المسألة؛ حتى صار ذلك معروفاً ومشهوراً، ومع
ذلك تقول: "ثم لنفرض أن الشيخ
الألباني أخطأ في هذه المسألة؛ فرضاً وجدلاً؛ لا حقاً وحقيقة". فهل يستقيم
هذا مع ما سبق ذكره، وتواتر عنه؛ فهذه مصادرة منك على المطلوب، وإلا فلم ينازع أحد
في صحة ما نُسب للألباني؛ فلا تنفي عنه ما استقر نسبته إليه، ولم ينكره أحد قط؛ لا
من طلابه، ولا من غيرهم.
واعلم أن بعض أهل العلم قال عنه: إنه وافق الجهمية. ولم يمتعض أحد أو
يعترض؛ أتدري لماذا؟ لأنه على معتقد السلف في هذه المسألة؛ لذا قَبِل الكلام فيه،
ولم يقل: لحوم العلماء مسمومة، ولم يسأل الدويش والتويجري؛ من سبقكما لذلك.
لكن لما كان في الإيمان على عقيدة المرجئة؛ رفض الكلام فيه جملة وتفصيلاً؛
لا لشيء سوى أن تخطئة الألباني تخطئة له؛ فدفاعه ليس
عن الألباني؛ بل عن نفسه وعقيدته في المقام الأول، ولأنه ليس بشيء؛ تترس بالألباني
ليرهب كل من تسول له نفسه؛ بيان عوار مذهبه ([8])
حتى صار الكلام في الألباني - ولو بحق - كالكلام في أصول الدين، وهذا يذكرني بما
ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة (2/166) عن صدر الدين الشافعي؛ حيث كان يقول:
"كنت إذا سمعت شخصاً يقول: أخطأ النووي؛ أعتقد أنه كفر".
فها هو الشيخ
حمود بن عبدالله التويجري رحمه الله؛ يقول منتقداً الألباني: "لم يذكر عن أحد
من أكابر العلماء النجديين أنه أنكر شيئاً مما قرره الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن
أبا بطين في جوابه عن حديث الصورة؛ لا من كان منهم معاصراً للشيخ، ولا من كان بعد
زمانه إلى زماننا؛بل إنهم كانوا متفقين على إثبات الحديث، وإمراره كما جاء؛ وإنما
ظهر الخلاف في زماننا من بعض الوافدين على المملكة العربية السعودية من البلاد
التي قد فشت فيها البدع، وظهرت فيها أقوال أهل الكلام الباطل في تأويل آيات الصفات
وأحاديث الصفات وصرفها عن ظاهرها، وقد حصل من بعضهم قصور شديد، وامتعاض قبيح من
بيان مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تابعهم بإحسان في حديث الصورة،
وأنهم متفقون على الإيمان به، وإمراره كما جاء من غير تأويل؛ مع اعتقاد أن الله
ليس كمثله شيء، وقد أكثر المشار إليه من الشغب والصخب، واللجاج والسعي بالفساد؛
لينصر ما هو مفتون به من إعادة الضمير في حديث الصورة إلى غير الله، وقد نص الإمام
أحمد على أن إعادة الضمير فيه إلى آدم؛ هو قول الجهمية"اهـ
وقال الشيخ
عبدالله بن محمد الدويش رحمه الله: "ولما تأملته - يعني كلام الألباني -
وجدته عارياً عن التحقيق والبرهان؛ بعيداً عن قول أهل السنة والجماعة؛ موافقاً
لقول أهل الضلال الجهمية؛ فنبهت عليه نصحاً للأمة، وخوفاً من الاغترار به، وجعلته
فصولاً؛ الفصل الأول: في رد تضعيفه للحديث؛ الفصل الثاني في رد تأويله للحديث؛
الفصل الثالث: في أن هذا الحديث موافق لقول أهل السنة والجماعة، وتأويله هو قول
أهل البدع والضلال؛ الفصل الرابع: في بيان ما في كلامه من الأخطاء"اهـ
فموقفك هذا، ومواقف
كثير غيرك؛ ممن يزعمون نصرة الألباني والدفاع عنه؛ هو الذي جعلنا نكثر الدندنة حول
هذه المسألة - الأمر الذي نعيته علينا - ومن ثم نتطرق شئنا أم أبينا لذكر الألباني
- وقد وسعنا الإعراض عنه من قبل - بعد أن ركب المنافحون عنه - في الظاهر - كل صعب
وذلول؛ حتى أنكر بعضهم أن يكون قد أخطأ أصلاً، وقال: القول بأن العمل شرط كمال في
الإيمان من أقوال السلف المعروفة، وذهب يتلمس من هنا وهناك ما قد عساه يفيده؛
فالغاية عنده نصرة الألباني - ولو بالباطل - لا نصرة العقيدة السلفية، وقد كان
يسعه أن يقول: أخطأ، وتنتهي القضية؛ لكنهم أبوا إلا الخصومة، والمجادلة المذمومة؛
الأمر الذي دفعني إلى ذكر أخطاءه؛ بعد ما رأيت هذا الغلو الشديد فيه.
