طعن ربيع المدخلي في أثر عبدالله بن شقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله
وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين ؛؛؛ أما بعد:
فقد قال ابن القيم رحمه الله: "المبرز: من اتبع صراطهم المستقيم،
واقتفى منهاجهم القويم. والمتخلف: من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال؛ فذلك
المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال؛ فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة
رشد لم يستولوا عليها؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذباً صافياً زلالاً،
وأيدوا قواعد الإسلام؛ فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً"اهـ (مقدمة إعلام
الموقعين)
وقال ابن تيمية: "كل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين، ولم يسبقه
إليه أحد منهم؛ فإنه يكون خطأ"اهـ (مجموع الفتاوى 21/291)
وقال الهيثم بن جميل: "قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبدالله؛ إن عندنا
قوماً وضعوا كتباً؛ يقول أحدهم: ثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا.
وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم. قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت:
إنما هي رواية؛ كما صح عندهم قول إبراهيم؛ فقال مالك: هؤلاء يستتابون"اهـ
(إعلام الموقعين 2/140)
وقال رجل للشعبي: "اتفق شريح وابن مسعود؛ فقال الشعبي: "بل تَبِعَ
شريحٌ ابن مسعود، وإنما يتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والناس لهم
تبع"اهـ (ذم الكلام 794)
وبعد:
فقد نشر منتدى
المرجئة (سحاب) مقالاً لشيخهم ومقدمهم ربيع المدخلي؛ يطعن فيه في أثر (عبدالله بن
شقيق العقيلي)!
فمن سبق المدخلي إلى ذلك؟
لا أحد مطلقاً.
لا من أئمة السلف، ومن جاء بعدهم ممن حذا حذوهم من العلماء السلفيين.
ولا من أئمة أهل البدع القدامى، والمعاصرين؛ فها هو الألباني
يصححه في صحيح سنن الترمذي (2114)، وفي صحيح الترغيب والترهيب (564)، وفي حكم تارك
الصلاة (ص 16)
ومع هذا؛ فقد جاء المدخلي بما لم يأت به أحد؛ فطعن - بلا دليل - في الإجماع
الذي حكاه ابن شقيق عن الصحابة؛ فأتى أمراً
إمرا، وارتقى مرتقى وعرا.
قال المدخلي:
"ضعف أثر عبدالله بن شقيق من جهة أخرى، وهي دعواه إجماع الصحابة على كفر تارك
الصلاة؛ تلك الدعوى التي لم تثبت على محك النقد؛ هذا بالإضافة إلى ضعف إسنادها من
طريق بشر بن المفضل عن الجريري عن عبدالله بن شقيق، وذلك أن عبدالله بن شقيق؛ لم يرو
إلا عن عدد قليل من الصحابة"اهـ
وغرضه من ذلك:
تقوية بدعته في الإرجاء؛ لأنه إن صفا له القول: بأن ترك الصلاة مسألة خلافية؛ كان كذلك:
ترك العمل الظاهر؛ فمن ثم لا تثريب على من قال: (من آمن بما أنزل الله، ولم يفعل شيئاً
مما أنزل الله؛ فهو مسلم)، وهو القول الذي افترعه شيخه الألباني، واستحق به أن
يكون زعيماً للمرجئة المعاصرة.
سلف المدخلي:
1-
الألباني:
وأقواله
المكتوبة والمسموعة التي بث فيها إرجاءه - بل تجهمه - كثيرة جداً، وكلها تدور حول ثلاثة
أمور:
الأول: لا كفر
إلا باعتقاد.
الثاني: من
آمن بما أنزل الله، ولم يفعل شيئاً مما أنزل الله؛ فهو مسلم.
الثالث: الذين
يكفرون تارك الصلاة يلتقون مع الخوارج.
