وقفات مع هشام البيلي
الأولى:
قال البيلي:
هل الألباني قال هذه العبارة؟
هل هي من عبارات المرجئة؟
كيف نحكم على الألباني إذا قالها؟
وهو بهذا؛ يريد الدفاع عن قوله: ]إن الألباني وافق المرجئة لكنه ليس بمرجئ[، وأنه - أي البيلي - لم يكن
مخطئاً حين قال ذلك.
قلت:
بعد ما أثبت البيلي؛ أن عبارة ((العمل شرط كمال))؛ من عبارات المرجئة.
وأن الألباني؛ قد صدرت منه هذه العبارة بالفعل.
أراد أن يحكم عليه بما يستحقه؛ فقال مقولته تلك؛ فخالف طريق السلف، وأتى
بما لم يعرف.
وقد سبق، وألزمته بذكر رجل واحد فقط؛ قال بمثل قول الألباني (الأعمال شرط
كمال)؛ فحكم عليه أئمة السلف؛ بأنه: وافق المرجئة؛ لكنه ليس مرجئاً.
فإن لم يجد، ولن يجد؛ أعلمته أن مجموعة كبيرة من العلماء والمحدثين؛ قالوا
بنفس قول الألباني في الإيمان - هذا على فرض أنه لم يخطئ إلا في هذه المسألة فقط -
فما كان من أئمة السلف رحمهم الله؛ إلا أن رموا كل واحد منهم - بعينه - بالبدعة
والضلالة، وسموه (مرجئاً)، وحذروا منه،
وأمروا بهجره.
كطلق بن حبيب،
وأبي حنيفة، وحماد بن أبي سليمان، وعمر بن ذر، وعبدالعزيز بن أبي رواد، وعمرو بن
مرة، وشبابة بن سوار، وإبراهيم بن طهمان، وعبدالحميد الحماني، وعمر بن قيس الماصر،
وأبي بكر النهشلي، وعبدالكريم بن أبي المخارق، وأبي معاوية الضرير، وعاصم بن كليب،
وسلم البلخي، وخارجة بن مصعب، وأبي الجويرية، وأيوب بن عائذ، وأبي عمر البلخي،
وبشر السختياني، وسالم الأفطس، وشعيب بن إسحق، وغيرهم.
فلم يعتذروا
لهم؛ كما لم يلتفتوا إلى إمامتهم في العلم، والحفظ، ولا إلى موافقتهم لمنهج السلف
في بقية الأصول؛ بل بادروهم بالتبديع، والتضليل، وهكذا حالهم مع كل من خالف أصلاً
من الأصول. و"معلوم أنهم أعظم
اهتداء، واتباعاً للآثار النبوية، وأعظم إيماناً، وتقوى، وأنه لا يكون عند المتأخرين
من التحقيق؛ إلا ما هو دون تحقيقهم، وأنه لا يخالفهم أحد؛ إلا وكان الصواب معهم؛
فتعين أن يكون مذهبهم هو المذهب الحق الذي لا عدول عنه؛
وأن من خالفهم لزمه فساد معلوم بصريح المعقول، وصحيح المنقول".
قال عمر بن
عبدالعزيز رحمه الله (مناقب عمر بن عبدالعزيز لابن الجوزي ص 83-84): "قف حيث
وقف القوم؛ فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى،
وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم؛ فما أحدثه إلا من خالف هديهم،
ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر، وما
دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك
لعلى هدى مستقيم".
وقال مالك رحمه الله: "إن حقاً على العالم أن يكون
متبعاً لآثار من مضى قبله"اهـ (جامع بيان العلم وفضله 1/543-544)
فيا هشام؛ أفي
اتباع أئمة السلف تخشى الضلالة؛ أم في غير سنتهم تلتمس الهدى؟!
الثانية:
قال البيلي: "هذا القول يُمكِن الحدادية من الطعن في الشيخ الألباني".
قلت:
وحتى لا تمكنهم من ذلك؛ نسبت إلى منهج السلف ما ليس منه، ونافحت عن بدعة،
وأصلت لباطل؛ فأين في كلام السلف التفريق بين البدعة، والمبتدع، والاعتذار لمن وقع
في بدعة، والثناء عليه، ووصفه بالعلم والإمامة.
الثالثة:
قال البيلي: "هذا القول إن سكتنا عنه؛ فسوف يُنسب إلى منهج السلف".
قلت:
وكذا قولك: (وافق المرجئة؛ لكنه ليس بمرجئ)؛ إن سكتنا عنه؛ فسوف يُنسب إلى
منهج السلف.
فإذا كانت غيرتك دفعتك إلى أن تنفي هذه المقولة (الأعمال شرط كمال) عن منهج
السلف؛ فقد دفعتنا غيرتنا أيضاً؛ إلى أن ننفي هذه المقولة الإرجائية الخبيثة (وافق
المرجئة؛ لكنه ليس بمرجئ)؛ عن منهج السلف، ونندد بقائليها، ونبين جهلهم بمنهج
السلف، ومنهج ابن تيمية - الذي يحتجون به دائماً، ويدندنون على أنه أعلم بمنهج
السلف، وأفهم لمرادهم؛ من الحدادية الذين يأخذون بظاهر الآثار دون النظر إلى
مراميها - حيث قال: "من عدل عن مذاهب الصحابة
والتابعين وتفسيرهم؛ إلى ما يخالف ذلك؛ كان مخطئاً في ذلك؛ بل مبتدعاً، وإن كان
مجتهداً مغفوراً له خطؤه"اهـ (مجموع الفتاوى 13/361)
فسماه
مبتدعاً؛ مع كونه مجتهداً.
وقال: "والواجب موافقة جماعة المسلمين (في مسألة الاستثناء في الإيمان)؛
فإن قول القائل قطعاً بذلك؛ مثل قوله: أشهد بذلك، وأجزم بذلك، وأعلم ذلك؛ فإذا
قال: أشهد، ولا أقطع؛ كان جاهلاً، والجاهل عليه أن يرجع؛ ولا يصر على جهله؛ ولا
يخالف ما عليه علماء المسلمين؛ فإنه يكون بذلك مبتدعاً جاهلاً ضالاً"اهـ
(مجموع الفتاوى 7/682)
فسماه مبتدعاً؛ مع كونه جاهلاً ضالاً.
وقال: "وأما المرجئة: فلا تختلف نصوصه (أي الإمام أحمد) أنه لا
يكفرهم؛ فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكثير من كلامهم يعود النزاع
فيه إلى نزاع في الألفاظ والأسماء، ولهذا يسمى الكلام في مسائلهم: باب الأسماء.
وهذا من نزاع الفقهاء؛ لكن يتعلق بأصل الدين؛ فكان
المنازع فيه مبتدعاً"اهـ (مجموع الفتاوى 12/486)
فحكم عليهم بالبدعة؛ مع كونه يرى أن كثيراً من كلام مرجئة الفقهاء يعود
النزاع فيه؛ إلى الألفاظ والأسماء؛ لكن لما تعلق بأصل الدين؛ حكم عليهم بالبدعة.
وقال: "هذا مذهب فقهاء أهل الحديث؛ كأحمد وغيره:
أن من كان داعية إلى بدعة؛ فإنه يستحق العقوبة لدفع ضرره عن الناس، وإن كان في
الباطن مجتهداً"اهـ (مجموع الفتاوى 7/385)
فلم يكن
الاجتهاد - عنده - بمانع من تبديعه، واستحقاقه للعقوبة الدنيوية.
وقال: "يكون كل من المتنازعين مبتدعاً، وكلاهما جاهل متأول"اهـ
(مجموع الفتاوى 23/356)
فقرر أن الجهل والتأويل لا يمنعان من التبديع.
وقال: "ومما
أنكر عليهم الناس في النفي بطريقة نفي الجسم؛ أن قالوا: إن هذه الطريقة هي التي
ولدت بين المسلمين اختلافهم في القرآن وكلام الله تعالى؛ حتى صار كثير من الناس،
أو أكثرهم في ذلك؛ إما حائراً، وإما مخطئاً مبتدعاً"اهـ (الصفدية 2/40)
فحكم عليه
بالبدعة؛ مع كونه مخطئاً.
فهذا كلام ابن
تيمية في الجاهل والمخطئ والمجتهد والمتأول؛ نقلناه لنحجكم به، وإلا ففي كلام أئمة
السلف ومنهجهم ما يغنينا عن ذلك.
الرابعة:
قد يقول البيلي: الذي دعاني إلى نفي الإرجاء عن الألباني؛ أنه يقول: إن
الإيمان قول وعمل. والمرجئة لا يقولون بهذا، وقد جاء عن غير واحد من أئمة السلف؛
أن من قال: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؛ فقد برئ من الإرجاء أوله وآخره.
قلت: الآن عرف المرجئة الضلال الآثار السلفية، واحتجوا بها؛ فما لهم لا
يحتجون بتبديع أئمة السلف لكل من وقع في بدعة ظاهرة؟
على كل حال: ليس كل من قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ويقول
بالاستثناء؛ يكون من أهل السنة المحضة.
قال ابن تيمية: "فالمتأخرون الذين نصروا قول جهم في مسألة الإيمان؛
يظهرون قول السلف في هذا، وفي الاستثناء، .. وذلك كله موافق للسلف في مجرد اللفظ،
وإلا فقوله في غاية المباينة لقول السلف"اهـ (مجموع الفتاوى 7/158-159)
فليس المراد إذاً؛ مجرد موافقة السلف في اللفظ؛ بل المراد: موافقتهم في
اللفظ والمعنى؛ فمن وافقهم في اللفظ، وخالفهم في المعنى؛ فليس منهم، وإن زعم أنه
منهم؛ كما هو حال كثير من المرجئة والأشاعرة؛ الذين يوافقون السلف في الظاهر،
ويقولون: الإيمان قول وعمل، ويخالفونهم في المعنى؛ فيخرجون أعمال الجوارح من مسمى
الإيمان، ومن ثم يقولون بنجاة تارك جنس العمل من الخلود في النار لأنه مسلم عندهم
محتجين بأحاديث الشفاعة التي لم يطلع عليها أئمة السلف، واطلع عليها الألباني
والجامي والمدخلي وغيرهم من المرجئة الضلال قاتلهم الله أنى يؤفكون.
قال أحمد بن حنبل: "كان شبابة يدعو إلى الإرجاء، وكتبنا عنه قبل أن
نعلم أنه كان يقول هذه المقالة؛ كان يقول: الإيمان قول وعمل، فإذا قال: فقد عمل
بلسانه؛ قول رديء"اهـ (السنة للخلال 981)
وقال الباقلاني: "واعلم أننا لا ننكر أن نطلق القول بأن الإيمان: عقد
بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان"اهـ (الإنصاف ص 49)
وقال أبو الثناء الماتريدي بعد أن ذكر - مقراً - مذهب السلف في الإيمان:
"إلا أن الأعمال الصالحة ليست بركن أصلي في الإيمان عند أهل الحديث يزول
الإيمان عندهم بزوالها"اهـ (التمهيد لقواعد التوحيد ص 131)
وقال الغزالي: "فإن قلت: قد مال الاختيار إلى أن الإيمان حاصل دون
العمل، وقد اشتهر عن السلف قولهم: الإيمان عقد وقول وعمل؛ فما معناه؟ قلنا: لا
يبعد أن يعد العمل من الإيمان؛ لأنه مكمل له ومتمم"اهـ (قواعد العقائد ص 258)
وقال الجويني: "فإن قيل: فما قولكم في زيادة الإيمان ونقصانه؟ قلنا:
إذا حملنا الإيمان على التصديق؛ فلا يفضل تصديق تصديقاً؛ كما لا يفضل علم علماً،
ومن حمله على الطاعة سراً وعلناً - وقد مال إليه القلانسي - فلا يبعد على ذلك؛
إطلاق القول بأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهذا مما لا
نؤثره"اهـ (الإرشاد ص 399-400)
وقال السبكي: "فإن قلت: فما تقولون فيما ينقل عن السلف من أنه: إقرار
باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان؟ وهذا مستفيض فيما بينهم؛ لا يجحده إلا
المكابرون. قلت: تمهل قليلًا، واسمع ما نلقيه عليك، وإن كان ثقيلاً، واعلم أن
قولهم: .. (عمل بالأركان) يمكن أن يراد به الكف عن ما يصدر بالجوارح؛ فيوقع في
الكفر؛ من السجود للأصنام، وإلقاء المصحف في القاذورات؛ فاضبط هذا؛ فبه يجتمع لك
كلام السلف، والخلف، ولا أدعي أنه حقيقة مراد القوم، غير أني أجوز ذلك"اهـ
(طبقات الشافعية 1/98)