ومنهم من
اعترف بخطأه - أي الألباني - لكنه نقم علينا الكلام في المسألة، ولا أدري لماذا؟
ومنهم من أكثر
الدندنة على احترام أهل العلم؛ فأظهرت لهم مقالات الألباني في جماعة من كبار أهل
العلم السلفيين وعلى رأسهم ابن تيمية وابن القيم، وكلامه فيمن خالفه في حديث
الصورة من السالفين والمعاصرين؛ لأبين تناقضهم.
قال أبو شامة
المقدسي: "ومما يتعجب منه - أيضاً - من هؤلاء؛ أنهم يرون مصنفات الشيخ أبي
إسحاق وغيره؛ مشحونة بتخطئة المزني وغيره من الأكابر فيما خالفوا فيه مذهبهم؛ فلا
تراهم ينكرون شيئاً من هذا؛ فإن اتفق أنهم يسمعون أحداً؛ يقول: أخطأ الشيخ أبو
إسحاق في كذا؛ بدليل كذا وكذا. انزعجوا وغضبوا وأنكروا ورأوا أنه قد ارتكب كبيراً
من الإثم؛فإن كان الأمر كما ذكروا؛ فالذي ارتكبه أبو إسحاق أعظم؛ فما لهم لا
ينكرون ذلك ولا يغضبون منه؛ لولا قلة العلم، وكثرة جهلهم بمراتب السلف رضي الله
عنهم"اهـ (خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول ص 144)
الخامسة: قول
الإمام أحمد رحمه الله: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. ([9])
يفسره قول الثوري رحمه الله: "إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر؛ فافعل"اهـ
(الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/142)
فليس المراد من تلك المقولة؛ الرد على المخطئ، أو الكلام في شخص ما؛ جرحاً
أو تعديلاً - وهذا أمر بديهي - إنما المراد: التكلم في المسائل العقدية والفقهية
بما ليس للمتكلم فيه إمام؛ كأن يكون في مسألة ما قولان؛ فيأتي،
ويحدث قولاً ثالثاً.
قال الخطيب رحمه
الله: "إذا اختلف الصحابة في مسألة على قولين، وانقرض العصر عليه؛ لم يجز
للتابعين أن يتفقوا على أحد القولين؛ فإن فعلوا ذلك لم يترك خلاف الصحابة، والدليل
عليه أن الصحابة أجمعت على جواز الأخذ بكل واحد من القولين، وعلى بطلان ما عدا ذلك؛
فإذا صار التابعون إلى القول بتحريم أحدهما؛ لم يجز ذلك وكان خرقاً للإجماع، وهذا
بمثابة لو اختلف الصحابة بمسألة على قولين؛ فإنه لايجوز للتابعين إحداث قول ثالث؛
لأن اختلافهم على قولين إجماع على إبطال كل قول سواه"اهـ (الفقيه والمتفقه
1/173)
أو يتكلم في مسائل
لم تقع بعد؛ أو يفترض مسائل خيالية، أو يتكلم في الأغلوطات، ونحو هذا.
قال ابن رجب
رحمه الله: "ولهذا المعنى كان كثير من الصحابة والتابعين؛ يكرهون السؤال عن
الحوادث قبل وقوعها، ولا يجيبون عن ذلك؛ قال عمرو بن مرة: خرج عمر على الناس؛
فقال: أُحرِّجُ عليكم أن تسألونا عن ما لم يكن؛ فإن لنا فيما كان شغلاً. وكان زيد
بن ثابت إذا سئل عن الشيء؛ يقول: كان هذا؟ فإن قالوا: لا؛ قال: دعوه حتى يكون. وقال
الأوزاعي: إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط؛
فلقد رأيتهم أقل الناس علماً.وقال الهيثم بن جميل: قلت لمالك: يا أبا عبدالله؛
الرجل يكون عالماً بالسنن يجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة؛ فإن قبل منه،
وإلا سكت. أما فقهاء أهل الحديث العاملون به؛ فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب
الله عز وجل، وما يفسره من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان،
وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة صحيحها وسقيمها؛ ثم التفقه فيها،
وتفهمها، والوقوف على معانيها؛ ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في
أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد
والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريقة الإمام أحمد، ومن وافقه من علماء الحديث
الربانيين، وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أحدث من الرأي مما لا ينتفع به،
ولا يقع، وإنما يورث التجادل فيه الخصومات والجدال وكثرة القيل والقال. وكان
الإمام أحمد كثيراً إذا سئل عن شيء من المسائل المولدات التي لا تقع؛ يقول: دعونا
من هذه المسائل المحدثة"اهـ (بتصرف من جامع العلوم والحكم ص172-175)
فهذا ما قصده
الإمام أحمد رحمه الله؛ من قوله: (إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام) لا
كما فهمت أنت وغيرك؛ من أنه لا يجوز الكلام في أي مسألة؛إلا إذا كان المتكلم
مسبوقاً بغيره؛ فهذا فضلاً عن أنه لا يصح في العقول السليمة، والفطر القويمة؛ فيه
دعوة إلى التقليد المذموم الذي جاءت الشريعة بضده.