2- الحلبي:
المرجئ المعروف، والذي نشر عدة كتب له، ولشيخه الألباني؛ يقرر فيها مذهبه
المزري، وأقواله في ذلك مشهورة، ومما له صلة بما نحن بصدده؛ قوله: "وقد
صح عن الصحابة أنهم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة، وأنا أرى أن
الصواب قول الجمهور، وأن ما ورد عن الصحابة؛ ليس نصاً على أنهم كانوا يريدون
بالكفر هنا؛ الكفر الذي يخلد صاحبه في النار"اهـ (من مقدمته
لكتاب حكم تارك الصلاة للألباني ص 6)
وقوله - مع
خلانه -: "إذا أراد الإجماع؛ فما هو دليله؟ إن قال: أثر عبدالله بن
شقيق العقيلي؛ فنقول: لم يدرك العقيلي هذا - وهو تابعي - رحمه الله؛ إلا أقل من عشرة من
الصحابة! فكيف ينسب لغيرهم ما لم يدركه منهم؛ فأين الإجماع إذاً؟"اهـ
(الأصالة ص 53)
في كتابه: (ضبط الضوابط في الإيمان ونواقضه)، ومما جاء
فيه قوله: "وفي الحقيقة فقد حدا بي لكتابة هذه السطور؛ ما رأيته في بعض تلك
الكتابات؛ من محاولات لوضع ضوابط لبعض مسائل الإيمان والتكفير خلاف الدليل، وما
رأيته كذلك من جرأة البعض على التكفير والنقض بلا دليل، ونسبة ذلك إلى منهج
أهل السنة، ومن وراء ذلك الطعن في بعض أهل العلم واتهامهم بالإرجاء، وعلى رأسهم
محدث العصر العلامة الفقيه ناصر السنة؛ قذى عيون المبتدعة الشيخ ناصر الدين
الألباني، وقد حملهم على هذه التهمة أن الشيخ حفظه الله؛ صرح أن منهج أهل السنة: أن
العمل الظاهر شرط كمال للإيمان، وليس شرط صحة، وأن تارك الصلاة لا يكفر كفراً
أكبر يخرج من الملة، وأن من حكم بغير شرع الله؛ فهو كافر كفرا عملياً، وليس
بخارج من الملة .. وبغض النظر عن صواب رأي الشيخ في مسألة: تارك الصلاة، وكفر
الحاكم بغير ما أنزل الله؛ فإن تبنيه تلك الآراء ليس صادراً عن تأثر ببدعة الإرجاء؛
كما يظن أعشى البصر، وأعمى البصيرة؛ بل اعتماده على ما ثبت من النصوص الشرعية
([2])
وأما ما ذكر من أن العمل الظاهر شرط كمال في الإيمان؛ فهو الحق وإن أبى من
أبى، وهو منهج أهل السنة والجماعة، وليس في نصوص السلف الصالح ما يخالف هذا عند
التأمل"اهـ (من المقدمة ص 1-4 بتصرف)
4- عدنان عبدالقادر:
في كتابه (حقيقة الإيمان
بين غلو الخوارج وتفريط المرجئة)، ومما جاء فيه قوله:
في ص (61):
"الفصل الخامس: نجاة من لم يعمل خيراً قط من المسلمين؛ هو قول جمهور أهل السنة"اهـ
وقوله في ص
(62): "الشيخ الألباني: عمل الجوارح ليس شرطاً في صحة الإيمان؛ لو كان
في قلبه مثقال ذرة؛ فإنه ينجو من الخلود في النار"اهـ
وقوله في ص
(79): "ترك عمل الجوارح بالكلية؛ لا يقتضي تكفيره"اهـ
وقوله في ص
(80): "جمهور العلماء - وليس المرجئة - يقولون: بنجاة تارك جنس عمل الجوارح
من أهل
التوحيد؛ مع كونه جزءاً من الإيمان"اهـ
وله كتاب آخر بعنوان (عدم حجية أثر
عبدالله بن شقيق على إجماع الصحابة؛ دراسة أصولية حديثية)؛ رد فيه أثر عبدالله بن شقيق؛ مع اعترافه بأنه لم يسبق
إلى ذلك!
5- العنبري:
في كتابه (الحكم
بغير ما أنزل الله وأصول التكفير)، ومما جاء فيه قوله: "ولا يكفر المسلم
بقول، أو فعل، أو اعتقاد؛ إلا بعد أن تقوم عليه الحجة، وتزول عنه الشبهة، وتتوافر
شروط التكفير، وتنتفي موانعه؛ لا فرق في ذلك بين الأصول، والفروع"اهـ (ص 61)
وفي كتابه (هزيمة
الفكر التكفيري) ([3])
ومما جاء فيه قوله: "فما زال الفكر التكفيري يمضي بقوة في أوساط شباب الأمة؛
منذ أن اختلقته الخوارج الحرورية"اهـ (التحذير من الإرجاء وبعض الكتب الداعية
إليه ص 32)
الكلام حول أثر
عبدالله بن شقيق:
أولاً: قال
عبدالله بن شقيق العقيلي رحمه الله: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا
يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر؛ إلا الصلاة"اهـ
أخرجه الترمذي
(2622) وابن نصر (948) والحاكم (12) كلهم من طريق بشر بن المفضل؛ عن الجريري؛ عن عبدالله بن
شقيق به، إلا أن الحاكم جعله من قول أبي هريرة؛ قال: أخبرنا أحمد بن سهل الفقيه؛ ثنا قيس
بن أنيف؛ ثنا قتيبة بن سعيد؛ ثنا بشر؛ عن الجريري؛ عن عبدالله بن شقيق؛ عن أبي
هريرة قال: "كان أصحاب ..". وهذا خطأ؛ لأن الترمذي رواه عن قتيبة موقوفاً؛
وهو مقدم بلا مثنوية على قيس بن أنيف؛ فالترمذي إمام، وقيس لا يعرف بجرح أو تعديل؛
ترجم له السمعاني في الأنساب (5206) مادة الونوفاغى، وذكر أنه يروى عن قتيبة بن سعيد، وغيره.
ورجاله ثقات؛
عدا الجُريري؛ فإنهم تكلموا فيه من جهة اختلاطه؛ فنفى إسماعيل بن علية
أن يكون قد اختلط، وقال: "كبر الشيخ فرقَّ"اهـ العلل ومعرفة الرجال لأحمد رواية ابنه عبدالله (3/302)،
والكنى
والأسماء للدولابي (1/396)
وأثبت غيره
الاختلاط.
وعلى كل حال؛
فبشر بن المفضل ممن روى عنه قبل الاختلاط.
قال أبو داود: "أرواهم عن الجريري: إسماعيل بن علية. وكل من أدرك
أيوب؛ فسماعه من الجريري جيد"اهـ (سؤالات الآجري ص 303)
وبشر أدرك أيوباً وسمع منه. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/547) (2276)
وقال ابن رجب: "وممن سمع منه قبل الاختلاط: الثوري، وابن علية، وبشر
بن المفضل"اهـ (شرح علل الترمذي ص 313)
وقال ابن حجر:
"وما أخرج البخاري من حديثه - يعني الجريري - إلا عن عبدالأعلى، وعبدالوارث،
وبشر بن المفضل، وهؤلاء سمعوا منه قبل الاختلاط"اهـ (هدي الساري ص 405) وانظر
الكامل لابن عدي (821)
وقال ابن
الكيال: "وقد روى الشيخان للجريري؛ من رواية بشر بن المفضل"اهـ (الكواكب
النيرات 1/184)
على أن اختلاطه لم يكن فاحشاً؛ قال ابن حبان: "كان قد اختلط قبل أن
يموت بثلاث سنين، وقد رآه يحيى بن سعيد القطان، وهو مختلط، ولم يكن اختلاطاً
فاحشاً؛ فلذلك أدخلناه في الثقات"اهـ (الثقات 6/351)
ورواه ابن أبي شيبة في الإيمان (137) وفي
المصنف (30446)؛ قال: حدثنا
عبدالأعلى؛ عن الجريري؛ عن عبدالله بن شقيق؛ قال: "ما كانوا يقولون لعمل تركه
رجل كفر؛ غير الصلاة؛ فقد كانوا يقولون: تركها كفر".
والخلال في السنة (1378) بلفظ: "ما علمنا شيئاً من
الأعمال قيل: تركه كفر؛ إلا الصلاة"اهـ
وعبدالأعلى بن عبدالأعلى؛ سمع من الجريري قبل أن يتغير.
قال العجلي: "عبدالأعلى من أصحهم
سماعاً؛ سمع منه
قبل أن يختلط بثمان سنين"اهـ (تاريخ الثقات ص 181)
فالأثر صحيح ثابت؛ لا مطعن فيه، ولا مغمز. ومن كذب أهل الصدق؛
فهو الكاذب.
ثانياً: عبدالله
بن شقيق: معظم شيوخه من الصحابة؛ أدرك أكثر من مائتين منهم، وروى عن: عمر، وأبي ذر، والكبار، وعاش إلى ما
بعد المائة؛ عده ابن سعد في الطبقة الأولى
من تابعي البصرة. انظر طبقات
ابن سعد (3004)، والتاريخ الكبير (345)، والجرح والتعديل (376)، وتهذيب
الكمال (3321)، والكاشف
(2777)
قال ابن معين: "عبدالله بن شقيق: ثقة من خيار المسلمين؛ لا يطعن في
حديثه"اهـ (تهذيب الكمال 3321)
ثالثاً: صح عن عدد من الصحابة تكفير
تارك الصلاة، ولا نعلم لهم مخالفاً؛ قال الجصاص:
"القول إذا ظهر عن جماعة من الصحابة، واستفاض، ولم يوجد له منهم مخالف؛
فهو إجماع، وحجة على من بعدهم"اهـ (أحكام القرآن 2/23)
منهم:
1-
أبو بكر
الصديق رضي الله عنه (تعظيم قدر الصلاة 932)
2-
عمر بن الخطاب
رضي الله عنه (الموطأ 101)
3-
علي بن أبي
طالب رضي الله عنه )مصنف ابن أبي شيبة 30436)
4-
سعد بن وقاص
رضي الله عنه (ابن نصر 43)
5-
عبدالله بن
مسعود رضي الله عنه (الطبراني 8940)
6-
معاذ بن جبل
رضي الله عنه (المحلى 1/242)
7-
أبو الدرداء
رضي الله عنه (ابن نصر 945)
8-
حذيفة بن
اليمان رضي الله عنه (صحيح البخاري 758)
9-
أبو هريرة رضي
الله عنه (المحلى 1/242)
10-
جابر بن
عبدالله رضي الله عنه (تعظيم قدر الصلاة 947)
11-
عبدالله بن
عمرو بن العاص رضي الله عنه (مصنف ابن أبي شيبة 24062)
12-
بلال بن رباح
رضي الله عنه (السنة للخلال 394)
13-
ابن عمر رضي
الله عنهما (مصنف ابن أبي شيبة 24087)
14-
ابن عباس رضي
الله عنهما (تعظيم قدر الصلاة 939)
15-
أنس بن مالك
رضي الله عنه (ابن ماجه 1080)
16-
سعد بن عمارة
رضي الله عنه (تعظيم قدر الصلاة 946)
17-
بريدة الأسلمي
رضي الله عنه (الإبانة 875)
قال إسحاق بن
راهويه: "وقد كفى أهل العلم مؤونة القياس في هذا؛ ما سن لهم
النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء من بعده؛ جعلوا حكم تارك الصلاة عمداً؛ حكم الكافر"اهـ
(تعظيم قدر الصلاة ص 611)
رابعاً: ونقل
غير واحد؛ الإجماع على هذا؛ منهم:
الحسن البصري؛
قال: "بلغني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كانوا يقولون: بين العبد
وبين أن يشرك، فيكفر؛ أن يدع الصلاة من غير
عذر"اهـ أخرجه الخلال في السنة (1372) وابن بطة في الإبانة (877) واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1539)
وأيوب السختياني؛ قال: "ترك الصلاة كفر؛ لا يختلف
فيه". أخرجه ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة (978)، والمنذري في الترغيب
والترهيب (831)
وإسحاق بن راهويه؛ قال: "صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛
أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم؛
إلى زماننا هذا؛ أن: تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها؛ كافر". المنذري في الترغيب والترهيب (830)
ومحمد بن نصر
المروزي، وهو من أهل الاستقراء التام، والمعرفة الواسعة بأقوال أهل العلم،
