بخصوص كلام الفوزان في النووي وابن حجر
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه ؛؛؛ أما بعد:
فقد سئل الفوزان عمن يبدع النووي، وابن حجر؛ فقال:
"هذا هو المُبتدع؛ هذا هو المُبتدع .. وأمَّا الإمام
ابن حجر، والإمام النَّووي؛ فهما إمامان جليلان محدِّثان، ولهما مؤلفات عظيمة
استفاد منها المسلمون، ولا يزال المسلمون يستفيدون
منها، وهم من علماء الحديث؛ فلا يجوز تبديع هذين الإمامين"اهـ
وتعقيباً على
كلامه؛ أقول:
أولاً: "أهل السنة: هم الثابتون على اعتقاد ما نقله
إليهم السلف الصالح رحمهم الله؛ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه رضي
الله عنهم؛ فيما لم يثبت فيه نص في الكتاب، ولا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛
لأنهم رضي الله عنهم أئمة، وقد أمرنا باقتداء آثارهم، واتباع سنتهم .. فمن ثم كان لا بد على كل مدع للسنة؛ أن يأتي بالنقل
الصحيح على ما يقوله؛ فإن أتى بذلك عُلم صدقه، وقُبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما
يقوله عن السلف؛ عُلم أنه محدث زائغ، وأنه لا يستحق أن يصغى إليه، أو يناظر في
قوله".
وإذا ذلك
كذلك: فما قاله؛ لا دليل عليه قط؛ بل مجرد دعوى لا يعجز عنها "من يستجيز
ويستحسن أن يتكلم بلا علم، ولا عدل؛ ثم إنه يدل على قلة الخبرة بمقالات الناس؛ من
أهل السنة، والبدعة".
قال
ابن تيمية رحمه الله: "يأخذ المسلمون جميع دينهم من
الاعتقادات والعبادات وغير ذلك؛ من كتاب الله، وسنة رسوله، وما اتفق عليه سلف الأمة
وأئمتها"اهـ(مجموع الفتاوى11/490)
وقال
رحمه الله: "وإذا ذكروا نزاع المتأخرين؛ لم يكن بمجرد ذلك؛ أن يُجعل هذه من
مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغاً؛ لم يخالف إجماعاً؛ لأن
كثيراً من أصول المتأخرين محدث مبتدع في الإسلام؛ مسبوق بإجماع السلف على خلافه،
والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعاً"اهـ (مجموع الفتاوى 13/26)
ثانياً: أي
منهج سلفي هذا؛ الذي يوقّر أئمة البدع والضلال، ويجعلهم أئمة لأهل السنة، ويعادي
ويوالي فيهم؟! ويطعن في أهل السنة من أجلهم!
ثالثاً: الإمامة
لا تطلق على كل أحد، ولو كان مشهوراً بالعلم؛ متبحراً فيه؛ بل تطلق على من كان
مظهراً للسنة؛ شديداً فيها؛ ذاباً عنها؛ مبيناً حال مخالفيها؛ مجاهداً عليها؛
صابراً على الأذى فيها؛ لم يتلبس ببدعة؛ فمن كانت هذه صفته؛ فهو
الإمام حقاً، وصدقاً، وهذا ما عليه أهل العلم السلفيين؛ فقد كانوا لا يطلقون
الإمامة على كل أحد؛ كما هو حال كثير ممن ينتسب إلى العلم والسلفية اليوم؛ فهذا
السجزي - وهو إمام سلفي - يذكر جماعة من الأئمة؛ ثم يعلق قائلاً: "وكان في
وقتهم علماء لهم تقدم في علوم، وأتباع على مذهبهم؛ لكنهم وقعوا في شيء من البدع:
إما القدر، وإما التشيع، أو الإرجاء؛ عُرفوا بذلك؛ فانحطت منزلتهم عند أهل
الحق"اهـ (بتصرف من رسالة السجزي لأهل زبيد ص 254)
فإطلاق
الإمامة على كل من انتحل العلم، أو اشتهر به، أو صار له أتباع، وأشياع؛ دون النظر
إلى القيود السابقة؛ مجازفة واضحة، ومخالفة صريحة لمنهج السلف الذين كانوا يتشددون
في الوصف بالإمامة؛ فكانوا لا يطلقونها إلا على من يستحقها؛ خلافاً للمتأخرين
الذين أولعوا بالألقاب، وتساهلوا في إطلاقها على كل أحد.