السادسة: مما
سبق؛ يظهر لك خطأ ما ألزمتني به؛ حيث قلت:"هل قال بهذا القول؛ الشيخ العلامة صالح الفوزان ([10])
أم هل قال به الشيخ العلامة صالح اللحيدان ([11])
هل قال به الشيخ النجمي؟ أو الشيخ زيد المدخلي؟ أما وسعك ما وسعهم؛ أم أنك أدركت
ما لم يدركوا، وظفرت بما لم يظفروا"اهـ
وقد قال عبدالله
بن أحمد رحمه الله: "كان أبي يسمع من محمد بن جعفر الوركاني؛ فمر على حديث
شريك عن سماك عن عكرمة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهودياً ويهودية؛ فقال:
أبي: يا أبا عمران: إنما هذا عن شريك عن سماك عن جابر بن سمرة؛ فلعل شريكاً سبقه
لسانه؛ فقال الوركاني: قد نظر يحيى ابن معين في هذا. فقال أبي: وما يدري يحيى بن
معين؛ فكل شيء يعرفه يحيى! اضرب عليه؛ فضرب عليه"اهـ) طبقات الحنابلة 2/ 279)
وقال محمد بن
يزيد المستملي رحمه الله: "سأل رجل أحمد بن حنبل؛ فقال: أكتب كتب الرأي؟ قال:
لا تفعل، عليك بالآثار والحديث. فقال له السائل: إن عبدالله بن المبارك قد كتبها؟
فقال له أحمد: ابن المبارك لم ينزل من السماء، إنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق"اهـ
(طبقات الحنابلة 1/329)
وقال أبو بكر
المروذي رحمه الله: "سمعت أبا العدبس المروزي؛ يقول: سمعت أبي وعمي يقولان:
كنا عند ابن المبارك؛ فأتاه رجل فسأله عن الشعر؟ فقال: لا تقله. قال: هو ذا أنت
تقول. فقال ابن المبارك: أمرت أن تقتدي بمساوئي. وسمعت محمد بن سرور بن عبدالواحد
القرشي؛ يقول: سمعت أبي يقول: سمعت رجلاً سأل ابن المبارك عن الشعر؛ فقال له: أقول
الشعر؟ قال له ابن المبارك: لا. قال: فكيف تقوله أنت؟ فقال له: أمرت أن تقتدي
بمساوئي، أو بمحاسني"اهـ (أخبار الشيوخ وأخلاقهم ص 167)
فلا تستوحش - يا
أخا الإسلام - من قلة السالكين؛ طالما كنت سالكاً درب الأولين. ولا يهولنك مخالفتي
لغيري، وتفردي - بزعمك - ([12])
فقد قال رجل لعلي رضي الله عنه: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير على الخطأ، وأنت على
الصواب؟ فقال له علي رضي الله عنه: "إنه ملبوس عليك؛ اعرف الحق تعرف أهله".
هذا
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] - وهل الطحاوي ممن يحتج به في مثل هذه المسائل؛ كيف وهو حنفي جلد؛
فمن البديهي أن يلمع إمامه وينافح عنه؛ بمثل هذه الدعوى التي لا يعرف لها أصل.
[3] - إنما فعل ذلك سياسية، وإلا فكل منهج يخالف ما كان عليه أئمة
السلف؛ فهو رد؛ فالخير كله في اتباع من سلف، ولزوم طريقتهم، والشر كله في
الاستدراك عليهم، وادعاء الخلف أنهم اختصوا بفضل دونهم؛ فعلى الخلف أن يسلكوا سبيل
من سلف؛ فإنه يسعهم ما وسع أئمتهم، وأن يقفوا حيث وقفوا، ويقولوا بما قالوا، ويكفوا
عما كفوا عنه، وإلا فلو كان خيراً لسبقونا إليه؛ فالزم أيها السلفي غرزهم، وإن
رفضك الناس، وإياك وآراء الخلف، وإن زخرفوها لك بالقول.
[4] - لا شك أن هذا الفعل ليس من الحكمة في شيء؛ فضلاً عن أن ينسب
للشريعة، ولو فتح هذا الباب؛ لجاز لكل أحد أن يقول: هذا كان له وقته، وانتهى،
والاجتهاد ومصالح الناس يقتضي خلافه.
[5]- بل خيانة عظمى، وجناية كبرى، وطرد هذا واستحسانه؛ يخول لفرق
الضلال؛ أن تحذف من كتب الأصول؛ ما تظن أنه ضلال، وهو في الحقيقة حق لا ريب فيه،
وإن كان لأبي حنيفة حرمة في نظر هؤلاء؛ فحرمة صاحب الكتاب، ومن نقل عنهم من أئمة
السلف أولى، وعدم إظهار الطعن في شخص ما؛ من أجل مصلحة الدعوة، ومراعاة أحوال
الناس؛ شيء - هذا على سبيل التنزل -، والطعن في أئمة السلف من طرف خفي، وأنهم ظلمة
معتدون؛ لا يتورعون عن إطلاق التهم الجزاف، والطعن في الأئمة! شيء آخر؛ فليت شعري!
كيف يطري الشيخ صنيعهم ويستحسنه، وقد خالفوا سلفهم، وافتاتوا عليهم.
[6] - أو لم تكن العقيدة مستقرة من قبل؟! وهل الكلام في أبي حنيفة من
مسائل العقيدة؟! وهب أنه كذلك؛ فعندنا إجماع ثابت بيقين؛ جاء - من جاء – من الخلف
بخلافه، والخلاف الحادث بعد الإجماع لا ينقضه؛ فكيف يُستدل بخلاف الخلف، ويُترك
إجماع السلف؛ أو على الأقل اتفاقهم؟!
[7] - مع ما كان عليه الباقلاني من الفضائل العظيمة، والمحاسن
الكثيرة، والرد على الزنادقة والملحدين، وأهل البدع؛ بل لقد كان ينتسب إلى الإمام
أحمد؛ وأهل الحديث والسلف؛ كالإمام مالك والإمام الشافعي، وغيرهما؛ حتى كان يكتب
في بعض أجوبته: محمد بن الطيب الحنبلي.انظر درء التعارض (2/99-101)
ومع هذا؛ فلم
يشفع له هذا، ولا التفت أحد إليه، ولا عول عليه؛ عند الكلام فيه والتحذير منه؛
خلافاً لما نراه اليوم ممن خالف طريقة السلف؛ ظناً منه أن طريقته في الحكم على
الرجال بالموازنة؛ أعدل وأسلم وأحكم من طريقة السلف الجائرة؛ حيث وصف الباقلاني؛ بأنه
من كبار علماء المسلمين، ومن أهل السنة فيما وافق فيه الصحابة وأئمة السلف، وأنه
أخطأ فيما تأوله من نصوص الصفات، وخالف فيه سلف الأمة.
[10] - سبق ذكر ما نسبه إليه أحد أعضاء منتدى كل السلفيين، وأُقر على
ذلك من قبل الأعضاء والمشرفين، والحق ما شهدت به الأعداء. ونَسب معاذ الشمري؛ إلى اللجنة؛
الطعن في الألباني؛ حيث قال: "وهم لا يصرحون باتهام إمام الدنيا (كذا) الألباني
- تغمده الله بواسع رحمته - بـ (الإرجاء)؛ فإن تصريحهم بهذا يؤذيهم هم!! ولكنهم كالمصرحين
حين قالوا في آخر (فتواهم) للحلبي سدده الله! أن يطلب العلم على (العلماء
الموثوقين المعروفين بعقيدتهم)؛ أو نحو هذه العبارة، وهم - وكل الدنيا - تعلم مدى
التصاق الحلبي أصلحه الله بشيخه؛ شيخنا الألباني رحمه الله؛ فماذا يعني ما قالوه من
نُصحهم له بطلب العلم على (العلماء الموثوقين المعروفين بعقيدتهم) غير الغمز
بعقيدة إمامنا!! رحمه الله"اهـ
وسئل ربيع؛ هل قول الألباني إن العمل شرط كمال، وليس شرط
صحة؛ يجعله مرجئاً؟ فأجاب: ما نقدر أن نقول: إنه مرجئ بهذا الكلام؛ هذا الكلام
يُؤخذ على الشيخ، ولا نقبله؛ نقول: إن العمل جزء من الإيمان؛ لا شرطاً فيه، وهذا
قاله الحافظ ابن حجر، وقاله غيره، وأرجو أن يراجع الشيخ في هذا، ويبين له. وبعدها
يا إخوة ليس كل من وقع في شيء من البدع يسمى مبتدعاً؛ ليس كل من وقع في بدعة نسميه
مبتدعاً"اهـ
وتأمل قوله: "ما نقدر أن نقول: إنه مرجئ بهذا
الكلام"، وقوله: "وبعدها يا إخوة ليس كل من وقع في شيء من البدع يسمى
مبتدعاً".