ومواضع الإجماع والنزاع؛ قال الخطيب: "كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن
بعدهم في الأحكام"اهـ (تاريخ بغداد 4/85) وقال ابن حزم: "أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن،
وأضبطهم لها، وأذكرهم لمعانيها ولأحوال الصحابة. ولا نعلم هذه الصفة أتم منها في
محمد بن نصر المروزي؛ فلو قال قائل: ليس لرسول صلى الله عليه وسلم حديث، ولا
لأصحابه؛ إلا وهو عند محمد بن نصر؛ لما بعد عن الصدق"اهـ (سير أعلام النبلاء
14/40)؛ قال: "قد ذكرنا في كتابنا هذا؛ ما دل عليه كتاب الله تعالى، وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من تعظيم قدر الصلاة، وإيجاب الوعد بالثواب لمن قام بها،
والتغليظ بالوعيد على من ضيعها، والفرق بينها وبين سائر الأعمال في الفضل وعظم
القدر؛ ثم ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها،
وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتال من امتنع من إقامتها. ثم جاءنا عن الصحابة رضي
الله عنهم مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك. ثم اختلف أهل العلم بعد ذلك؛
في تأويل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم عن الصحابة رضي الله عنهم في
إكفار تاركها"اهـ (تعظيم قدر الصلاة ص 562)
ويستفاد من كلامه؛ أن:
1-
الخلاف حدث بعدهم.
2-
الحجة أن نقف على ما أجمعوا عليه؛ لا على
اختلاف من جاء بعدهم.
3-
لم يرد عن أحد من الذين لا يكفرون تارك الصلاة؛ أنه رد شيئاً من الآثار
التي جاءت في إكفار تارك الصلاة، أو ما حكاه عبدالله بن شقيق أو غيره من إجماع الصحابة
على ذلك؛ بل غاية ما هنالك؛ أنهم تأولوا ذلك بتأويلين اثنين:
الأول: أن المراد بالكفر هنا: الكفر الذي لا يخلد صاحبه
في النار. وهذا خطأ؛ فإن الكفر الوارد في الصلاة؛ هو الكفر الأكبر المخرج من الملة؛ لأن الكفر
إذا أطلق معرفاً؛ فإنما يراد به الكفر الأكبر لا غير؛ فإن الأصل في الألفاظ حملها
على ظاهرها؛ قال أحمد: "لا
أعرف الحديث إلا على ظاهره، وأما من فسره جحوداً؛ فلا نعرفه، وقد قال عمر: «لا حظ
في الإسلام لمن ترك الصلاة»"اهـ (الجامع للخلال 2/535) وقد
سئل جابر بن عبدالله رضي الله عنه؛
قال: ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم من الأعمال على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ قال: الصلاة". (تعظيم قدر الصلاة 829) ([4])
والثاني:
أن الكفر فى الحديث متعلق بالجحود؛ لا بالترك. وهذا أيضاً خطأ،
وإلا فما فائدة ذكر اختصاص الصلاة بهذا الحكم دون سائر الأركان! ومعلوم أن جحد أي
ركن من أركان الإسلام؛ كفر أكبر. وأيضاً: لو كان الجحود هو المعني هنا؛ لقال: فمن
جحدها فقد كفر! على أن التارك يسمى
جاحداً؛ لأن الجحود هو الامتناع عن أداء الحق الواجب.
قال
ابن تيمية: "الكفر الوارد
في الصلاة؛ هو الكفر الأعظم لوجوه:
أحدها: أن الكفر المطلق؛ هو الكفر الأعظم المخرج عن
الملة؛ فينصرف الإطلاق إليه، وإنما صرف في تلك المواضع إلى غير ذلك لقرائن انضمت
إلى الكلام. ومن تأمل سياق كل حديث وجده معه، وليس هنا شيء يوجب صرفه عن ظاهره؛ بل
هنا ما تقرره على الظاهر.
الثاني: أن ذلك الكفر منكر مبهم؛ مثل قوله: وقتاله كفر،
هما بهم كفر، وقوله: كفر بالله، وشبه ذلك. وهنا عرف باللام بقوله: ليس بين العبد
وبين الكفر. أو قال: الشرك. والكفر المعروف ينصرف إلى الكفر المعروف، وهو المخرج
عن الملة.
الثالث: أن في بعض الأحاديث؛ فقد خرج عن الملة، وفي
بعضها: بينه وبين الإيمان، وفي بعضها بينه وبين الكفر. وهذا كله يقتضي أن الصلاة
حد تدخله إلى الإيمان إن فعله، وتخرجه عنه إن تركه.
الرابع: أن قوله: ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك
الصلاة، وقوله: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه
كفر إلا الصلاة. لا يجوز أن يراد به إلا الكفر الأعظم؛ لأن بينه وبين غير ذلك مما
يسمى كفراً؛ أشياء كثيرة. ولا يقال: فقد يخرج عن الملة بأشياء غير الصلاة؛ لأنا
نقول: هذا ذكر في سياق ما كان من الأعمال المفروضة، وعلى العموم يوجب تركه الكفر،
وما سوى ذلك من الاعتقادات؛ فإنه ليس من الأعمال الظاهرة.
الخامس: أنه خرج هذا الكلام مخرج تخصيص الصلاة، وبيان
مرتبتها على غيرها في الجملة، ولو كان ذلك الكفر فسقاً؛ لشاركها في ذلك عامة الفرائض.
السادس: أنه بين أنها آخر الدين؛ فإذا ذهب آخره ذهب كله.
السابع: أنه بين أن الصلاة هي العهد الذي بيننا وبين
الكفار، وهم خارجون عن الملة ليسوا داخلين فيها، واقتضى ذلك أن من ترك هذا العهد
فقد كفر؛ كما أن من أتى به فقد دخل في الدين، ولا يكون هذا إلا في الكفر المخرج عن
الملة.
الثامن: أن قول عمر: (لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة).
أصرح شيء في خروجه عن الملة، وكذلك قول ابن مسعود وغيره؛ مع أنه بين أن إخراجها عن
الوقت ليس هو الكفر، وإنما هو الترك بالكلية، وهذا لا يكون إلا فيما يخرج عن
الملة.
التاسع: ما تقدم من حديث معاذ؛ فإن فسطاطاً على غير عمود
لا يقوم؛ كذلك الدين لا يقوم إلا بالصلاة. وفي هذه الوجوه يبطل قول من حملها على
من تركها جاحداً. وأيضاً قوله: كانوا لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر، وقوله:
ليس بين العبد وبين الكفر، وغير ذلك مما يوجب اختصاص الصلاة بذلك، وترك الجحود؛ لا
فرق فيه بين الصلاة وغيرها، ولأن الجحود نفسه هو الكفر من غير ترك؛ حتى لو فعلها
مع ذلك لم ينفعه؛ فكيف يعلق الحكم على ما لم يذكر، ولأن المذكور هو الترك وهو عام
في من تركها جحوداً أو تكاسلاً، ولأن هذا عدول عن حقيقة الكلام من غير موجب؛ فلا
يلتفت إليه"اهـ (شرح العمدة 1/81-84)
وأبو بكر الآجري؛ قال: "هذه السنن والآثار في ترك الصلاة وتضييعها؛ مع
ما لم نذكره مما يطول به الكتاب؛ مثل حديث حذيفة، وقوله لرجل لم يتم صلاته: لو مات
هذا؛ لمات على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم، ومثله عن بلال وغيره؛ ما يدل على
أن الصلاة من الإيمان، ومن لم يصل فلا إيمان له، ولا إسلام؛ قد سمى الله عز وجل في
كتابه الصلاة: إيماناً"اهـ (الشريعة 2/653)
وابن حزم؛ قال: "ما نعلم لمن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم مخالفاً
منهم، وهم يشنعون بخلاف الصاحب إذا وافق أهواءهم، وقد جاء عن عمر وعبدالرحمن بن
عوف ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - أن من ترك صلاة
فرض واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد"اهـ (المحلى 2/242)
وابن تيمية؛
قال: "ولأن هذا إجماع الصحابة؛
قال عمر رضي الله عنه؛ لما قيل له، وقد خرج إلى الصلاة: (نعم، ولا حظ في الإسلام
لمن ترك الصلاة) وقصته في الصحيح. وفي رواية عنه؛ قال: (لا إسلام لمن لم يصل).
رواه النجاد. وهذا قاله بمحضر من الصحابة"اهـ (شرح العمدة 1/75)
وابن القيم؛ قال: "وأما إجماع الصحابة: فقال ابن زنجويه: حدثنا عمر بن
الربيع؛ حدثنا يحيى بن أيوب عن يونس عن ابن شهاب؛ قال: حدثني عبيدالله بن عبدالله
بن عتبة؛ أن عبدالله بن عباس أخبره أنه جاء عمر بن الخطاب حين طعن في المسجد. قال:
فاحتملته أنا ورهط كانوا معي في المسجد حتى أدخلناه بيته. قال: فأمر عبدالرحمن بن
عوف أن يصلي بالناس. قال: فلما دخلنا على عمر بيته؛ غشي عليه من الموت؛ فلم يزل في
غشيته حتى أسفر؛ ثم أفاق فقال: هل صلى الناس؟ قال: فقلنا نعم. فقال: لا إسلام لمن
ترك الصلاة. وفي سياق آخر: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة؛ ثم دعا بوضوء فتوضأ
وصلى, وذكر القصة. فقال هذا بمحضر من الصحابة، ولم ينكروه عليه. وقد تقدم مثل ذلك
عن معاذ بن جبل وعبدالرحمن بن عوف وأبي هريرة؛ ولا يعلم عن صحابي خلافهم, وقال
الحافظ عبدالحق الاشبيلي رحمه الله في كتابه في الصلاة: ذهب جملة من الصحابة رضي
الله عنهم ومن بعدهم إلى تكفير تارك الصلاة متعمداً لتركها حتى يخرج جميع وقتها؛
منهم عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل وعبدالله بن مسعود وابن عباس وجابر وأبو
الدرداء, وكذلك روي عن علي بن أبي طالب؛ هؤلاء من الصحابة. ومن غيرهم: أحمد بن
حنبل وإسحاق بن راهويه وعبدالله بن المبارك وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة وأيوب
السختياني وأبو داود الطيالسي وأبو بكر ابن أبي شيبة وأبو خيثمة زهير بن
حرب"اهـ (الصلاة وحكم تاركها ص 53-54)
خامساً: لم ينفرد عبدالله بن شقيق بنقل
هذا الإجماع؛ بل حكاه غيره، وكلهم أئمة، وقد قبل أهل العلم: إجماعات كثيرة؛ دون هذا بكثير؛ لم
يطعن فيها أحد منهم؛ بحجة أن القائل لا بد أن يكون مدركاً لجميع من نقل عنهم؛ لا
سيما إذا كان المنقول مشهوراً ومستفيضاً، ومع عدم العلم بالمخالف. وعبدالله بن شقيق: إنما يحكي عمن عاصرهم ولقيهم
من الصحابة رضوان الله عليهم، وهو الأمر الذي اشتهر واستفاض
عنهم، وشهدت له الأدلة الشرعية، وتلقاه أهل العلم
بالقبول؛ لم ينكره أحد منهم. فلو رُد هذا الإجماع، أو شُكك فيه؛ لفُعل
ذلك مع غيره من الإجماعات، ولا بد، ومن ثم لا يصح لنا إجماع قط.
قال ابن تيمية في مسألة إجماع
الصحابة على انتقاض عهد الذمي بسب النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالفة بعض الفقهاء
في ذلك: "وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ فلأن ذلك نقل
عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها، ويستفيض، ولم ينكرها أحد منهم؛ فصارت إجماعاً. واعلم أنه لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على مسألة فرعية؛
بأبلغ من هذا الطريق"اهـ (الصارم المسلول 1/200)
سادساً: قال أحمد
رحمه الله: لا ينبغي أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا. فقيل له: أرأيت إن
أجمعوا؛ أله أن يخرج من أقاويلهم؟ فقال: هذا قول خبيث؛ قول أهل البدع. (العدة في
أصول الفقه 4/1059)
فإذا كان لا ينبغي للمرء أن يخرج عن أقاويل الصحابة إذا اختلفوا؛ فكيف بمن ترك
إجماعهم، واحتج بخلاف من جاء بعدهم، وأكثره لا يصح؟!