قال الأوزاعي رحمه الله: "كانت أسلافكم تشتد على أهل البدع ألسنتهم,
وتشمئز منهم قلوبهم, ويحذرون الناس بدعتهم، ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس؛
ما كان لأحد أن يهتك عنهم ستراً, ولا يظهر منهم عورة؛ الله أولى بالأخذ بها
وبالتوبة عليها؛ فأما إذا جهروا بها, وكثرت دعوتهم ودعاتهم إليها؛ فنشر العلم حياة,
والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة يعتصم بها على مصر ملحد"اهـ
(البدع والنهي عنها ص 6)
رابعاً: إذا كان النووي وابن حجر - وهما اللذان ما فتأتَ تنافح عنهما
وتنعتهما بالإمامة وترمي بكل سوء من يبدعهما، أو حتى يتكلم فيهما! - أئمة عندك؛
فليت شعري! أهما من أئمة الهدى والسنة، أم من أئمة البدعة والضلالة؟
ولا تستطيع أنت - ولا غيرك - أن تنسبهما إلى السنة؛ لأنهما
أشعريان، والأشاعرة عندك - كما قد تواتر عنك - ليسوا من أهل السنة، ومن لم يكن من
أهل السنة؛ فهو من أهل البدعة ولا بد؛ إذ لا منزلة بين المنزلتين؛ فكيف إذاً تبدع
من يبدعهما؟!
خامساً: إذا
كان لا يجوز - على قولك - "تبديع هذين الإمامين!"؛ فما الذي يجوز
إذن؟!
وصفهما بالإمامة، وإدراجهما قسراً في زمرة أهل السنة؟!
سادساً: قولك: (لا يجوز)؛
حكم شرعي؛ يفتقر إلى دليل ؛ فأين الدليل عليه؛ من الكتاب، أو من السنة، أو من
إجماع سلف الأمة؟!
سابعاً: ليس بعجيب على
من طعن في أئمة السلف من أجل أبي حنيفة؛ معلناً أنه إمامه وقدوته؛ رضي من رضي وسخط
من سخط؛ أن يخالف منهجهم من أجل النووي، وابن حجر.
إنما العجب ممن ينافح عنه، ويقبل منه، ويغار عليه، ولا يقبل
كلمة فيه؛ في الوقت الذي يُهدم فيه منهج السلف، ويُطعن في أئمته.
قال
الترمذي رحمه الله في سننه: "وقد عاب بعض من لا يفهم على أهل الحديث؛ الكلام
في الرجال، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين؛ قد تكلموا في الرجال .. وإنما
حملهم على ذلك عندنا، والله أعلم؛ النصيحة للمسلمين، لا يظن بهم أنهم أرادوا الطعن
على الناس والغيبة، إنما أرادوا عندنا أن يبينوا ضعف هؤلاء لكي يعرفوا؛ لأن بعض
الذين ضعفوا؛ كان صاحب بدعة، وبعضهم كان متهماً في الحديث، وبعضهم كانوا أصحاب
غفلة، وكثرة خطأ؛ فأراد هؤلاء الأئمة أن يبينوا أحوالهم شفقة على الدين، وتثبتاً.
لأن الشهادة في الدين؛ أحق أن يتثبت فيها من الشهادة في الحقوق والأموال. أخبرني
محمد بن إسماعيل؛ حدثنا محمد بن يحيى بن سعيد القطان؛ حدثنى أبى؛ قال: سألت سفيان
الثوري وشعبة ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة؛ عن الرجل يكون فيه تهمة؛ أو ضعف؛ أسكت،
أو أبين؟ قالوا: بين"اهـ
(بتصرف)
وقال ابن
حبان في مقدمة كتابه [المجروحين]: "فهؤلاء الأئمة المسلمون، وأهل الورع في
الدين؛ أباحوا القدح في المحدثين، وبينوا الضعفاء والمتروكين، وبينوا أن السكوت
عنه ليس مما يحل، وأن إبداءه أفضل من الإغضاء عنه"اهـ
قلت: قال
تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}.
ثامناً: إذا
كان لا يوجد عندك تبديع، ولا مبتدع - حيث لم نسمع عنك أنك بدعت أحداً؛ بل التخطئة
فحسب، ومن آخر ذلك موقفك من العريفي المبتدع الضال - فكيف توجه تبديع الأئمة
لجماعة لا يبلغ النووي وابن حجر معشارهم؛ كقتادة، وحسان بن عطية، وعمرو بن مرة,
وذر الهمداني، وابنه عمر، وابن أبي سليمان، وابن عمار، وابن أبي عروبة، وابن سوار،
وابن طهمان، وابن خازم، وابن الحسن، وابن حبان، وابن أبي نجيح، وابن شيبة، وابن
حزم، وابن عقيل، وابن الجوزي، وابن أبي رواد، وابنه عبدالمجيد، وابن خراش، وابن
أبي يحيى، وابن إسحاق، وابن صالح، وابن كلاب، وابن عائذ، وابن كدام، وابن فورك،
وابن اللبان، وأبي حنيفة، وأبي إسرائيل الملائي، وعبدالرزاق، وعبدالجبار، وعبدالقاهر،
وأحمد بن صالح الأزدي، وعلي بن الجعد، وعبيدالله بن موسى العبسي، وحسان بن عطية، وداود،
والمروزي، والكرابيسي، والمحاسبي، والحاكم، وابن حبان، والقلانسي، والصالحي، والأشعري،
والغزالي، والرازي، والجويني، والباقلاني، والشهرستاني، وغيرهم كثير جداً.