قال ابن
عبدالبر: "لا يجوز عندنا الخلاف عليهم بغيرهم؛ لأن إجماع الصحابة حجة على من
بعدهم، والنفس تسكن إليهم؛ فأين المهرب عنهم دون صفة، ولا أصل"اهـ (الاستذكار
1/355)
سابعاً: ليس معنى نسبة قول لإمام من الأئمة؛ أنه ثابت عنه؛ فمن
المعلوم أن أقوالاً كثيرة نسبت إليهم؛ لا تصح عنهم؛ فكيف وعندنا ما يخالف هذا، وهو
الإجماع الثابت الذي لا معارض له؟ ولو قدر أن هذه الأقوال صحيحة النسبة لقائليها؛
فمعلوم أن الخلاف الوارد بعد الإجماع؛ لا اعتبار له.
قال
ابن تيمية: "وإذا ذكروا نزاع المتأخرين؛ لم يكن بمجرد ذلك؛ أن يُجعل هذه من
مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغاً؛ لم يخالف إجماعاً؛ لأن
كثيراً من أصول المتأخرين محدث مبتدع في الإسلام؛ مسبوق بإجماع السلف على خلافه،
والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعاً"اهـ (مجموع الفتاوى 13/26)
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد
لله رب العالمين
يتبع ....
[1] - وقد تراجع أخيراً، ولكنه بقي يدافع عن الألباني والحلبي، وبقية
مرجئة الشام، ويتولاهم.
[4] - قال
المدخلي: "وهذا الأثر ليس مما يحتج به؛ لأن في إسناده
محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي، وهو مختلف فيه؛ فمن
العلماء من يقول: إنه صدوق، ومنهم من يكذبه. وأعدل الأقوال
فيه؛ قول الإمام أحمد فيه (كذا) لما سئل عنه. فقال: أما في
المغازي وأشباهه فيكتب عنه، وأما في الحلال والحرام؛ فيحتاج إلى
مثل هذا، ومد يده، وضم أصابعه. وقول ابن معين: صدوق وليس بحجة، وقال فيه مرة أخرى:
ليس بذاك؛ هو ضعيف"اهـ
قلت: أما محمد بن
إسحاق: فهو حسن الحديث؛ ما لم يدلس، أو يشذ؛ قال الخطيب: "قد احتج بروايته في
الأحكام قوم من أهل العلم، وصدف عنها آخرون"اهـ (تاريخ بغداد 1/231) وقال
الذهبي: "وأما في أحاديث الأحكام؛ فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة
الحسن؛ إلا فيما شذ فيه؛ فإنه يعد منكراً"اهـ (السير 7/41) وقال ابن حجر:
"ما ينفرد به، وإن لم يبلغ درجة الصحيح؛ فهو في درجة الحسن؛ إذا صرح
بالتحديث"اهـ (شرح البخاري 11/163) واستشهد به
البخاري، وأخرج له مسلم متابعة، واختار أبو الحسن ابن القطان أن يكون حديثه من
باب الحسن؛ لاختلاف الناس فيه. هذا
وقد أطال أبو الفتح اليعمري الكلام عن ابن إسحاق، والاحتجاج بحديثه من عدمه، وذكْر
من تكلم فيه من الأئمة جرحاً وتعديلاً في عيون الأثر (1/12-21) ثم
إنه هنا يروي عن إبراهيم بن سعد، وقد قال الإمام أحمد: "كان ابن
إسحاق يدلس؛ إلا أن كتاب إبراهيم بن سعد إذا كان سماعاً؛ قال: حدثني، وإذا لم يكن
قال؛ قال: قال"اهـ
هذا وقد حسن
إسناد هذا الأثر؛ شيخه الألباني في صحيح الترغيب (367)