فأين مثل
هؤلاء اليوم في علمهم وتصينهم؟!
أيُبدع أمثال
هؤلاء، ولا يُبدع النووي، وابن حجر؟
النووي الذي
يعترف صراحة ببدعته، وبانتسابه إلى الأشاعرة؛ فيقول في مجموعه (1/6): "قال
أصحابنا المتكلمون"؛ فضلاً عن إرجائه، وتصوفه، وتأويله ما لا يحصر - إلا
بكلفة - من صفات الباري عز وجل.
وابن حجر
القائل:
فاشفع
لمادحك الذي بك يتقي ***** من هول يوم الدين والتعذيب
والقائل:
نبي
الله يا خير البرايا ***** بجاهك أتقي فصل القضاء
والقائل:
هذي
ضراعة مذنب متمسك ***** بلوائك من كان وليدا
يرجو
بك المحيا السعيد وبعثه ***** بعد الممات إلى النعيم شهيدا
والقائل:
بباب
جودك عبد مذنب كلف ***** يا أحسن الناس وجهاً مشرقاً وقفا
بكم
توسل يرجو العفو عن زلل ***** من خوفه جفنه الهامي لقد ذرفا
والقائل:
فقل:
يا أحمد بن علي اذهب ***** إلى دار النعيم بلا شقاء
فضلاً عن إرجائه،
وتصوفه، وكلامه في الصفات: تأويلاً، وتحريفاً، وتعطيلاً، واحتجاجه - كصنوه النووي
- بكلام رؤوس الأشاعرة، وأساطينهم.
تاسعاً: أجمع
السلف على أن من يثني على المبتدع، وهو عالم بحاله؛ أنه مبتدع مثله. فليت شعري؛
ماذا يقولون فيمن يرمي بالبدعة؛ من يبدع رموز المبتدعة، ورؤوسهم، ويحاربهم، ويطعن
فيهم؟!
عاشراً: قال
أبو العالية رحمه الله: "عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه؛ قبل أن يفعلوا
الذي فعلوا"اهـ (الحلية 2/218)
وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "وما حدث بعدهم،
فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه
بما يكفي، فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر، لقد قصَّر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم
آخرون فغلوا، وإنَّهم فيما بين ذلك؛ لعلى هدى مستقيم"اهـ (لمعة الاعتقاد ص
42-43)
وقال عثمان بن
حاضر رحمه الله: "قلت لابن عباس (رضي الله عنهما): أوصني؛ قال: عليك
بالاستقامة، واتبع الأمر الأول، ولا تبتدع"اهـ (الإبانة 1/319)
وقال ابن تيمية رحمه الله:
"ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السالفين؛ كما قد يقوله بعض
الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف؛ بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة
المأمور بها من أن: (طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم)"اهـ (مجموع
الفتاوى 5/8)
فكان ينبغي لك؛ أن تعرف قدرك، وتتواضع لعلم السلف الصالح رضوان الله عليهم،
وتقر لهم بالسبق في كل باب من أبواب الدين، وأنهم فوقك في "كل علم واجتهاد
وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من رأينا
عند أنفسنا"، وألا تأتي بشيء يخالف ما هم عليه من العلم، والعمل.
قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله - أحد الأئمة -: "ما نحن فيمن مضى
إلا كبقل في أصول نخل طوال"اهـ
فعليك أيها السلفي بآثار من سلف، وإن رفضك الناس،
وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوها لك بالقول، وإن كانت لا بد مقلداً؛ فعليك بمن مات؛
فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ليس عام إلا الذي
بعده شر منه؛ لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من
أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم؛ فيهدم
الإسلام ويثلم"اهـ
وقال الأوزاعي
رحمه الله: "أما إنه لا يذهب الإسلام؛ ولكن يذهب أهل السنة، حتى لا يبقى منهم
في البلد الواحد إلا الرجل والرجلان، وربما لا يبقى منهم أحد"اهـ
فلله الأمر من
قبل ،ومن بعد، وإنا لله، وإنا إليه راجعون.
وصلى
الله على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين